تُعرف عصور ما قبل التاريخ بالفترة التي سبقت معرفة الإنسان بالقراءةِ والكتابة، وهي الفترة التي امتدّت على مدار آلاف السنين. وبعيدًا عن نظرتنا التقليديّة للطب، منذ آلاف السنين بدا الطب مختلفًا تمامًا عمّا نعرفه الآن.

بالرغم من أنّ علماء الأنثروبولوجيا لم يكتشفوا بعد كيف كان الطب في هذه العصور، فإنّ بإمكانهم التخمين استنادًا إلى البقايا البشريّة التي عُثر عليها، وكذلك عن طريق القبائل البدائيّة الموجودة اليوم.

آمن الناس خلال هذه العصور بوجود مزيجٍ من الأمور الطبيعيّة والخارقة التي بإمكانها تسبيب الأمراض، وتقديم العلاج لهم.

البحث الطبيّ

لعبت التجارب والأخطاء دورًا في  تطوّر الطب في عصور ما قبل التاريخ، لكنّ البحث الطبيّ لم يتواجد بالشكل المتعارف عليه حاليًا؛ إذ لم يفرّق الناس بين العلاجات الصحيحة والعلاجات القائمة على الوهم (placebo)، كما لم تؤخذ العوامل التي قد تؤثر على العلاج بعين الاعتبار، مثل التوافق ونمط الحياة والتاريخ العائليّ.

لا أحد يعلم على وجه الدقة إذا ما كانت الشعوب قبل التاريخ قد توصّلت إلى الآلية التي يعمل بها الجسم البشريّ أم لا، لكن يمكننا التخمين استنادًا إلى بعض الأدلة التي عُثر عليها. على سبيل المثال، تشير طقوس الدفن إلى معرفة بعض الأمور عن بنية العظام؛ إذ عثر العلماء على عظامٍ جُرّدت من اللحم وبُيِّضت وجُمِّعت معًا وفقًا للجزء الذي أُخذت منه من الجسم.

تشير بعض الأدلة أيضًا إلى معرفة مجتمعات ما قبل التاريخ بممارسات أكل لحوم البشر، الأمر الذي يوضِّح معرفة هؤلاء الناس بالأعضاء الداخليّة للجسم، ومكان تواجد الأنسجة الخالية من الدهون والأنسجة الدهنيّة في الجسم البشريّ.

في أستراليا، وجد المستعمرون أنّ السكان الأصليين كانوا قادرين على خياطة الجروح وتغطية العظام المكسورة بالطين حتّى تلتئم. يعتقد المؤرخون الطبيّون أنّ هذه الممارسات ربّما تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.

كما تشير معظم الأدلة التي عُثر عليها في قبور ما قبل التاريخ إلى وجود عظامٍ صحيّةٍ لكن في وضعٍ سيء، يبيّن هذا أنّ الأشخاص في هذه المجتمعات لم يعرفوا طريقة ضبط العظام المكسورة.

كذلك، آمن الناس في عصور ما قبل التاريخ بأنّ الأرواح تلعب دورًا في حياتهم. مثلهم مثل بعض الأشخاص اليوم، الذين ينظرون إلى المرض بمثابة فقدانٍ في روح الشخص.

الوقاية من الأمراض

يعتقد المؤرخون الطبيون أنّ شعوب ما قبل التاريخ لم يعرفوا شيئًا عن مفهوم (الصحة العامة – public health) نظرًا لحياة الترحال والتنقل من مكانٍ إلى آخر التي عاشوها.

تشمل بعض أولويات الصحة العامّة الحاليّة ما يلي:

  • منع انتشار المرض.
  • اتباع ممارسات النظافة الجيّدة.
  • توفير المياه النظيفة للناس ولحيواناتهم وللاستخدامات المنزليّة.

أنواع الأمراض

على مدار عصور ما قبل التاريخ، عانى الناس من المشاكل الصحيّة مثلما نعاني منها اليوم، ولكن نظرًا لاختلاف نمط حياتهم عنّا، فإنّ الأمراض اختلفت قليلًا عمّا هي عليه اليوم.

فيما يلي، بعض الأمراض التي يُعتقد أنّها شاعت في عصور ما قبل التاريخ:

  • (التهاب المفصل التنكسيّ – osteoarthritis)، تشير بعض البقايا الأثريّة إلى انتشار هذا المرض، نتيجةً لاضطرار الناس لحمل الأشياء الثقيلة، ما يُسبِّب ضغطًا على مفاصل الركبة.
  • الكسور الصغيرة في العمود الفقريّ وانحلال الفقرات: قد يكون لسحب الصخور الكبيرة لمسافاتٍ طويلةٍ دور في هذا المرض.
  • فرط تمديد أسفل الظهر: نتيجةً لنقل ورفع الصخور والحجارة الكبيرة -مثل حجارة (لاتيه – Latte stones).
  • العدوى والمضاعفات: نتيجةً لنمط حياة الصيد والجمع التي عاشها الناس في هذه العصور، انتشرت لديهم الجروح والكدمات والكسور بشكلٍ متكرر. بالإضافة إلى ذلك، لم تعرف لديهم المضادات الحيويّة أو اللقاحات أو المطهِّرات.

ربّما عرفوا القليل عن البكتريا والفيروسات والفطريات المسببة للأمراض، وربّما لم يدركوا العلاقة التي تربط بين النظافة والوقاية من الأمراض. نتيجةً لكلّ ذلك، كانت الإصابات خطيرةً ومهددةً للحياة، وقد يؤدي انتشارها بسرعةٍ إلى حدوث الأوبئة.

  • الكساح: يعتقد علماء الأنثروبولوجيا بشيوع المرض في فترات ما قبل التاريخ، ربّما بسبب نقص فيتامين د وفيتامين ج.
  • التعرّض البيئيّ: لم تتوفّر الحماية الكافية من الكوارث الطبيعيّة، مثل فترات البرد -التي استمرت لأكثر من 10 سنوات-، والجفاف والفيضانات والأمراض التي دمرت المصادر الغذائيّة.
  • الجنس: عاش الرجال في المجمل أكثر من النساء، ربّما لكونهم الصيادين، أيّ أنّ فرص حصولهم على الغذاء أعلى، ما يقلِّل من إصابتهم بسوء التغذية. كما قلَّلت وفيات الولادة من عمر النساء.

متوسّط العمر المتوقَّع

ليس من السهل تحديد متوسط العمر المتوقَّع في عصور ما قبل التاريخ، لكن لاحظ العلماء أنّ البقايا التي عُثر عليها والتي تعود لأشخاص تترواح أعمارهم بين 20-40 عامًا، أكثر من تلك التي تعود لأولئك الذين تزيد أعمارهم عن الـ 40 عامًا. ما يُشير إلى أنّ غالبيّة الناس لم يعيشوا أكثر من 40 سنة، إذ يتعمد ذلك على الوقت والمكان الذي عاش فيهم الشخص.

الأدوية

يعتقد علماء الأنثروبولجيا أنّ الناس في تلك العصور استخدموا الأعشاب الطبيّة بمثابة أدوية، لكنّ الأدلة حول ذلك محدودة، ويعود هذا لصعوبة التأكّد نظرًا لسرعة تعفّن النباتات.

تشير التوقعات إلى أنّ النباتات المستخدمة قد تكون نباتاتٍ محليّة، لكنّ هذا ليس ضروريًا دائمًا، إذ أنّ القبائل سافرت لمسافاتٍ طويلة، ما يتيح لهم إمكانيّة الوصول إلى حيِّزٍ أوسع من المواد.

النباتات الطبية

تشير بعض الأدلة من مواقع أثرية مكتشفةٍ حديثًا في العراق إلى استخدام الناس (الخبيزة – mallow) و(اليارو – yarrow) منذ ما يقارب الـ 60000 عام.

  • اليارو (أو ما تُعرف باسم القيصوم الألفي الأوراق/الحَزنْبل): يمكن أن يُستخدَم هذا النبات بمثابة مادةٍ قابضةٍ -تُسبِّب انسداد الأنسجة في حالات النزيف-، ومُعرِّقٍ عطريّ معتدل -يُعزز عمليّة التعرق-، و(منبهٍ – stimulant).

لا يزال الناس يستخدمون هذا النبات في علاج الجروح، التهابات الجهاز التنفسيّ، مشاكل الجهاز الهضميّ، مشاكل الجلد، وأمراض الكبد، حتّى الوقت الحاضر.

  • الخبيزة: ربّما استُخدِمَت بمثابة مشروبٍ لتطهير القولون.
  • إكليل الجبل/ الروز ماري: تُشير عدّة أدلةٍ من مناطق مختلفةٍ من العالم على شيوع استخدام هذا النبات بمثابة عشبٍ طبيّ على الصعيد العالميّ. لكن يَصعُب التأكّد فيما استُخدم قديمًا، نظرًا لنسب الناس العديد من الصفات الطبية له.
  • (فطر البيرش – birch polypore): نوع فطرٍ شائع في جبال الألب الأوروبيّة، ربّما استُخدم بمثابة ملينٍ، إذ يقول علماء النبات أنّ ابتلاعه يمكن أن يسبب الإسهال. عُثِرَ عليه في مومياء رجل.

تولَّت النساء مهمة جمع وإدارة الأعشاب الطبيّة، وربّما كُنَّ المسئولات عن علاج الأمراض والحفاظ على صحّة الأسرة.

وبما أنّ الكتابة والقراءة لم تُكتشف بعد في هذا الوقت، فقد تناقل الناس معرفتهم بفوائد وأضرار الأعشاب المختلفة شفويًا.

الممارسات والإجراءات

  • أكل التراب – geophagy

هي ممارسة أكل المواد الترابيّة أو التي تشبه التراب، مثل الطباشير والطين. في المجتمعات الغربيّة والصناعيّة ترتبط هذه الممارسة باضطرابٍ في الأكل يُعرَف باسم بيكا.

يُعتقد أنّ الإنسان القديم قد يكون عرف هذه الممارسة. ربّما يكون تقليدًا منه للحيوانات، أو أنّه لاحظ امتلاك الطين صفةً شافية عندما تتناوله الحيوانات.

لازالت بعض المجتمعات حتّى الآن تستخدم الطين خارجيًا وداخليًا في علاج الجروح.

  • ثقب الجمجمة/النقب

استخدمت هذه الممارسة منذ العصر الحجريّ الحديث في محاولة علاج الأمراض وتحرير الضحيّة من الشياطين والأرواح الشريرة، وذلك عن طريق حفر حفرةٍ في الجمجمة.

تشير دراسات لوحات الكهوف، إلى أنّ الشعوب التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ استخدمت هذه الطريقة في علاج الاضطرابات العقليّة، الصداع النصفيّ، ونوبات الصرع.

كما أنّ هناك أدلة تشير إلى استخدام هذه الطريقة في علاج الجماجم المكسورة.

إذا نجا الشخص، فإنّه يحتفظ بالعظام المستخرجة لجلب الحظ السعيد.

  • الشامان – shaman أو رجل الطبّ

رجل الطب أو الساحر الطبيب أو الشامان: ظاهرة تواجدت في بعض مجتمعات ما قبل التاريخ، وهو الشخص المسؤول عن صحّة القبيلة، وجمع الأعشاب الطبيّة، وتنفيذ الجراحات البدائيّة، وإلقاء التعاويذ السحريّة.

تلجأ إليه القبيلة للحصول على المشورة الطبيّة عند وجود الأمراض.

على الرغم من أنّ عددًا من الأمراض المنتشرة حاليًا تواجدت في عصور ما قبل التاريخ، مثل التهاب المفاصل ومشاكل الظهر، فإنّ التحدّيات الصحيّة في هذه العصور اختلفت عن تلك الموجودة في يومنا هذا.

وفي حين لم يعد الناس يثقبون جماجمهم لتحريرهم من الشياطين، لا زلنا نستخدم أعشابًا مثل الروزماري في العلاج، مثلما فعل أجدادنا.


  • ترجمة: شيماء ممدوح
  • تدقيق: آية فحماوي
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر