تقنية كريسبر-كاس9 (CRISPR-Cas9)
مستقبل العلاج الجيني


كان البشر يهندسون الحياة لآلاف السنين. فمن خلال التربية الانتقائية، قمنا بتعزيز الصفات المفيدة في النباتات والحيوانات .

لقد قمنا بإتقان هذا العمل، لكننا لم نفهم حقًا كيف يعمل. إلى أن اكتشفنا رمز الحياة، الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA). الجزيء المعقد الذي يوجه النمو والتطور، ووظائف وعمليات التكاثر لدى جميع الكائنات الحية.

تُرمز المعلومات ضمن بنية هذا الجزيء. وإقران أربعة نيوكليوتيدات يشكلون الرمز الذي يحمل التعليمات. قم بتغيير التعليمات وسيتغير الكائن الذي يحملها.

حالما تم اكتشاف الحمض النووي، بدأ الناس بمحاولة العبث به. ففي عام 1960 قام العلماء بتعريض النباتات للإشعاع ليسببوا طفرات عشوائية في الشيفرة الوراثية.
وكانت الفكرة هي الحصول على تباين مفيد في النبات بمحض الصدفة. وأحيانًا كان يحصل ذلك حقًا.

و في السبعينات، أدخل العلماء قصاصات الحمض النووي في البكتيريا والنباتات والحيوانات لدراستها وتعديلها للبحوث والطب والزراعة وللمتعة.

ولد أول الحيوانات المعدلة وراثيًا في عام 1974 مما جعل الفئران أداةً موحدةً للبحوث وبالتالي إنقاذ ملايين الأرواح.

في يومنا هذا، نقوم بإنتاج العديد من المواد الكيميائية عن طريق الهندسة الوراثية، مثل عوامل التخثّر المنقذة للحياة، هرمونات النمو والأنسولين.
كل الأشياء التي كنا نحصل عليها من الحيوانات قبل ذلك.

في تسعينيات القرن العشرين، كان هناك أيضًا غزوة موجزة في الهندسة البشرية. لعلاج عقم الأمهات، تم خلق أطفال يحملون المعلومات الوراثية من ثلاثة أشخاص، مما جعلهم أول أشخاص في العالم يملكون ثلاثة آباء وراثيًا.

على مدى الزمن، اكتشف العلماء أنواع مختلفة للتعديل الجيني: التغييرات الصغيرة في الحمض النووي، إزالة جزء من الحمض النووي وغيرها.

كل هذا كان بالفعل أمرًا مثيرًا، ولكن حتّى وقت قريب ، كان التعديل الجيني مكلفًا للغاية ومعقّدًا ويستغرق وقتًا طويلًا للقيام به.

ولكن هذا الأمر قد تغير الآن، مع تكنولوجيا ثورية جديدة تدخل الآن إلى الميدان( كريسبر- CRISPR). بين عشية وضحاها، تقلصت تكاليف الهندسة الوراثية بنسبة 99%.
فبدلًا من عام كامل كانت تحتاجها هذه التجارب، أصبحت تستغرق بضعة أسابيع لإجرائها، وكل شخص لديه مختبر يمكنه أن يقوم بها.

من الصعب توضيح مدى روعة كريسبر كثورة تقنية. فلديه حرفيًا القدرة على تغيير الإنسانية إلى الأبد.

ولكن لماذا حدثت هذه الثورة المفاجئة وكيف تعمل؟

أقدم حرب على وجه الأرض

طالما كان الصراع قائمًا بين الجراثيم والفيروسات منذ بزوغ الحياة. إذ تقوم العاثيات (فيروسات تغزو البكتيريا) بمطاردة الجراثيم، وفي المحيط، تقوم العاثيات بقتل حوالي 40% منها كل يوم.

تقوم العاثيات بذلك عن طريق إدخال الشيفرة الوراثية الخاصة بها في الجراثيم والسيطرة عليها لاستخدامها كمصانع. تحاول الجراثيم أن تقاوم، لكنها غالبًا ما تفشل في ذلك لأن وسائل الدفاع لديها ضعيفة، إلا أنه في بعض الأحيان يمكن أن تنجو الجراثيم من الهجوم.

فقط إذا استطاعت فعل ذلك ستتمكن من تنشيط نظام مكافحة الفيروسات الأكثر فعالية: تقوم بحفظ جزء من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) للفيروس في الشيفرة الوراثية الخاصة بها ضمن أرشيف من الحمض النووي يدعى كريسبر (CRISPR).

وهناك، يتم تخزينه بأمان حتى الحاجة له. عندما يقوم الفيروس بالهجوم مجددًا، تقوم الجرثومة بنسخ الحمض النووي الريبوزي(RNA) من أرشيف الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) وتشكل سلاحًا سريًا—بروتين يدعى كاس9 (CAS9).

يقوم البروتين حينها بإجراء فحص داخل الجرثومة بحثًا عن علامات وجود الفيروس المهاجم عن طريق المقارنة بين كل جزء من الحمض النووي يجدها والعينة من الأرشيف.
عندما يقوم بإيجاد تطابق كامل 100%، يتم تنشيطه ويقطع الحمض النووي للفيروس، جاعلًا إياه عديم الفائدة، وبالتالي يقوم بحماية الجرثومة ضد الهجوم.

الأمر المميز في بروتين كاس9 هو أنه دقيق جدًا، تقريبًا مثل طبيب جراح الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA)
بدأت الثورة عندما اكتشف العلماء أن نظام كريسبر قابل للبرمجة. فقط يجب أن تقدم له نسخة من الحمض النووي الذي تريد تعديله وتضع النظام ضمن خلية حية. إذا كانت التقنيات القديمة في التلاعب الجيني مثل الخريطة، فإن كريسبر مثل نظام تحديد المواقع. بصرف النظر عن كونه دقيق، رخيص، وسهل، يوفر كريسبر القدرة على تعديل الخلايا الحية، تنشيط أو تثبيط الجينات، استهداف ودراسة تسلسلات معينة من الحمض النووي.

كما أنه يعمل على كل الأنواع من الخلايا: الكائنات الدقيقة والنباتات والحيوانات، أو البشر.

مقص مكسور

هناك مكونان رئيسيان في نظام كاسبر- كاس9 (CRISPR–Cas9): (أنزيم كاس9 Cas9) الذي يقوم بقص الحمض النووي مثل مقص جزيئي، وجزيء صغير من الحمض النووي الريبوزي (RNA)، يوجه المقص نحو تسلسل معين من الحمض النووي ليقوم بالقص.

عادًة، تقوم آلية إصلاح الحمض النووي الأصلية في الخلية بتعديل عملية القص — ولكن غالباً ما ترتكب أخطاء.

وهذا وحده هو نعمة للعلماء الذين يريدون تعطيل الجين للتعرف على ما يقوم به. لكن الشيفرة الوراثية لا ترحم: خطأ طفيف أثناء الإصلاح يمكنه أن يغير تسلسل البروتين الذي يشفره تمامًا، أو يوقف إنتاجه تمامًا. ونتيجة لذلك، يمكن للعلماء دراسة ما يحدث للخلايا أو الكائنات الحية عندما يتم تعطيل البروتين أو الجين.

ولكن هناك أيضًا مسار إصلاح مختلف يقوم في بعض الأحيان بتعديل القطع وفقًا لقالب الحمض النووي. إذا تمكن العلماء من توفير القالب، فسيتمكنون من إجراء التعديل على الجينوم.

في عام 2012، وبينما كانت المخابر تتسابق لشرح جودة أداة التعديل الجيني هذه في قطع DNA البشري , قرر واحد من فرق البحث اتباع أسلوب مختلف. ” إن أول شيء قمنا به هو تعطيل المقص”، يقول جوناثون ويسمان، عالم أنظمة الأحياء في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو (UCSF).

ولقد تعلّم ويسمان هذا الأسلوب من ستانلي تشي، عالم أحياء تصنيعي في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، والذي أحدث طفرة في أنزيم ( كاس9 ) حتى يحافظ على قدرته بربط الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين(DNA) في الموقع المطابق الحمض النووي الريبوزي (RNA) الموجِه، ولكن لا يقوم بقطعه.

بدلاً من ذلك يقوم الأنزيم بالتوقف في الموقع المطلوب ومنع البروتينات الأخرى من نسخ الحمض النووي(DNA) إلى الحمض النووي(RNA) .

و هذا النظام المُعدَل يسمح للباحثين بتحفيز أو تثبيط الجينات، و لكن من دون تغيير تسلسل الحمض النووي (DNA).

قام الفريق بعد ذلك بأخذ ” كاس 9 الميت ” و جربوا شيئًا جديدًا، فقد قاموا بربطه مع جزء من بروتين آخر يقوم بتفعيل التعبير الجيني. و مع بعض التعديلات، وجدوا طريقة لتفعيل و تثبيط الجينات حسب الرغبة .

ومنذ ذلك الوقت قامت عدة مختبرات بنشر العديد من الإصدارات حول هذه الطريقة، والعديد منها يتسابق لتسخير هذه الطريقة من أجل الأبحاث.

واحد من التطبيقات الشائعة هو الإنتاج السريع لمئات الأجيال المختلفة من الخلايا، و كل منها تحوي موجّه مختلف يستهدف جينا معيّنا. مارتن كابمان، عالم أنظمة أحياء آخر في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو(UCSF)، يأمل أن يفحص هذه الخلايا لاكتشاف ما إذا كان تحفيز أو تثبيط جينات معينة يؤثر في نجاة الخلايا العصبية المعرضة لمجموعة من البروتينات السامة، ويُعتقد أن هذه هي الآلية المسبّبة للعديد من الأمراض العصبية التنكسيّة، ومنها مرض الزهايمر.

و قد نفّذ كابمان فحصا مماثلاً باستخدام طريقة ” تداخل الحمض النووي الريبوزي (RNA) “، وهي طريقة تقوم بتثبيط الجينات، ويمكن أن تعمل على عدة جزيئات في وقت واحد، ولكن لها آثارها الجانبية. ”

إن طريقة تداخل الحمض النووي الريبوزي (RNA) هي البندقية المعروف عنها وبشكل كبير عدم إصابتها للهدف بدقة دوما “، يقول كابمان، ” و كريسبر هو مثل المشرط االذي يسمح لنا أن نكون أكثر دقة “.

كريسبر والأنماط فوق الجينية :

عندما بدأت عالمة الوراثة ماريان روتس (Marianne Rots) مهنتها، أرادت أن تكتشف علاجات طبية جديدة .

و قامت بدراسة العلاج الجيني، الذي يستهدف الجينات الطّافرة في الأمراض، و لكن بعد عدة سنوات، قرّرت أن تغيّر من سياستها في التفكير. ” لقد فكّرت أن الكثير من الأمراض تعود للخلل في التعبير الجيني، وليس للطّفرات الجينية الفردية التي كنت قد ركّزت عليها فقط “، تقول روتس، من المركز الطبي لجامعة غرونينجن في هولندا.

إن الطريقة الأفضل للتحكم بالنشاط الجيني برأيها كان من خلال تعديل الأنماط فوق الجينية، عوضا عن التحكم بالجينوم نفسه .

إن الأنماط فوق الجينية (الإيبيجينوم) هي مجموعة من العناصر الكيميائية المعلَّقة على الحمض النووي (DNA) والبروتينات المغلفة للحمض النووي (DNA) والتي تدعى الهستونات. و يمكن لهذه الأنماط أن تتحكم بالوصول للحمض النووي (DNA)، عن طريق فتحه وإغلاقه بوجه البروتينات اللازمة للتعبير الجيني.

وهذه المواد الكيميائية (العلامات) تتغير مع مرور الزمن، حيث يتم إضافتها وإزالتها مع تطوّر العضوية ومع تغير البيئة حولها.

في السّنوات الأخيرة, تمّ صرف ملايين الدولارات من أجل تصنيف هذه العلامات فوق الجينية في خلايا الإنسان المختلفة، و إن أنماطها مرتبطة مع كل شي من النشاط الدماغي و حتى النمو الورمي.

و لكن من دون القدرة على تعديل هذه العلامات في مواقع محددة، فإن الباحثين غير قادرين على تحديد ما إذا كانت هذه العلامات مسؤولة عن تبدّلات بيولوجية. ” إن مجال الدراسة هذا يواجه العديد من الصعوبات لأنه لا يملك العديد من الوسائل التي امتلكها علماء الوراثة، حيث أنهم كانوا قادرين على فحص وظائف الجينات بشكلٍ مباشر” تقول جيريمي داي، عالمة أعصاب في جامعة ألاباما في برمنغهام .

كريسبر-كاس9 يمكن أن يقلب الأمور رأسا على عقب. في نيسان 2015، تشارلز غيرباش، مهندس بيولوجي في جامعة ديوك في دورهام، شمال كارولينا، و زميله قاما بنشر طريقة لإضافة مجموعة الأسيتيل – واحدة من العلامات فوق الجينية – للهستونات وذلك باستخدام المقص المكسور لإيصال الأنزيمات لأماكن محددة في الجينوم.

وجد فريق البحث أن إضافة مجموعة الأسيتيل إلى البروتينات المرافقة للحمض النووي (DNA) كان كافيًا لرفع التعبير الجيني في الجين المُستهدف، مؤكدًا فعاليّة هذه الطريقة وأنه في هذا الموقع فإن العلامات فوق الجينية قد أحدثت تأثيرًا .

و عندما قام بنشر نتائجه، قام غيرباش بإضافة أنزيمه مع بلاسميد حتى تتمكن كل مجموعات البحث من استخدامه وقد قاموا باستخدامه بسرعة .

و تنبأ غيرباش بصدور العديد من الأوراق البحثية التي تظهر الفعل التآزري للتلاعب بالعديد من العلامات فوق الجينية في وقت واحد.

إن هذه الأساليب تحتاج إلى تصفية، حيث أن العديد من الأنزيمات يمكن أن تكوّن أو تمحي العلامات فوق الجينية على الحمض النووي (DNA)، وليس كل هذه العلامات قابلة للاستخدام بأسلوب المقص المكسور.

” لقد تبيّن أن هذه الطريقة أكثر صعوبة مما توقعه العديد من الناس “، يقول غيرباش: ” يمكنك أن تربط العديد من الأشياء مع كاس-9 الميت و لكنك تجد أنها لا تعمل”، و في بعض الأحيان من الصعب التفريق عمّا إذا كانت النتائج الغير المتوقعة التي ظهرت هي بسبب أن طريقة المقص المكسور لا تعمل، أو أنه بكل بساطة العلامة فوق الجينية المستخدمة لا تُحدث تأثيرًا في الخلية المحدّدة المستخدمة أو في البيئة المحيطة .

قامت روتس بالتحري عن وظيفة العلامات فوق الجينية على الجينات المرتبطة بالسرطان وذلك باستخدام طرق أقدم في التعديل الجيني و تدعى “البروتينات المرتبطة بالزنك أصبعية الشّكل “، وهي الآن تبنّت تقنية كريسبر- كاس 9 .

و تقول روتس أن هذه الطريقة الجديدة فتحت مجال البحث للجميع وهذا الأمر كان له تأثيرات واسعة. و تضيف أن الناس اعتادوا القول أن الارتباطات كانت محض الصدفة، وأنك إذا قمت بإعادة كتابة الأنماط فوق الجينية فلن يكون لها أي تأثير على التّعبير الجيني، و لكن لم يعد اختبار هذا الأمر صعباً الآن، و الكثير من الناس ينضمون لمجال البحث هذا.

كريسبر هو أداة قوية يمكن للعلماء الآن استخدامه لنقل التعديل الجيني لمستوى آخر وتطويره، و ذلك من خلال علاج الأمراض، محاربة السرطان، وحتى هندسة الإنسان بشكل كامل. إن هذا كلّه متاح الآن، والذي كان سابقا خيالًا علميًّا مجنونًا على وشك أن يصبح واقعنا الجديد.


ترجمة: ديانا نعوس / عماد دهان
تدقيق: جدل القاسم
المصدر الاول
المصدر الثاني
المصدر الثالث