يجعلك نوع من الهلوسات النادرة ترى الأشخاص أقزامًا دون تفسير، يستطيع الدماغ بكل تعقيده العظيم أن يخلق تجارب مميزة حقًا.

يعني هذا للبعض رؤية هلوسات لأقزام مفعمة بالحياة أمام أعينهم، قد تكون هذه الهلوسة القزمية مسلية لبعضهم، مثيرة للرعب لبعضهم الآخر، والمعلومات حول هذه الرؤى البصرية الصغيرة أو القزمية قليلة في المراجع العلمية، في الحقيقة حاول قلة من الباحثين معرفة الأسباب وراء هذه التجربة الغريبة.

ما الهلوسة القزمية؟

في بدايات القرن العشرين، اهتم الطبيب النفسي الفرنسي راؤول ليروي بمقارنة مشاهدات الشخصيات البشرية مع نظيرتها لدى السكان الأقزام لمملكة ليليبوت في الرواية الشهيرة «رحلات غوليفر» لجوناثان سويفت، فقد كانت بالنسبة إليه لغزًا يجب تفسيره علميًا.

كتب ليروي: «لا تندرج هذه الهلوسات تحت أي نوع من أنواع الاضطرابات البصرية التي تسبب رؤية الأشياء أصغر مما هي عليه، فالمريض تحت تأثير هذه الاضطرابات لديه تصور طبيعي عن حجم الأشياء المحيطة به، أي إن رؤية الأشياء الصغيرة يقتصر على الهلوسة فقط، وقد تحدث بمفردها أو قد ترافقها اضطرابات نفسية-حسية أخرى ».

لُوحظ تنوع الحالات التي عالجها ليروي رغم قلّتها، وأشار إلى أنه عمومًا كانت الرؤى ملونة وكثيرة الحركة وغالبًا لطيفة، وترجع أحيانًا لشخصيات فردية، لكنها ظهرت لدى أغلب المرضى في مجموعات تتفاعل مع العالم الحقيقي كأنها حاضرة فيه، تتسلق المقاعد وتنسل تحت الأبواب وتخضع لقوانين الجاذبية.

لم تكن كل التجارب سلمية. ذكر ليروي في إحدى دراساته امرأة خمسينية تعاني إدمان الكحول، زعمت أنها رأت رجلين بحجم الإصبع بملابس زرقاء يدخنون السجائر ويجلسون على أسلاك التلغراف، وأنها في أثناء مشاهدتهما سمعت صوتًا يهددها بالقتل، وفي تلك اللحظة تلاشت الرؤيا وفرّت المريضة.

كتب ليروي: «في نقاشاتي السابقة ضمن المجتمع الطبي النفسي، ذُكر أن الهلوسات ذات طابع ممتع، فالمريض ينظر إليها بمزيج من المتعة والدهشة، لكن في بعض الحالات كانت الهلوسات مثيرة للرعب».

ما نرفضه بوصفه مجرد وهم فسره ليروي بأنه أعراض محتملة لمرض عقلي، وهي جديرة بالتصنيف كي يتمكن الأطباء من التوصل إلى طرق أفضل لتشخيص الحالة وعلاجها.

اقتداءً بعمل ليروي، حاول بعض علماء النفس تفسير ظاهرة الهلوسة القزمية، واقتصرت أغلب التفسيرات على فرضيات غير قابلة للتطبيق، تتضمن آلية العمل الغامضة للدماغ الأوسط، أو نوع من آليات الدفاع غير الواعية وفقًا لفرويد.

رغم هذا الاهتمام المبكر، لم تمثل الهلوسة القزمية معيارًا لمرض محدد في التصنيف الإحصائي للأمراض والمشكلات الصحية، وتُعد غالبًا نوعًا من الهوس العشوائي للدماغ.

تعد متلازمة تشارلز بونيه من الاستثناءات البارزة، وهي مرض نادر ترتبط فيه الهلوسة بفقدان البصر، وقد لا تكون هلوسة قزمية دائمًا، فقد تكون ومضات أو أشكالًا هندسية أو خطوطًا.

وجدت دراسة أجريت عام 2021 على عينة من المتطوعين المصابين بمتلازمة تشارلز بونيه أن هلوساتهم ازدادت تواترًا خلال جائحة كوفيد -19، غالبًا بسبب ظروف الوحدة المرتبطة بالإغلاق، وفي بعض الحالات تطورت أحجام الهلوسات القزمية لتقارب مقاييس البشر العاديين.

رغم العمل المثمر لليروي، والتقدم المحقق في فهم العديد من الحالات العقلية، من المدهش أننا لا نعرف سوى القليل عن أسباب الهلوسة القزمية.

حديثًا، سعى جان ديرك بلوم، الباحث في مجال الاضطرابات النفسية في جامعة ليدن، لتغيير ذلك، بإجراء بحث دقيق عن تقارير حالات الهلوسة القزمية المسجلة في المراجع الطبية الحديثة.

بعد بحث دقيق، جمع بلوم 26 ورقة بحثية ذات قيمة عن الهلوسة القزمية، يقدم 24 منها وصفًا دقيقًا للحالة. كتب بلوم: «خلال الثمانينيات والتسعينيات، ندُر النشر عن الحالات الجديدة، وخرج البحث في مسألة سبب الهلوسة القزمية عن دائرة الاهتمام».

رغم بعض الاهتمام المتجدد بالظاهرة على مدى العقدين الماضيين، لم يتغير الوضع عمومًا، لذلك تحول بحث بلوم نحو مراجع تاريخية أقل سريرية، تتضمن فصول الكتب والأطروحات الطبية، ووضع في النهاية مرجعًا يضم 226 حالة.

تنوعت الحالات بين ذكور وإناث وتراوحت الأعمار بين 4 أعوام و90 عامًا، تتمثل العوامل المشتركة بين الحالات في الإبلاغ عن هلوسات لأقزام بملابس ملونة وبشخصيات غريبة، إذ لم تكن الهلوسات ظلالًا غامضة في زاوية مجال الرؤية، بل سيركًا نابضًا بالحياة من مهرجين وجنود يقفزون حول المكان، وأبلغت بعض الحالات عن رؤى كئيبة وظلال باهتة بنية أو رمادية، ورأى بعضهم الآخر وجوهًا مألوفة، تتضمن رؤى ذاتية، أي أن يرى المرء نفسه بصورة قزم، وفي خُمس الحالات كانت الرؤى مصحوبة بهلوسات سمعية.

لم تقتصر الهلوسات على رؤية البشر، إذ أبلغ المرضى عن رؤية حيوانات كالدببة أو الخيول، وكانت 97% من الحالات إسقاطات ثلاثية الأبعاد تتماهى مع العالم الحقيقي، في حين كانت البقية إسقاطات سطحية ثنائية البعد، وقد تتحرك تبعًا لحركة المريض.

أثارت التجربة لدى نصف الحالات تقريبًا مشاعر سلبية من الخوف أو القلق، وخلافًا لتقديرات ليروي، شعر الثلث فقط بالمتعة والتسلية، وعبّر مريض واحد فقط مصاب بالاكتئاب أن الرؤى كانت مصدر سرور له.

بالانتقال إلى تقارير التشخيص السريري، صنف بلوم عشر مجموعات مميزة، أبرزها الاضطرابات النفسية وأعراض الانسحاب الكحولي أو الدوائي وآفات الجهاز العصبي المركزي.

من المحتمل وجود دور للجهاز البصري الدماغي في الحالة، وتدعم ذلك صور الرنين المغناطيسي للمرضى الذين يعانون متلازمة تشارلز بونيه، لكن ما زال السبب المحدد غير معروف.

يقترح بلوم أن فقدان المدخلات الحسية المحيطة ينشط عمل أجزاء الدماغ المشاركة عادةً في معالجة المعلومات، فتجمع معًا المنبهات القليلة المتوفرة مشكّلةً مشهدًا من الحشود والألوان.

يدعم هذه الفرضية حقيقة شيوع الحالات بين المصابين بمتلازمة تشارلز بونيه، إضافةً إلى وجود الرؤى بين المصابين باضطرابات عصبية كمرضى باركنسون، الذين يبلغون أحيانًا عن هلوسات في الإضاءة الخافتة.

تفسير آخر للظاهرة هو اقتحام الأحلام، إذ تظهر الرؤى الخفية تحت غطاء من التصورات اليومية، وتختلط مع الواقع بطرق غريبة وشاذة، وتُعد مزيجًا من الظواهر العصبية أو ما يشبه الذكريات، أو إعادة تفسير للمظاهر الحسية، مثل عوامات العين التي نراها في زاوية مجال الإبصار.

قد تبدو هذه التجارب مدهشة إذ تشبه القصص الخيالية أكثر مما تشبه أعراضًا لحالات عصبية، نظرًا لارتباط الأقزام بقصص الجن والحكايات والأساطير. لكن ربما سيتغير ذلك يومًا ما، إذ يفسر المزيد من المعرفة حول آلية عمل الدماغ حل هذا اللغز.

اقرأ أيضًا:

إحدى عشرة حالة مرضية قد تسبب لك الهلوسة

ماذا يحدث في الدماغ أثناء الهلوسة ؟

ترجمة: حيدر بوبو

تدقيق: يمام بالوش

المصدر