تجتمع مقومات الحياة الأساسية من تلقاء نفسها في ظل الظروف المناسبة. تُسمى هذه الفرضية بالتولد أو النشوء التلقائي. لكن معظم تفاصيل هذا النشوء مجهولة بالنسبة لنا، ولا نعلم بالضبط كيفية حدوثه أو إمكانية تكراره. تختلف أديان العالم في تصورها لنشأة الحياة، إذ تفترض وجود أنواع مختلفة من الآلهة ذات قوى خارقة للطبيعة، لتفسير أصل الحياة. لكن الحكايات الدينية -مع تشويقها- غير مُقنعة للكثيرين.

بحث جديد يفترض أن الحياة شائعة في جميع أنحاء الكون فقط ليس بالقرب منا - التولد أو النشوء التلقائي - تفسير أصل الحياة - تاريخ البشرية

ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا في تاريخ البشرية، الذي يحاول العلم في دأب أن يجد إجابة له: «كيف بدأت الحياة؟»

أحد الباحثين عن إجابة السؤال هو (تومونوري توتاني)، أستاذ علم الفلك في جامعة طوكيو، الذي كتب ورقةً بحثيةً جديدة بعنوان: نشأة الحياة في كون تضخمي Emergence of life in an inflationary universe. نُشرت في مجلة Nature.

يعتمد البحث على مفهومين اثنين، الأول هو عمر الكون السحيق ومساحته الشاسعة، وكيف تضخم مع مرور الوقت. والثاني هو الحمض النووي الريبوزي RNA، وكم يجب أن يبلغ طول سلسلة النيوكليوتيدات لنتوقع «نشاط نسخ ذاتيًّا».

يدرس البحث مكونات الحياة الأساسية على الأرض، وهي الحمض النووي الريبوزي RNA، والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA. يحدد DNA القواعد التي تُشكّل صفات الحياة الفردية، لكنه أعقد من RNA.

ومع أن RNA أعقد وأكبر حجمًا من المواد الكيميائية الخام والجزيئات الموجودة في الفضاء أو على سطح الكواكب والأقمار. لكن بساطته مقارنةً بـ DNA ترجح تكوينه من طريق التولد التلقائي.

تُعرف إحدى نظريات التطور باسم نظرية التطور القائم على RNA (RNA-based evolution)، إذ يحمل DNA التعليمات لبناء الكائن الحي، في حين ينظم RNA نَسخ تسلسلات DNA. وفقًا لهذه النظرية، يخضع RNA لانتقاء دارويني طبيعي، إضافةً إلى قابليته للتوريث.

تسوق النظرية المبررات المنطقية التالية:

RNA هو سلسلة من المواد الكيميائية المعروفة باسم نيوكليوتيدات، ويتراوح طول السلسلة النيوكليوتيدية بين 40 و100 نيوكليوتيدة على الأقل ليبدأ النسخ الذاتي -أو (الحياة)- بالتشكل.

ومع مرور الوقت، يبلغ طول السلسلة الحد المطلوب لبدء النسخ الذاتي. لكن السؤال هنا: هل مر زمن كاف على الكون لتوجد فيه الحياة؟ ولما كنا موجودين، فالإجابة لا بد أن تكون «نعم».

لكن تذكر ورقة بحثية جديدة: «إن التقدير الحالي لوجود عدد 40 – 100 نيوكليوتيدة، غير ممكن في مساحة الفضاء التي نعتبرها الكون المرئي».

ولنتوقف هنا عند مصطلح (الكون المرئي). يرى توتاني أنه يوجد ما هو أكبر من الكون المرئي. ومن المعروف في علم الكونيات المعاصر أن الكون مر بفترة تضخم سريعة نتج عنها مساحة شاسعة تتجاوز أفق ما يمكننا رصده، وأخذ هذه المساحة الشاسعة في الحسبان عند دراسة نماذج التولد التلقائي يزيد كثيرًا فرص وجود حياة.

