اصطدمت كويكبات ضخمة بالأرض منذ نشأتها، مخلفةً آثارًا دائمة في جيولوجيا الكوكب والحياة عليه. خلال مئة مليون سنة الأولى من عمر النظام الشمسي، كانت الأرض الوليدة مسرحًا للفوضى والعنف، إذ تعرضت مرارًا لضربات من صخور فضائية عملاقة. سبّبت تلك الاصطدامات المتكررة دمارًا واسع النطاق، ما جعل مساحات شاسعة من الكوكب غير صالحة للحياة لأعوام، بل لعقود أحيانًا.
يقول تيدي كاريتا، عالم الفلك في مرصد لويل بولاية أريزونا: «تفوق عواقب الكويكبات ما يمكن للعقل البشري تصوره، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها قد لا تترك آثارًا واضحة للعيان».
رغم طبيعتها المدمرة، أو ربما بسببها، أعادت هذه الكوارث الكونية تشكيل البنية الجيولوجية للأرض، وخلقت الظروف الملائمة لترسخ الحياة المعقدة، ممهدةً الطريق لتكوّن الكوكب كما نعرفه اليوم.
يضيف كاريتا: «مكنتنا دراسة هذه الأحداث من سبر أغوار عناصر أساسية في تاريخ الأرض، بطرائق لا يمكن بلوغها عبر وسائل أخرى».
ما يلي أبرز الاصطدامات التي شهدها كوكب الأرض عبر تاريخه:
1- قبل 4.5 مليار سنة: اصطدام هائل يؤدي إلى تكون القمر
تشير النظرية السائدة إلى أن القمر تكون بطريقة درامية قبل نحو 4.5 مليار سنة، حين ارتطم كويكب بحجم كوكب المريخ يعرف باسم ثيا بالأرض الوليدة. أدى هذا الاصطدام العنيف إلى قذف كميات هائلة من الصخور المنصهرة إلى الفضاء، فشكلت حلقة من الحطام حول الكوكب. بمرور الوقت، التحمت تلك المادة تحت تأثير الجاذبية لتكوّن القمر.
تظهر المحاكاة الحاسوبية لهذه الدراما الكونية أن القمر المتكون حديثًا كان يبدو أكبر من حجمه الحالي بـ 16 مرة، إذ كان يدور حول الأرض على مسافة قريبة لا تتجاوز 15 إلى 20 ألف ميل. وعلى مدى ملايين السنين، أدت التفاعلات الجاذبية بين الأرض والقمر إلى ابتعاد الأخير بمعدل بضعة سنتيمترات سنويًا، إلى أن بلغا مسافتهما الحالية المقدرة بنحو ربع مليون ميل.
بالنسبة إلى الأرض، كان ذلك الاصطدام كفيلًا بتثبيت ميل محورها، الذي كان متطرفًا من قبل. شكل هذا التثبيت عاملًا حاسمًا في تنظيم مناخ الكوكب ودورة المد والجزر، ما أتاح لاحقًا بزوغ الحياة.
مع أن النشاط الجيولوجي المستمر للأرض طمس آثار تلك الحقبة من السجل الصخري، فإن القمر ما زال يحتفظ بأدلة على ماضيه العنيف، موثقةً في الحفر الناجمة عن اصطدامات كويكبات لاحقة.
2- قبل 3.26 مليار سنة: نيزك S2 يمنح الحياة دفعةً قوية
غالبًا ما تقترن الكويكبات بالدمار، لكن بعض اصطداماتها ربما خدمت الحياة، وإن كان على نحو غير مباشر. توضح ناديا درابون، أستاذة علوم الأرض والكواكب في جامعة هارفارد: رغم ما أحدثته من أضرار، فإن بعض الكويكبات لعبت دورًا في تعزيز الحياة المبكرة.
منذ نحو 3.26 مليار سنة، اصطدمت صخرة فضائية يعادل حجمها أربعة أضعاف جبل إيفرست، الذي كان آنذاك عالمًا مائيًا تسوده كائنات بدائية مثل البكتيريا والعتائق.
كشفت درابون، من خلال دراستها لصخور محفوظة بدقة استثنائية في حزام باربيرتون غرينستون بجنوب أفريقيا، أن النيزك ضرب المحيط، مسببًا انقراضًا جماعيًا للكائنات الدقيقة التي كانت تستوطن المياه الضحلة والجزر المعزولة.
لكن المفاجأة أن هذا الاصطدام لم يكن مدمرًا بالكامل. فقد أطلق النيزك كميات هائلة من الفوسفور، وهو عنصر غذائي أساسي، إلى محيط يعاني نقص المغذيات. وسبّب تسونامي هائلًا خلط المياه، ما أتاح للحديد من الأعماق أن يصعد إلى السطح ويصبح متاحًا للكائنات. تقول درابون: «ربما ساهم هذا الحدث في تعافي الحياة، بل في ازدهارها لاحقًا».
3- قبل 66 مليون سنة: كويكب تشيكشولوب يقضي على الديناصورات
قبل 66 مليون سنة، اصطدم كويكب بحجم جبل بطرف شبه جزيرة يوكاتان، في المكسيك الحالية، أدى إلى انقراض نحو 70% من الكائنات الحية على وجه الأرض، وعلى رأسها الديناصورات.
خلف الاصطدام حفرةً بعرض 120 ميلًا أُطلق عليها لاحقًا اسم تشيكشولوب، وهي ثاني أكبر حفرة تصادمية معروفة على سطح الأرض بعد حفرة فريدفورت في جنوب أفريقيا.
اكتشف الجيولوجيون هذه الحفرة في سبعينيات القرن الماضي، في أثناء عمليات التنقيب عن النفط، إذ ما زال نصفها مغمورًا بمياه البحر، في حين يغطي النصف الآخر غابات استوائية كثيفة.
تشير الأدلة الأحفورية إلى أن الكويكب ضرب مياهًا ضحلة نسبيًا، ما أودى بحياة أعداد كبيرة من الكائنات البحرية القريبة من نقطة الارتطام. وأدى إلى تسونامي هائلة اجتاحت المحيطات في كل الاتجاهات، وبلغت أمواجها أكثر من عشرة أمتار، حتى وصلت سواحل شمال الأطلسي وجنوب الهادئ.
سبّب الاصطدام قذف شظايا من الكويكب وقشرة الأرض إلى الفضاء، خرج بعضها من الغلاف الجوي قبل أن يعود ليحترق مشكلًا قطرات منصهرة أضرمت حرائق واسعة النطاق.
لم تقتصر الآثار على التدمير المباشر، إذ حجب غبار كثيف وكبريت وسخام ضوء الشمس عن سطح الأرض، ليغرق الكوكب في ظلام دام شهورًا، فتوقفت عملية التمثيل الضوئي، وانهارت السلسلة الغذائية، ما عجّل بانقراض الديناصورات وأنواع كثيرة أخرى.
«مع أن طاقة تشيكشولوب كانت أقل بنحو 50 – 200 مرة من طاقة كويكب S2، كان أثره أعظم، إذ مهد الطريق لظهور الحياة المعقدة لاحقًا».
4- قبل 35 مليون سنة: فوهة خليج تشيسابيك
قبل نحو 35 مليون سنة، اصطدم كويكب عرضه بين 5 و8 أميال بالمحيط الأطلسي، قرب ما يعرف اليوم بولاية فرجينيا على الساحل الشرقي للولايات المتحدة. أسفر هذا الاصطدام عن تكون بنية صدمية في خليج تشيسابيك، يبلغ عرضها 53 ميلًا، وهي أكبر فوهة معروفة من نوعها في الولايات المتحدة، وسادس أكبر فوهة تصادمية على مستوى العالم.
تقع هذه الفوهة على بعد نحو 200 كيلومتر جنوب شرق العاصمة واشنطن، وامتلأت خلال 30 دقيقة فقط بفعل موجات التسونامي الهائلة التي أثارها الاصطدام. لم يؤكد وجودها حتى عام 1983، حين تمكن العلماء من التعرف عليها عبر طبقة مميزة من جسيمات الزجاج المنصهر تعرف باسم التكتيت، عُثر عليها في عينات جرى حفرها من الموقع.
5- قبل 50 ألف سنة: فوهة بارينجر
قبل نحو 50 ألف عام، اخترق كويكب يبلغ قطره نحو 46 مترًا الغلاف الجوي للأرض، وارتطم بما يعرف اليوم بشمال ولاية أريزونا الأميركية. وانفجر بقوة تقدر بما لا يقل عن 2.5 مليون طن من مادة الـTNT، مخلفًا فوهة بعرض ثلاثة أرباع الميل، تعد من أكثر الفوهات التصادمية حفظًا على سطح الأرض.
«الشقوق الموجودة مسبقًا في الطبقات الصخرية بالمنطقة جعلت شكل الفوهة أقرب إلى المربع منه إلى الدائرة». ورغم شهرتها باسم فوهة النيزك، فإن الاسم العلمي لها هو فوهة نيزك بارينجر، تكريمًا للمهندس الأميركي ومكتشفها دانيال مورو بارينجر، الذي كان أول من أثبت أن الفوهة ناتجة عن اصطدام كويكب بالأرض، لا عن نشاط بركاني أو عمليات جيولوجية أخرى.
ناقضت فرضية بارينجر رأي معظم العلماء البارزين في عصره، ولم تقبل نظريته إلا بعد مرور أكثر من نصف قرن، عندما لاحظ العلماء أوجه الشبه في التركيب الجيولوجي والمعادن المصدومة بين فوهة بارينجر وتلك التي تخلفت عن تجارب الأسلحة النووية تحت الأرض التي أجريت في نيفادا إبان الحرب الباردة.
بعد نحو عشرين عامًا من التنقيب دون أن ينجح بارينجر في العثور على الحديد النيزكي داخل الفوهة أو بالقرب منها، توقفت عمليات الحفر عام 1929. لكن الفوهة اكتسبت أهمية جديدة منذ عام 1964، حين بدأت تستخدم موقعًا لتدريب طياري الاختبار الذين تحولوا إلى رواد فضاء على مهمات الهبوط على سطح القمر، حيث مارسوا جمع عينات الصخور واختبروا مركبات القمر الخاصة بهم. ولا تزال تستخدم حتى اليوم موقعًا ميدانيًا للتدريب على بعثات القمر التناظرية، بهدف إعداد رواد الفضاء لمهام استكشاف الفضاء في المستقبل.
اقرأ أيضًا:
محاكاة علمية لاصطدام كويكب بينو بالأرض عام 2182
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي