ليس بلا حياء، ولا تتلَّبسُه روحٌ شِرِّيرة إنَّه مريض مُتَلازِمَة توريت.

في عام 1825، كانت إحدى النساءُ النبيلاتُ من عائلة دامبيير «Dampierre» في فرنسا -والتي دُعيَتْ بماركيز عائلة دامبيير «Marquise de Dampierre»- تتلفَّظ بكلماتٍ نابيةٍ وفاحشةٍ في حواراتها، الأمرُ الذي صدم أصدقائها المنحدرين من الطبقة رفيعة المستوى في تلك الأيام، مما دفعَ الطبيب الفرنسيّ جان مارك كاسبرد إيتارد «Jean Marc Gaspard Itard» إلى وصفِ حالتها وتسجيلها في الأدب الطبيِّ.

لكن في عام 1885، وصفَ عالمُ الأعصاب الفرنسي جورج جيلز توريت «George Gilles de la Tourette» -والذي عمل في مشفى سالبيتيير- حالةَ تسعة مرضى لديهم عرَّات أو «Maladie des tics» -كما وصفها توريت بالفرنسية- وبعد أن قرأ ما كتبه إيتارد، شَهِد بأنَّ حالة ماركيز عائلة دامبيير كانت أوَّلَ حالةٍ لما عُرِف لاحقًا بمتلازمة توريت-(Tourette Syndrome). (1)

ما هي متلازمة توريت؟

تُعَدُّ متلازمة توريت اضطرابًا عصبيًّا وأحدَ أنماط اضطرابات العَرَّة، يشيرُ مصطلحُ العَرَّة-Tic إلى عملياتِ الحركة والنطق النمطيّةِ وغيرِ الطوعيّةِ المُتكرِّرة، وبشكلٍ عام؛ تُعَدُّ هذه المظاهرُ الميزاتِ الأساسيّةَ المعروفةَ لحالة العَرَّة العصبيةِ المنشأِ التي تبدأ بسن الطفولة، وتُشير هذه الميزات بشكلٍ خاصٍّ إلى متلازمة توريت واضطراب العَرَّة المُزمن (من النمط الحركيّ أو الصوتيّ) واضطراب العَرَّة المؤقَّت.

يكون لدى مرضى متلازمة توريت عَرّتان حركيتان وعَرَّةٌ صوتيةٌ واحدةٌ على الأقلّ بنفس الوقت ولأكثر من سنة. (2)

بدءُ وتطوُّر المتلازمة وانتشارُها:

تَظهرُ الأعراضُ البدئيّة للمتلازمة في مرحلة الطفولة -وسطيًّا بين سنَّي الثالثة والتاسعة- وتكون بشكلِ عرَّةٍ حركيةٍ في منطقة الرأس والرقبة.

يزداد تكرارُ العرَّةِ وشِدَّتُها ما بين التاسعة والثانية عشَر من العمر، يظهر تحسُّن واضحٌ خلال المُراهقة المُتأخِّرة عند كلِّ المصابين بالمتلازمة تقريبًا، وقد تختفي العرَّة حتّى، في حين تبقى المتلازمة عندَ نسبةٍ قليلةٍ من المصابين بها لتظهرَ على شكل عرَّاتٍ مستمرَّةٍ وشديدةٍ في سنِّ الرُّشد.

تتراوح العرَّات بين خفيفةٍ وشديدةٍ، ويمكن أن يؤذي الشخص نفسَه في بعض الحالات، وتحدث نتيجةً لأسبابٍ مجهولةٍ أحيانًا أو استجابةً لعواملَ داخليّةٍ أو خارجيّةٍ أحيانًا أخرى، كالضَّغط والقلق والمُتعة والتّعب والمرض.

تظهر المتلازمة عند كلِّ الناس ومن كلِّ الأعراق ويكون تواترها عند الذكور أكثرَ من الإناث بنسبة 4:3. يُوجدُ حوالي 200.000 أمريكيٍّ مصابٍ بالشّكل الشّديد من المتلازمة، وحوالي 100 آخرون مصابون بالشكل الخفيف منها أو لديهم أعراضُ أقلُّ تعقيدًا، كعرَّاتٍ حركيّةٍ أو صوتيّةٍ مُزمنة. (3)

أعراض متلازمة توريت:

العَرَّاتُ الحركيّة:

العَرَّات الحركية هي حركاتٌ لا إرادية ومتكرّرة دون ضبط معيّن، تتضمَّن العَرَّاتُ الحركيّة البسيطة كلًّا ممّا يلي (ولكنُّها غير محدّدةٍ بها): ومض العين، قَتامَة الوجه، حركات الفك، رجُّ الرأس، تحريك الكتف، تمدُّد الرقبة، ورجُّ الذراع. أمّا العرَّات المعقّدة؛ فتكون نتيجةَ تعدُّدِ المجموعات العضليّة أو تداخل الحركات، وعادةً ما تكون أبطأ وتبدو وكأنّها هادفةٌ أكثر، كالقفزِ والدوران. (4)

العَرَّات الصَّوْتيّة:

كما في العرَّات الحركية، تصدرُ في العرَّات الصوتية أصواتٌ لا إراديّة متكرّرة، وتتضمن البسيطة منها: تَصْفية الحَلْق، الشَّخير، الصُّراخ، والصِّياح.

أمّا المُعقَّدة فتكون على شكل كلماتٍ أو عباراتٍ مفهومةٍ أو غيرِ مفهومة، ولكنّها تكون خارج السِّياق دائمًا. (4)

تكون الكلمات غيرَ ملائمةٍ في 10-15% من الحالات؛ ككلمات القَسَم أو العبارات العرقية والإثنيّة أو غيرها من الكلمات والعبارات غيرِ المقبولةِ اجتماعيًّا.

يُطلق على هذه العَرَّة اسم البُذاء-Coprolalia، وهي تُصوّر في الإعلام عادةً على أنّها العَرَضُ الشّائعُ لمتلازمة توريت.

وربما تكون العَّرةُ متكرِّرةً، فتُدعى حينها باللّفظ الصَّدَويّ-echolalia؛ وهي ترديدُ كلمات أو عبارات أو غيرها. (3)

أسباب متلازمة توريت:

مازالت أسبابُ متلازمة توريت -كغيرها من اضطرابات العرَّة- غيرَ معروفةٍ ، ولأنّ الكثيرَ من الحالات موروثةٌ؛ فذلك يعني بوضوحٍ أنّ الوراثةَ تلعبُ دورًا في كثيرٍ من الحالات، هذا إن لم يكن في أغلبها أو كلها.

يمكن أن تساهمَ العواملُ البيئيّة أو التطوُّريّة أو غيرها في حصول هذه الاضطرابات، ولكن في وقتنا الحاضر، لم تُحدَّدْ أيُّ حدثيةٍ أو عامل خاصٍّ ومحدَّد.
على أية حال، إنَّ حصولَ المتلازمة أو غيرِها من اضطرابات العرَّة يكون نتيجةَ تداخلاتٍ معقّدةٍ واشتراكِ عواملَ وراثيةٍ مع غيرها من العوامل التي يمكن أن تتنوّع من فردٍ لآخر.

وتُجرى حاليًّا عدّةُ أبحاثٍ ودراساتٍ وراثيةٍ لإيجاد المُورِّثة أو العوامل الأخرى المسؤولة عن تطوُّر هذا الاضطراب.

تشير بعضُ الأبحاث إلى أنّ هناك شذوذاتٍ قد تؤدي لتجلّي المظاهر المُعتادة لمتلازمة توريت؛ كالشذوذات التي تحدث في بعض مناطق الدماغ (النُّوى القاعديّة والفصوص الجبهيّة والقِشْر)، أو في الدارات التي تصلُ هذه المناطقَ بعضَها ببعض، أو شذوذات النواقل العصبية (الدوبامين والسيروتونين والنورأدرينالين) المسؤولة عن التواصل بين الخلايا العصبية. (3)

الحالات المشتركة مع متلازمة توريت:

تترافق متلازمة توريت عادةً مع عددٍ من الحالات الأخرى عصبيّةِ التطوُّر أو العصبيّة النفسيّة، قد يظهرُ بعضُها قبلَ العرَّات مُسبِّبًا اعتلالًا أكثرَ من العرَّاتِ ذاتِها؛ ومنها اضطرابات عدم الانتباه وفَرْط النشاط والاندفاعية، كاضطراب نقص الانتباه وفَرْط النشاط Attention Deficit Hyperactivity Disorder—ADHD، وتسبُّب هذه الاضطراباتُ مشاكلَ في القراءة والكتابة والحساب.

ويمكن أن تظهرَ أعراضُ الوسواسِ القهريّ كالأفكار والمخاوف التطفُّلية والسلوكِ التكراريّ. (3)

علاجُ متلازمة توريت:

لا يوجدُ علاجٌ شافٍ لمتلازمة توريت؛ ولكن يمكن للمعالجة أن تقلِّلَ من الأعراض.

تُعَدُّ هذه المعالجة نفسيةً سلوكيةً للسيطرة على العرَّة، وهناك نمطان منها:

1- معالجةُ عكسِ العادةِ: تتضمّن مراقبةَ شكلِ وتكراريِّة العَرَّة وتحديد أي حسٍّ يُزيدُ منها، ثمَّ إيجاد طريقةٍ بديلةٍ أقلّ لفتًا للنظر لإزالة الأحاسيس التي تسبِّب العرَّة (تُعرف بالأحاسيس المُنْذِرة).

2- التّعريض للوقاية من الاستجابة-Exposure with response prevention ERP: تشمل زيادة تعريض المريض لمُحفِّز العرَّة لقمعٍ حصولها لمدّةٍ أطولَ، هذه المعالجة تعمل على نظريّة أنَّك تعتادُ على الشعورِ بالحاجة للعرّة حتى حصولِ المُحفِّز، فيتضاءَلُ القلقُ المرتبطُ بحدوثها.

عندما تكون العرَّة شديدةً وأكثرَ تكرارًا، يمكن أن تساعد بعضُ الأدوية في تحسين وضع المريض، كمُقلِّدات ألفا2 الأدرينرجية والمُرخِّيات العضليّة ومعاكسات الدوبامين.

يمكن اللجوءُ للجراحة وخاصّةً في بعضِ الحالات الشديدة التي لا تستجيب للعلاج، لكنَّ الجراحةَ نادرةٌ كخيارٍ علاجيّ. (4)

ما هو أفضلُ محيطٍ تعليميٍّ يمكن تقديمُه لطفلٍ يعاني من متلازمة توريت؟

على الرّغم من أنَّ الأطفالَ المصابين يتصرَّفون بشكلٍ جيّدٍ في الصفوف الدراسيّة المعتادة؛ إلا أنَّ اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط وأعراض الوسواس القهري والعرَّات المتكررة يمكن أن تؤثّرَ بشكلٍ كبيرٍ على تحصيلهم الأكاديميّ وتوافقهم الاجتماعيّ.

بعدَ التقييم الإدراكيّ للتلميذ، يجب أن يُنقَل إلى محيطٍ يتلقّى فيه احتياجاته الفردية، فقد يحتاج التلاميذ للإشراف أو لصفوفٍ دراسيةٍ صغيرةٍ أو خاصةٍ أو لمدارسَ خاصةٍ في بعض الأحيان.

يحتاج كلُّ التلاميذِ المصابين بمتلازمة توريت لمحيطٍ مُتفهِّمٍ ومُتسامحٍ ورحيمٍ يُشجِّعُهم على العمل بكلِّ طاقتِهم، ومرِنٍ بما فيه الكفاية لتأمين متطلّباتِهم الخاصة.

يمكن أن تتضمَّن احتياجاتُهم مناطقَ تدريسٍ خاصةٍ أو إجراءَ الامتحانات خارج الصُّفوف العاديّة أو حتى امتحاناتٍ شفهيةً عندما يكون التلميذ غيرَ قادرٍ على الكتابةِ بسببِ أعراضِ مرضه. (3)


إعداد: مصطفى بجود
تدقيق: اسماعيل اليازجي
تحرير: محمد سمور
مصدر(1) , مصدر(2) , مصدر(3) , مصدر(4)