نستطيع أن نجد ذكرًا للنرد في التاريخ منذ بدء تسجيله؛ إذ استُخدِم في ألعاب الطاولة، والرجم بالغيب (قراءة البخت والتكهن بالمستقبل)، وحتى في المقامرة. فقد انتقل النرد من حضارة إلى أخرى، واستُخدم لأغراض متنوعة.

قد يكون النرد ظهر بصورة طبيعية في مناطق عدة (دون أن يأتي إليها من مكان أخر)، ولهذا، يلف أصل هذه القطعة ومصدرها الغموض. ويبدو أن النرد جزء أساسي من عبقرية البشرية وبراعتها؛ إذ يقول عالم الآثار ومدير المتحف السويسري للألعاب أولريش شيدلر: «إن إعادة جميع القيم والمنافع إلى غرض متعدد الأوجه؛ لا بُد أنها فكرة ثورية».

فدعونا نأخذ نظرة أقرب إلى هذه الفكرة الثورية، ونقدم نبذة عن تاريخها.

العصا والحجارة وعظام المفاصل:

عندما يفكر الناس بالنرد أول مرة، يجول في أذهانهم مكعب أبيض، ذو ستة أوجه، وعلى كل وجه منه بضع نقاط سوداء، ولكن هذا لم يكن دائمًا النموذج السائد.

لقد صُنِع النرد القديم -غالبًا- من العصي أو الصدف أو البذور، وأغلبها ذو وجهين فقط؛ أحدهما مسطح، والآخر دائري مثل فستق العبيد المقشر. زُيِّن الوجهان أحيانًا بطلاء أو نقوش من أجل تمييز أحدهما عن الآخر. واستخدمت الشعوب القديمة النرد ذا الوجهين على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم؛ بدءًا من شعب الأزتك إلى البولونزيين الأصليين، ولا تزال بعض الثقافات المعاصرة كقومية النافاجو (منطقة استعادها الأمريكيون الأصليون وتمتد بين ولايات أريزونا ونيو مكسيكو ويوتاه في الولايات المتحدة) تستخدم النرد في الألعاب التقليدية.

عظام الكاحل -المعروفة أيضًا بالمفاصل- أغراض رائعة في حد ذاتها، ومثلما يوحي اسمها المتداول؛ فإن عظام الكاحل هي عظام حقيقية أخذِت من الكاحل الخلفي لخروف أو معزاة أو غزال أو حيوان آخر كبير من الثدييات ذات الحوافر. وقد استخدمتها حضارات عدة -كالأمريكيين الأصليين والإغريق القدماء والمصريين القدماء الذين أعلَّوا من قيمة هذه القطع كثيرًا لدرجة أن أحدهم كان يُدفَن مع عظم الكاحل المفضل لديه (عرفت عظام المفاصل بصفتها نردًا ذا أربعة أوجه منذ القرن الخامس قبل الميلاد)، وفي العصور الرومانية القديمة أُعطِي كل وجه من النرد اسمًا بالتوافق والتشابه مع شكله فكانت التسميات البطن والثقب والأذن والنسر.

إن رمي عظام الكاحل ليس عملية عشوائية حقًا؛ إذ إن وجهين اثنين من الأربعة (البطن والثقب) أوسع من الجانبين الآخرَين، ولذلك فمن المرجح أن يظهرا أكثر عند رمي النرد. ولهذا السبب وضع الرومان القدماء نقاطًا؛ إذ حملت الجوانب الواسعة ثلاث وأربع نقاط أما جانبا الأذن والنسر فقد حملا ست نقاط ونقطة واحدة على التوالي. يقول شيدلر: «أدرك الرومان هذه الاحتمالية المختلفة، ولذلك من النادر أن حالف أحدهم الحظ الجيد، ومن النادر أيضًا أن حل بأحدهم سوء الحظ».

تقول آن إليزابيث دن فاتوري -باحثة لدى متحف الميتروبوليتان للفنون-: «بمرور الوقت تغيرت المادة التي صُنِع منها النرد؛ إذ كانت طبيعية مثل القشور والقصب أو عظام الكاحل، ثم حلت مكانها مواد مصنعة».

حاليًا، تحظى الإصدارات البلاستيكية أو المعدنية من عظام المفاصل بشعبية كبيرة في بعض أجزاء أوروبا، ولكن أيًا منها لا تشبه النرد التي قد تجدونه في كازينوهات لاس فيجاس، ولذلك قد تطرحون سؤالًا: أين تحول النرد إلى مكعبات، ولماذا؟

التربيع:

يعود تاريخ أقدم نرد مكعب الشكل إلى قرابة عام 2500 قبل ميلاد، أما مصدره فكان وادي السند، الذي يشمل جزءًا كبيرًا من دولة العراق الحالية وأجزاء من أفغانستان وباكستان وشمالي الهند. لا يدري الباحثون على وجه الدقة السبب الذي دفع الناس إلى استخدام شكل ذي ستة أوجه، ولكنهم يظنون أنه لاستخدام شكل المكعب علاقة بإضافة عامل العشوائية؛ إذ يتمتع بالمكعب بتشكيلات أكبر من تشكيلات عظم المفصل ذي الأربع أوجه، الذي بدوره قادر على إحداث تشكيلات وتكوينات أكبر من تشكيلات العصا ذات الوجهين. وقد صُنِع النرد القديم مكعب الشكل من الطين أو العظام، ولاحقًا قُدَّ من الرخام أو المعدن أو حتى الزمرد.

ومع أن النرد القديم كان مكعبًا، ولا يختلف اثنان في ذلك، فقد اختلف شكله عن شكل النرد المعاصر المستخدَم في الكازينوهات. يقول جيلمر أيركين عالم آثار لدى جامعة كاليفورنيا دافيس: «في يومنا الحالي، لا يزال النرد يُصنَع بأوجه متقابلة تصل إلى سبعة». ويضيف: «ولكن الكثير من النرد القديم لا يعتمد التشكيل ذاته أو البنية»؛ فيعتمد ترتيب شائع يعود إلى حقبة ما قبل العصور الوسطى في الأراضي المنخفضة (هولندا حاليًا) تشكيلًا يضع الخانة واحد مقابل الخانة اثنين و الخانة ثلاثة مقابل الخانة أربعة والخانة خمسة مقابل الخانة ستة. أما تشكيل «الأوجه السبع المتقابلة»، فقد اعتُمِد -أحيانًا- في أواخر العصور الوسطى.

استُخدمَت المكعبات متعددة الأوجه في الكثير من الألعاب القديمة؛ ففي روما كان النرد أساسيًا للعبتَي تالي – tali وتسيريا – tesserae، أما في الصين فكان مهمًا جدًا في لعبة ليبو – liubo الغامضة في عصر سلالة تشو، التي تضمنت عصوات من الخيزران ورقاقات وقطع ألعاب عاجية وسكينًا.

من المؤكد أن النرد لم يُصنَع لغرض المتعة والتسالي فقط، بل صُنِع بعضها من أجل هدف أكثر أهمية؛ الرجم بالغيب أو التنبؤ بالمستقبل.

قراءة البخت التي تعتمد على حركة النرد:

عندما سُئل ألبرت أينشتاين عن ميكانيكا الكم علق ساخرًا: «الله لا يلعب بالنرد مع الكون»، ولكن يبدو أن الإغريق والرومان سيختلفون مع تصريح أينشتاين؛ إذ آمنوا أن بالإمكان التكهن والتنبؤ بإرادة الآلهة عندما نرمي حجر النرد.

أطُلِق على هذا التقليد اسم (أستراغالومانسي – astrogalomancy)، الذي اشتق من عظام الكاحل التي استخدمها الممارسون الأوائل. وبمرور الزمن أصبح النرد المصنَّع -على نحو متزايد- مشهورًا؛ ولكن المشكلة أن النرد لم يكن عشوائيًا على نحو خاص.

يقول إيركينز: «لم يكن النرد الذي يعود إلى الحقبة الرومانية متناظرًا، فقد كان ذو ستة أوجه وليس على شكل مكعبات، فالكثير منها كان يُمدَّد أو يُستطال في مواشير مستطيلة أو يجري إمالتها نحو أحد الأوجه. ويري إيركينز في بحثه أن ذلك ربما لم يزعج قارئي البخت الرومان «لأنهم اعتقدوا أن الآلهة تتحكم نوعًا ما بالنتيجة»، ويضيف: «إذ كان يكفي أن نجد جميع الاحتمالات المختلفة في النرد».

وطبعًا، لا تجد طريقة التفكير هذه آذانًا صاغية في كازينوهات لاس فيغاس؛ ففي ظل قانون ولاية نيفادا تصل عقوبة المقامرة بنرد غير متناظر إلى السجن مدة خمس سنوات، وغرامة تصل إلى عشرة آلاف دولار. لذلك في المرة المقبلة التي تجدون أنفسكم عند طاولة قمار، من الأفضل أن تتركوا نرد التنبؤ بالمستقبل في المنزل.

اقرأ أيضًا:

مقولة أينشتاين الشهيرة “الله لا يلعب النرد” تستخدم لتوليد أرقام عشوائية حقيقية غير قابلة للاختراق

ماذا قصد أينشتاين عندما قال أن الله لا يلعب بالنرد؟

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: آلاء رضا

مراجعة: حسين جرود

المصدر