أجرى علماء الفلك في مركز الفيزياء الفلكية في هارفارد سميثسونيان تحليلًا جديدًا ذا تأثير كبير على فهمنا الحالي للكون وتركيبه. سُمّي هذا التحليل بانثيون+ (+Pantheon)؛ تحليلٌ جدّد ثقتنا في بعض النظريات السائدة، وفتح المجال للمزيد من الجدل، والاختلاف حول نظريات أخرى. من أهم إنجازات هذا التحليل إغلاق الباب على بعض الفرضيات الموضوعة التي حاولت تفسير طبيعة الطاقة المظلمة (Dark Energy)، والمادة المظلمة (Dark Matter)، وتسليط الضوء على فرضيات أخرى قد تجبرنا على إعادة النظر في القوانين الطبيعية للفيزياءِ الكونية.

يؤكد تحليل بانثيون+ أن ثلثي مكونات الكون تقريبًا هي طاقة مظلمة، والثلث الأخير هو المواد التي بمعظمها مكونة من المادة المظلمة. وتجب الإشارة أيضًا إلى أن الكون يتوسع بسرعة متزايدة منذ بضعة مليارات من السنين، وهو ما يتوافق تمامًا مع فهمنا للكون في العقود الأخيرة.

يسمى الإطار العلمي الذي يضم الحقائق السابقة جميعها «النموذج القياسي لعلم الكونيات»، وللأسف لم نتمكن بعد بواسطته من التقاط المادة المظلمة والطاقة المظلمة وقياسهما مباشرةً. إذ تبقيان لغزًا من أكبر ألغاز الكون؛ اللغز الذي يأمل الباحثون في هذه الدراسة بالاقتراب من حله.

يقول ديلِن براوت العضو الذي يترأس البحث، وأحد الحاصلين على منحة آينشتاين الدراسية للمتميزين: «يمكننا من خلال نتائج بانثيون+ أن نضع أدق القيود على ديناميكا الكون وتاريخه حتى الآن. راجعنا البيانات بدقة، ويمكننا الآن أن نقول بثقة أكبر مما سبق كيف تطور الكون عبر الدهور، وأن النظريات الحالية الأفضل للطاقة المظلمة والمادة المظلمة ما تزال صحيحةً».

يُعد بانثيون+ أكبر مجموعة بيانات من نوعها على الإطلاق، إذ تتألف هذه البيانات من أكثر من 1500 انفجار نجمي تسمى المستعرات العظمى من النوع 1a أي (Type 1a Supernovae). تحدث هذه الانفجارات عندما تجتمع كتلة كبيرة جدًا حول نجم قزم أبيض (White Dwarf)، ما يؤدي إلى تفاعل نووي حراري جامح. والأقزام البيضاء هي بقايا لنجوم كتلتها صغيرة نسبيًا كشمسنا.

تشعّ المستعرات العظمى 1a بضوء أكثر سطوعًا من مجرات بأكملها، وهو ما يجعلها مرئيةً من على بعد 10 مليارات سنة ضوئية، أو أكثر. يستغل العلماء هذا الضوء الذي يتلاشى كلما ازداد البعد، لتحديد نقاط الزمان والمكان؛ وذلك بمراعاة ظاهرة الانزياح الأحمر التي يزداد فيها طول الموجة، ويقل تواترها بالابتعاد عن المصدر.
بالنظر إلى كل تلك المعلومات نستطيع أن نستنتج كيف توسع الكون على مر العصور، وهذا بدوره يدلنا على طبيعة مكوناته واختلاف كمياتها عبر تلك العصور.

يعود اكتشاف التوسع المتسارع للكون إلى عام 1998 حين قامت مجموعة من العلماء بدراسة مستعر أعظم مماثل من النوع 1a. كان لا بد من وجود طاقة خفية لها تأثير معاكس للجاذبية، أي تتسبب بإبعاد المجرات والنجوم عن بعضها بدلًا من جذبهم. سميت هذه الطاقة بـِ«الطاقة المظلمة»، التي تُعد من الخواص المتأصلة للفضاء الفارغ. والجدير بالذكر هنا أن توسع الكون يُعزى إلى أن محصلة قوى الدفع لهذه الطاقة المظلمة أكبر بكثير من قوى الجذب في الفراغ.

منذ ذلك الحين صدر العديد والعديد من الأبحاث المتعلقة بالطاقة المظلمة والمادة المظلمة، وأصبحت مجموعات البيانات الخاصة بالمستعرات العظمى 1a أكبر وأكبر. يجمع بانثيون+ كل هذه البيانات ويحللها في أكبر دراسة إحصائية من نوعها حتى الآن.

يقول آدم ريس أحد الحاصلين على جائزة نوبل 2011 في الفيزياء من أجل اكتشاف التوسع المتسارع للكون: «إن تحليل بانثيون+ الأخير هذا هو بطرق عدة ذروة العمل المجتهد للمراقبين، والباحثين النظريين في جميع أنحاء العالم على مدار عقدين، لفهم جوهر الكون».

يذكر أن ريس حاصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة هارڤارد، وهو أستاذ جامعي متميز في جامعة جونز هوبكنز (JHU).

تعود بدايات عمل براوت في مجال علم الكونيات إلى أيام دراسته في (JHU)، حيث درّسه آدم ريس، وأشرف عليه. تعاون براوت هناك مع مستشار ريس آنذاك دان سكولنيك، أحد المشاركين أيضًا في هذه الدراسة. إذ بدأ سكولنيك منذ عدة سنوات تحليل بانثيون (Pantheon) الأصلي، الذي شمل حوالي 1000 مستعر أعظم. أما الآن فقد أضاف براوت وسكولنيك، وفريقهما الجديد في بانثيون+ بيانات تعادل نصف البيانات الأصلية. ذاك بالإضافة إلى تحسينات في تقنيات التحليل، وتصحيح العديد من الأخطاء سمحت لبانثيون+ بأن يعطي نتائج تساوي ضعفي الدقة الأصلية.

يقول براوت: «لم تكن القفزة في جودة البيانات، ولا فهمنا الفيزيائي لها لتتحقق لولا وجود هذا الفريق الرائع من الطلاب والمشاركين، الذين عملوا بجد لتحسين كل وجه من أوجه التحليل».

يتكون الكون حسب التحليل الأخير بنسبة 66.2% من الطاقة المظلمة، ونسبة 33.8% تتكوّن من المادة المظلمة والمادة العادية. جمع الباحثون هذه النتائج مع المعلومات التي توصلنا إليها في أبحاث أخرى من أجل التوصل إلى فهم أعمق لمركبات الكون في عصوره المختلفة.

تتشابه هذه الأبحاث في أوجه عدة، فهي جميعًا ذات أدلة قوية ومستقلة. ولكن أكثر ما اهتم به براوت وشركاؤه فيها هو قياسات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.

قدم لنا التحليل نتيجة هامةً أخرى تتعلق بواحد من أكثر أسئلة علم الكونيات الحديث إلحاحًا: ما هو معدل توسع الكون الحالي؟ يعرف هذا المعدل بثابت هابل. توصل العلماء من خلال دمج نتائج بانثيون+ مع مجموعة بيانات أخرى (SH0ES) بقيادة ريس إلى أدق قياس لثابت هابل.

وكانت النتيجة هي كما يأتي: من أجل كل ميغا فرسخ فلكي (Megaparsec)؛ أي 3.26 مليون سنة ضوئية، يتوسع الفضاء في الكون القريب بمقدار 73.4 كم/ثانية.

على الرغم من ذلك فالقياسات الأخرى غير المحلية لعصور مختلفة من عمر الكون تتباين بشكل واضح. من خلال دراسة أقدم ضوء في الوجود؛ أي إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وباعتماد النموذج القياسي لعلم الكونيات، نحصل بتكرار على ثابت هابل أقل بكثير من المعدل الناتج عن دراسة مستعرات عظمى 1a أوظواهر فلكية أخرى. يسمى هذا الفرق الكبير «توتر هابل» (Hubble Tension).

ترفع البيانات من بانثيون+ و(SH0ES) هذا التوتر، فقد تجاوز توتر هابل الحد 5-sigma بالفعل. وهو الحد المهم الذي يستخدمه العلماء لتحديد ما إذا كانت الإحصائيات ذات معنى، أم أنها حدثت بمحض الصدفة (احتمال 1 من مليون لوقوع الحدث بالصدفة). ويدل وصولنا إلى هذه المرحلة إلى أن صعوبات جديدة تنتظر علماء الفلك والباحثين النظريين.

قال براوت: «ظننّا أن من الممكن التوصل إلى أدلة لحل جديد لهذه المشاكل في مجموعة بياناتنا، ولكن ما فعلَته هو أنها أغلقت الباب أمام عدة خيارات كانت ممكنة، ولذلك تبقى هذه الفروقات العميقة قائمةً».

وتابع: «بدأت العديد من النظريات الأخيرة بالإشارة إلى وجود فيزياء غريبة في بداية الكون، ولكن نظريات غير مثبتة كهذه يجب أن تمر بالعديد من الاختبارات العلمية، بالإضافة إلى أن ثابت هابل ما يزال يشكل تحديًا كبيرًا».

يتفحص بانثيون+ تاريخ الكون مجملًا بدقة، ويدرس العديد من الظواهر الفلكية بالغة القدم، أقدمها المستعرات العظمى البعيدة التي وقعت منذ حوالي 10 مليارات سنة، أي عندما كان الكون في الربع الأول من عمره الحالي. إذ قيّدت المادة المظلمة والطاقة الخاصة بتلك المستعرات حينها معدل توسع الكون، ولكن تغير كل ذلك منذ بضعة مليارات من السنين، عندما أصبح تأثير الطاقة المظلمة أكبر من تأثير المادة المظلمة، ما دفع بمكونات الكون بقوة هائلة جعلتها تبتعد عن بعضها بتسارع متزايد.

أردف براوت: «نستطيع بواسطة هذه البيانات مجتمعةً أن ننظر بدقة إلى الكون منذ أن كانت المادة المظلمة تحكمه، حتى أصبحت الطاقة المظلمة مسيطرةً عليه. يوفر هذا التحليل فرصةً نادرةً لمشاهدة الطاقة المظلمة تولد، ثم تقود تطور الكون بمقاييس هائلة حتى يومنا هذا».

يأمل العلماء معرفة المزيد عن طبيعة الطاقة المظلمة، وخواصها من خلال إجراء تحليلات قوية أخرى.

اقرأ أيضًا:

معرفة سرعة توسع الكون اعتمادًا على بيانات تصادم الثقوب السوداء

دحض الاكتشاف الهائل حول وجود مجرات لا تحتوي المادة السوداء

ترجمة: نوار الشيخ

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر