القمر.. صديقنا القديم الذي أضاء دروب المسافرين وسماء ليلنا جميعًا، والذي ساعدنا في تقسيم الوقت عبر دورته المنتظمة بين طور الهلال والبدر ثم المحاق.

وقف بجانبنا على الدوام حتى في أحلك الأوقات بضيائه الأبيض، وليس من المستغرب أن يخافه الانسان قديمًا بسبب احمراره في الخسوف،نحن نعلم اليوم بأن هذه الظاهرة الغريبة ما هي إلا وقوف الأرض بين الشمس والقمر، فتحجب ضوء الشمس عن القمر ما يمنع انعكاس هذا الضوء عن القمر ليختفي حتى انقضاء وقت الخسوف، بمعنى أن تبتعد الأرض وتسحب ظلها عن القمر.

يرى معظمنا أنه من الرائع مراقبة هذا الحدث، ونحن في الغالب لا نخشى أن يكون الخسوف فألًا سيئًا، عدا عن أولئك الذين يؤمنون بنبوة قمر الدم في الكتاب المقدس التي تنذر بنهاية الأيام.

تاريخيًا وبحسب ما كتب جورج تشامبرز في كتابه: “قصة الخسوفات The Story of Eclipses” فإن اختفاء القمر ومايصاحبه من لون دموي خلال الخسوف، كان مثيرًا للقلق بشدة، لدرجة أن بعض القصص عن قمر الدم عاشت لآلاف السنين.

أول خسوف كامل مسجل في التاريخ:

يقول جورج تشامبرز: «إن أول خسوف كامل مسجل في التاريخ كان في الصين، فقد حدث في التاسع والعشرين من شهر يناير من عام 1136 قبل الميلاد» واعتمد تشامبرز في ذلك على كتاب (تشو تشو) وهو كتاب سلالة تشو للسجل الذي بقي مدفونًا في قبر الإمبراطور لعدة قرون حتى عثر عليه في عام 280 للميلاد، ويعود تاريخه لفترة الممالك المتحاربة في الصين.

الآلهة تحذركم من مصيبة كبيرة:

في السابع والعشرين من آب من العام 413 قبل الميلاد، أو في السنة الرابعة للأولمبياد الحادي والتسعين للتقويم الإغريقي القديم، قاد خسوف للقمر جيش أثينا إلى كارثة كبيرة.

إذ كانت القوات على أعتاب مدينة صقلية وتحارب قواتها بشكل ضعيف، فضرب المرض بين صفوف الجيش الإغريقي وقرر قائدهم نيكلاس ترك جزيرة صقلية على الفور، وكتب بلوتر اش (كاتب مشهور آنذاك):

«كنا قد جهزنا كل شيء للهجوم، ولم يبدِ العدو أي انتباه لتحركاتنا، ذلك لأنهم لم يتوقعوا أيًا منها، ولكن في ليل ذلك اليوم حدث خسوف للقمر، الأمر الذي أثار الرعب في قلوب نيكياس وجنوده بسبب الجهل أو الخرافات التي تقول بأن الآلهة تحذر من مصيبة كبيرة، كما حدث كسوف للشمس خلال الالتحام بين الطرفين وعلى الرغم من امتلاك البعض لفكرة أن الشمس والقمر مترابطان بطريقة ما ولكن لم يتمكن أحدٌ وَقْتَئِذٍ من تشكيل مفهوم واضح لتلك الظواهر».

الطبيب بروفيدنس وكسوف الساحرة:

يحكي إدوارد تشيرتون، رجل دين وعالم في القرن التاسع عشر، قصةً تعتبر أولى محاولات الوصول إلى السلطة عن طريق الأخبار الزائفة، كما عرف عن رئيس الأساقفة توماس برادواردين محاولاته في استخدام علم الفلك لإبطال شعوذة ساحرة.

وإليكم القصة كما رويت:

في إحدى ليالي الصيف الجميلة من عام 1349، وخلال خسوف للقمر ادعت إحدى المشعوذات بأنها السبب في غياب القمر، وقالت: عوضوني بشكل جيد وإلا أخذت نور الشمس منكم!

درس الفيلسوف والرياضي برادواردين مع فلكيين عرب وألف تخمينات الخسوف والكسوف، فلم يكن لتنطلي عليه خدعة كتلك، فأجابها: «أخبرينا، في أي وقت ستفعلين ذلك؟ ونصدق قولك فعلًا! ولكن إن لم تخبرينا سأخبرك أنا في أي وقت ستغيب الشمس أو القمر».

وهنا أثبت برادواردين بأن السحر الحقيقي ماهو إلا سحر المعرفة!

خدعة قمر الدم:

في العام 1504، قام كريستوفر كولومبوس بخدعة ليست بغريبة عن خدعة المشعوذة في القرن الرابع عشر، ولكنه اعتمد في خدعته على معرفة برادواردين في مواقيت الخسوف والكسوف، وكما يشرح لنا دوكان ستيل في كتابه “الكسوف، الظاهرة السماوية التي غيرت مجرى التاريخ” فيقول:

«في شهر حزيران من عام 1503 أصاب داء الديدان سفينتين لكولومبوس من أصل أربعة، الأمر الذي أجبره على النزول إلى شاطئ جزيرة الكاريبي والتي تعرف الآن “جامايكا”.

فقام سكان الجزيرة الأصليين (شعب الأرواك) بضيافة ضيوفهم غير المدعوين لفترة امتدت لستة أشهر متواصلة، ما أثار حنق الأرواك أخيرًا وتوقفوا عن تقديم السمك والكسافا (ثمرة تشبه البطاطا) للبحارة الإسبان، فغضب بحارة كولومبوس وقاموا بذبح الأرواك وسرقوا الطعام.

كان كولومبوس على علم بتوقيت الخسوف بعد ثلاثة أيام وكان عليه أن يفعل شيئًا، فأخبر زعيم الأرواك بأن الإله المسيحي غاضب مما فعله الأرواك وسيظهر انزعاج الإله قريبًا، وبالفعل وبعد ثلاثة أيام غاب القمر فجأة وانقلب لونه أحمر غاضبًا، ارتعب الأرواك وجاؤوا إلى كولومبوس طالبين منه أن يتحدث إلى إلهه ليعفو عنهم.

تظاهر الإسبان بأنهم يأخذون مطالب الأرواك على محمل الجد، انتظر كولومبوس وبحارته في السفينة ريثما يبتعد القمر عن ظل الأرض، وأخيرًا خرج لهم كولومبوس وقال بأنه طلب السلام والعفو عن الأرواك مقابل أن يظلوا مضيافين للإسبان.

عاد الإسبان إلى بلادهم بعد سنة ونصف تقريبًا، ولم تمض فترة قصيرة حتى بدأت حملات الاستعمار الإسبانية بغزو الكاريبي وشمال وجنوب الأراضي الأمريكية.

لو أن كولومبوس لم يقم بخداع الأرواك لما تمكن من العودة ولأصبح العالم مختلفًا بشكل كبير عما هو عليه اليوم.