نشأ الكون من طريق الانفجار العظيم. ووفقًا لورقة توتاني، ربما يحتوي كوننا أكثر من 10 مرفوعًا للأس 100 نجم شبيه بالشمس، في حين أن الكون المرئي يحتوي على 10 مرفوعة للأس 22 نجم فقط.

نعلم أن الحياة نشأت مرةً واحدةً على الأقل، إذن فليس من المُستبعَد أن تحدث عملية التولد التلقائي مرةً أخرى، وإنْ كانت فرصة حدوث ذلك ضئيلة للغاية.

تكفي كمية المادة الموجودة في الكون المرئي لإنتاج سلسلة RNA بطول 20 نيوكليوتيدة فقط، أي أقل كثيرًا من 40 – 100 نيوكليوتيدة المطلوبة لبدء النسخ الذاتي. لكننا لا نرى أكثر الكون، بسبب سرعة التضخم الكوني، فالمسافات شاسعة جدًّا لدرجة تجعل من المستحيل أن يصل الضوء الصادر من الانفجار العظيم إلينا.

بجمع عدد نجوم الكون المرئي مع الكون غير المرئي، نجد أن العدد الكلي هو 10 مرفوعة للأس 100 نجم شبيه بالشمس. ما يعني وجود كمية من المادة أكبر بكثير من تلك الموجودة في كوننا المرئي، وأن التولد التلقائي لسلاسل RNA بطول كافٍ ليس ممكنًا فقط بل محتمل، وربما حتمي.

يقول توتاني: «توجد علاقة كميّة بين الحد الأدنى لطول RNA المطلوب لتكوين أول البوليمرات الحيوية من جهة، وحجم الكون اللازم لتوقع تشكّل سلسلة RNA طويلة ونشطة من خلال إضافة مونومرات عشوائيًّا من جهة ثانية».

أمر معقد، أليس كذلك؟ إليكم ملخص مُبسّط:

يمتد الكون لمساحة أكبر مما نستطيع رصده، ويحتوي غالبًا 10 مرفوعة للأس 100 نجم شبيه بالشمس. وحتى يصل احتمال التولد التلقائي لـ RNA على كوكب شبيه بالأرض إلى واحد، يجب أن يكون الحد الأدنى لطول النيوكليوتيد أقل من 20، وهذا أقل من الحد الأدنى اللازم للتولد التلقائي، وهو 40 نيوكليوتيدة.

لا يعتقد العلماء أن سلسلة RNA بطول 20 نيوكليوتيدة كافية لبدء التولد التلقائي، على الأقل من وجهة نظرنا بوصفنا مراقبين للحياة الأرضية. يضيف توتاني: «لذلك إذا اكتُشفت في المستقبل كائنات حية غير أرضية أو ذات أصل مختلف عن تلك الموجودة على سطح الأرض، فهذا يعني وجود آلية لا نعرفها لبلمرة النيوكليوتيدات أسرع بكثير من العمليات الإحصائية العشوائية».

كيف ستكون تلك الآلية؟ لا نعلم، قد تكون لحظة تحول، يصيح فيها المؤمنون قائلين: «هذا بالتأكيد صنيع الله».

لكن البحث لا يقدم إجابةً حاسمة لذلك، فهو كغيره من الأبحاث يطرح أسئلةً ويحثنا للبحث عن إجابات.

يختتم توتاني حديثه قائلًا: «مثل كثيرين في مجالي، يدفعني الفضول إلى البحث عن إجابات للأسئلة الكبرى. إن بحثي الأخير في مجال الحمض النووي، وتاريخي الطويل في علم الكونيات يقودانني إلى الاعتقاد بوجود طريقة منطقية سمحت للكون بالانتقال من حالة انعدام الحياة إلى الحالة الحيوية. وهي فكرة مثيرة أتمنى أن تُبنى عليها أبحاث أخرى لنتمكن من اكتشاف أصل الحياة».

اقرأ أيضًا:

ما هو مصير الحياة في الكون ؟ بقلم: لورانس كراوس

وفقًا للتطور.. قد يكون البشر صورة الحياة الذكية الوحيدة في الكون

الحياة في الكون: هل هناك غيرنا؟

ترجمة: محمد رشود

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر