تبين الصورة أدناه نتيجة الانبعاث الكتلي الإكليلي (CME) وما قد ينتج عنه من خروج جزء من سطح الشمس واندفاعه نحو الأرض. بعد ثلاثة أو أربعة أيام يبدو أن الغيمة الناتجة عن تدفق الكتلة الإكليلية ترتطم بالأرض ثم تنحرف بسبب المجال المغناطيسي المحيط، إذ تُمثل المسارات الزرقاء المنبثقة من قطبي كوكب الأرض بعضًا من الحقول المغناطيسية لها.

رصد عالم الفلك ريتشارد كارينغتون انفجارًا أبيض اللون على سطح الشمس عام 1859، وقد سُميت هذه الظاهرة نسبةً له وتُعد أقوى عاصفة شمسية رصدها العلماء حتى الآن. انتشرت آثار العاصفة حول القطبين الشمالي والجنوبي لكوكب الأرض، ونتج عنها شفق في كلا القطبين شديدي الإضاءة. واستطاع الناس في دول تشمل كندا وأستراليا رؤية ما عُرف بالأضواء الشمالية والجنوبية بوضوح في السماء بالقرب من القطبين وخط الاستواء.

وتسبب الانفجار الشمسي في حدوث أعطال كهربائية شملت مناطق جغرافية ممتدة من ولاية بوسطن وحتى مدينة باريس. وقد يبدو حدث كارينغتون مُجرد قصة تاريخية قديمة، ولدى العديد من الناس تساؤلات ومخاوف عن إمكانية تكراره مجددًا أو حتى ظهور كارثة أسوأ. تنبع هذه المخاوف من اعتماد البشرية على الكهرباء في كل مكان حول كوكب الأرض، والتداعيات التي ستتبع حدوث مثل هذه الكارثة.

حدث كارينغتون 1859

في الثاني من سبتمبر عام 1859 يوم الخميس الساعة 11:18 صباحًا، في بلدة ريدهيل حول ضواحي مدينة لندن، كان العالم كارينغتون يتحقق من وجود مجموعة من البقع السوداء على الشمس سماها بقعًا شمسية، حينها لاحظ ما وصفه بانتشار ضوء غريب دام خمس دقائق.

وفقًا لدراسة أجريت عام 2016 كان ذلك أول وهج شمسي شوهد في التاريخ. وقد رصدت مستشعرات الطاقة المغناطيسية في مرصد كيو في لندن عام 1859 اضطرابات كبيرة أصابت المجال المغناطيسي لكوكب الأرض بدأت يوم 7 أغسطس وحتى 2 سبتمبر لذاك العام.

تُشير دراسة 2016 إلى بروز أسطع الأشفاق منذ 160 عام حتى تلك اللحظة، ونقلت صحيفة تايم أوف لندن بتاريخ 6 سبتمبر عام 1859 تدفق الأمواج المضيئة بتتابع سريع حتى بلغت ذروتها. ونشرت صحيفة ويكلي ويست تقريرًا عام 1859 عن شدة الأضواء الملونة التي جعلت سكان ولاية ميسوري قادرين على القراءة بعد منتصف الليل.

بالنسبة لعمال مناجم الذهب في جبال روكي، يُوضح تقرير نشرته الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) أنه بات من الممكن الاستيقاظ في الواحدة ليلًا بالتوقيت المحلي وتحضير القهوة، ووجبة البيض واللحم المقدد، ظانين أن الشمس قد أشرقت بعد ليلة غائمة.

توضح الصورة ما سيبدو عليه الشفق الأحمر

توضح الصورة ما سيبدو عليه الشفق الأحمر

تَظهر الأضواء الجنوبية والشمالية عادةً بالقرب من القطبين الشمالي والجنوبي. ووفقًا لدراسة 2016، يتميز حدث كارينغتون بامتداد الشفق حتى المناطق الاستوائية، من ضمنها كوبا وجامايكا وبنما.

ظهر الشفق في النصف الجنوبي لكوكب الأرض أيضًا، وفقًا لتقرير نُشر في صحيفة خليج موريتون في أستراليا بتاريخ 7 سبتمبر عام 1859، وصف البعض ما رأوه في الخليج بأنهم رأوا الشفق الجنوبي لثلاث ليالِ متتالية الأسبوع الماضي، مُشيرين أن الشفق ظهر بعد شروق الشمس وتلونت السماء بشيء من الأحمر فائق الجمال.

وفقًا لما نشرته صحيفة واشنطن ستار تعرضت خطوط التلغراف لأحد أغرب ظواهر نقل الكهرباء، إذ أدى فائض الكهرباء في كل مكان إلى إتاحة آلات التلغراف إرسال الرسائل من نيويورك إلى بيتسبورغ دون الحاجة إلى تركيب بطاريات.
أفاد تقرير في صحيفة أخبار بتاريخ 24 سبتمبر 1859 أن الشرارات صارت تتطاير من آلات التلغراف في باريس.

نشرت نيويورك تايمز تقريرًا بتاريخ 5 سبتمبر عام 1859 يُوضح ما حدث لفريدريك رويس في ولاية واشنطن، إذ تعرض لصدمة كهربائية خطيرة جدًا شلت حركته لبضع ثواني.

يقول فريدريك عن رجل عجوز شاهد كل شيء: «وصف رجل عجوز كان يجلس أمامي، ولكن على بعد أقدام قليلة، أنه رأى شرارة نار تقفز من جبهتي».

إجمالًا، توضح نتائج دراسة عام 2016 أن حدث كارينغتون أثر على نصف محطات التليغراف في الولايات المتحدة تقريبًا.

ما الذي سبّب حدث كارينغتون؟

توصف ناسا التوهجات الشمسية بأنها أكبر الانفجارات في النظام الشمسي، وتُعد ثورانًا هائلًا للبلازما والإشعاع، ومصدر هذه التوهجات البقع الشمسية.

يوضح فيزيائي الشمس هدسون من جامعة غلاسكو في اسكتلندا في دراسة نُشرت عام 2021 في مجلة علم الفلك والفيزياء الفلكية (A&A): «تحدث التوهجات الشمسية عند تراكم الطاقة المغناطيسية داخل الشمس. حينها، تُطلق الشمس هذه الطاقة الزائدة على هيئة التوهجات العنيفة».

يتبع حدوث التوهجات الشمسية إطلاق فقاعات كبيرة جدًا من المادة ذاتها تُسمى الانبعاث الكتلي الإكليلي (CME)، وتحمل هذه الانبعاثات معها أطنانًا من مادة البلازما؛ مُكونةً سحابات من الجسيمات المشحونة بالكهرباء التي تتطاير بسرعة تصل إلى ملايين الكيلومترات في الساعة وفقًا لما رصدته وكالة ناسا.

أوضحت دراسة هدسون عام 2021 أن الإشعاع الذي صدر عن حدث كارينغتون يحوي كميات من الطاقة تُعادل (4×10^32) إرج من الطاقة أي 10 مليار قنبلة نووية 1 ميغا طن تقريبًا، وقُدِرَ الانبعاث الإكليلي الكتلي بنحو (3×10^32) إرج من الطاقة الحركية. ويُشير هدسون في دراسته إلى أن حدث كارينغتون سبّب عاصفة أرضية مغناطيسية.

من المحتمل أن حدث كارينغتون أدى إلى قذف كتلة إكليلية ضربت كوكب الأرض حاملةً معها غيوم من البلازما شديدة الحرارة، التي حملت بداخلها حقولًا مغناطيسية قوية.

عند تعرض المجال المغناطيسي لكوكب الأرض الذي يُشكل غلاف يحجز فيه البلازما المحيطة لمثل هذه الانفجارات، فإن النتيجة تكون تدفق البلازما واصطدامها مع الجزيئات الموجودة في الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى ظهور الشفق.

(يطغى اللونان الأحمر والأخضر في هذه الصورة لشفق لأورورا أستراليز المُلتقطة بوساطة مكوك STS-39 الفضائي بتاريخ مايو 1991 في ذروة العاصفة الجيومغناطيسية. عند بلوغ النشاط الشمسي ذروته، تكثر العواصف الجيومغناطيسية ومعها ظهور الشفق الذي يراه رواد الفضاء من مدار الأرض).

قد تؤدي التوهجات الشمسية إلى توليد شحنات كهربائية قوية جدًا داخل المجال المغناطيسي لكوكب الأرض، ووفقًا لتقرير الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA): «تُسبب هذه الشحنات بدورها اضطرابات مغناطيسية في باطن الأرض، ما يؤدي إلى توليد شحنات كهربائية على امتدادات طويلة من المواد الموصلة للكهرباء مثل خطوط نقل الطاقة وكابلات الاتصالات وخطوط الأنابيب».

قد تسبب العواصف الجيومغناطيسية أضرارًا فادحة في أنحاء كوكب الأرض. إذ نقلت ناسا ما حدث عام 1989، حين أدت عاصفة جيومغناطيسية إلى انقطاع التيار الكهربائي عن كامل مقاطعة كيبيك في كندا خلال 90 ثانية، ما أدى إلى تعطيل النشاط الاقتصادي لأكثر من 6 ملايين زبون لمدة تسع ساعات.

وصلت أضرار العاصفة إلى محولات كهربائية في ولاية نيو جرسي الأميركية وحتى محول كهربائي داخل محطة توليد طاقة نووية.

تسببت هذه العاصفة أيضًا في خروج شبكات الكهرباء في المناطق الممتدة من الساحل الشرقي حتى شمال غرب المحيط الهادئ في الولايات المتحدة.

تقول منظمة NOAA: «قد تُعطل العواصف الجيومغناطيسية الاتصالات اللاسلكية وأجهزة تحديد الموقع عبر تغيير طبيعة الغلاف الجوي، إذ تختلف مسارات انتقال إشارات الراديو».

مثلًا، وفقًا لدراسة أجرتها وزارة الأمن الوطني عام 2011، منعت عاصفة الهالوين عام 2003 إدارة الطيران الفيدرالية من توفير خدمات تحديد الموقع طوال 30 ساعة تقريبًا.

وأضافت منظمة NOAA: «أن البلازما الشمسية تُسخّن الطبقات العلوية للغلاف الجوي، ما يؤدي إلى توسعها وما يُرافق ذلك من إسقاط الأقمار الصنعية الموجودة في موقع منخفض حول مدار الأرض».

ماذا لو تكرر حدث كارينغتون؟

قد أصبح العالم اليوم معتمدًا على الكهرباء أكثر من أيّ وقت سبق، فلو توجهت عاصفة شمسية بنفس شدة كارينغتون نحو الأرض، ستكون الأضرار غير مسبوقة بتاتًا، أما لو حدث انفجار شمسي بعيدًا عن الأرض، فلن يتضرر كوكب الأرض مباشرة.

مثلا، أجرت شركة التأمين العملاقة لويدز الموجودة في لندن دراسة سنة 2013 تتنبأ بمقدار الخسارة المادية المحتملة في حال تكرار حدث كارينغتون. أشارت نتائجها إلى أن الخسارات المحتملة سببها انقطاعات التيار الكهربائي باستمرار وقد وُضع الرقم 2.6 تريليون دولار تقديريًا لحجم الخسارة المادية في شمال أمريكا لو خرج قطاع تأمين الطاقة الكهربائية عن العمل.

شملت الدراسة أيضًا احتمال التداعيات في حال انقطاع الكهرباء مدة سنين على مستوى العالم، فالعاصفة ستسبب ضررًا كبيرًا لمحولات الجهد العالي التي يصعُب استبدالها بنفس الوقت، ما سيؤدي إلى تعطيل الأسواق المصرفية، والبنوك، والاتصالات، والمعاملات التجارية، وخدمات الصحة والإسعاف، وآلات ضخ المياه، ووسائل نقل الطعام والوقود.

أظهرت دراسة مشابهة أجريت عام 2017 ونُشرت نتائجها في مدونة سبيس ويذر أسوأ احتمال لانقطاع الكهرباء، فسوف يؤثر في 66% من سكان الولايات المتحدة. وقد تصل الخسائر المادية إلى 41.5 مليار دولار يوميًا إضافةً إلى 7 مليارات دولار سببها تعطل خطوط الإمداد الدولية عن العمل، وإذا أثرت فقط على الولايات الشمالية المتطرفة التي يُشكل سكانها 8% فقط من المجموع الكلي ستكون الخسائر المادية في اليوم الواحد 6.2 مليار دولار تُضاف إليها خسائر تعطل خطوط الإمداد الدولية التي تُقدر 0.8 مليار دولار.

مع أن حدث كارينغتون كان قويًا جدًا، يقول هدسون عبر موقع لايف سبيس: «إن العالم قد شهد سابقًا حدثين قريبين من المستوى الكارثي لحدث كارينغتون. مثلًا، تسببت توهجات العاصفة الشمسية هالويين سنة 2003 وحدث كارينغتون بإصدار كميات متقاربة من الطاقة المُشعة».

يرى هدسون أن وهجًا شمسيًا بقوة ذلك الذي صدر عن حدث كارينغتون لن يُشكل تهديدًا كبيرًا للبشرية كما هو متوقع، لكنه لا ينكر الأضرار التي ستحدث لو تكرر حدث كارينغتون، ويشير قائلًا: «المتضرر الأول هو البشر ونشاطاتهم في الفضاء، لسنا قادرين بعد على التعامل مع مثل هذه الكوارث خلال استكشاف الفضاء. هذا الكلام صحيح، فقد أجرى رواد فضاء مهمة أبولو رحلاتهم إلى القمر وهم عُرضة لأضرار النشاط الشمسي … أن هذا الإشعاع الشمسي خطير جدًا على البشر غير المجهزين بعدة حماية، لكن رحلة أبولو نجحت لقلة الإشعاع الشمسي الموجود حينها».

عثر العلماء على أدلة تُشير إلى أن الشمس قد تُطلق توهجات شمسية فائقة تحمل عشرة أضعاف الطاقة الشمسية الصادرة عن حدث كارينغتون. إذ أوضحت دراسة نُشرت سنة 2021 نتائجها مستندة على البيانات التي جُمعت بوساطة تلسكوب كبلر المتوقف الآن أن 15 نجم شبيه بالشمس أطلقوا 26 توهجًا شمسيًا فائقًا خلال أربع سنوات، وتحمل هذه التوهجات الفائقة كميات من الطاقة تزيد عن تلك الصادرة عن حدث كارينغتون 100 مرة. وتوافقت النتائج مع دراسة عام 2020 نُشرت في مجلة الفيزياء الفلكية خلال السنة الأولى لإطلاق مركبة ناسا المسماة TESS.

وجد العلماء دليلًا بعد تحليل الحلقات الشجرية الكربونية الناتجة عن الانفجارات الشمسية، فكانت ذرات الكربون-14 تحمل نشاطًا إشعاعيًا، إذ يتميز هذا النوع من الكربون عن الكربون الطبيعي بوجود زوج إضافي من النيوترونات في أنوية ذراته.

يقول هدسون: «إن زيادات في وجود الكربون-14 في الطبيعة خلال الفترات الزمنية 660 قبل الميلاد، و774 بعد الميلاد، وكذلك 994 بعد الميلاد كان سببها توهجات شمسية فائقة أقوى من تلك الصادرة عن حدث كارينغتون … لا يمُكن عادةً الكشف عن حدوث شيء مثل حدث كارينجتون أو أحداث مشابهة عبر تحليل الكربونات-14، لذلك ما وجدناه من تحليل العينات القديمة غير اعتيادي».

ما موعد حدوث مثل هذه العاصفة مستقبلًا؟

تُشير البيانات التي جُمعت بوساطة مرصاد كبلر التي نُشرت نتائجها في مدونة دراسة الفيزياء الفلكية لعام 2021 أن توهجات شمسية تحمل طاقة أكبر من حدث كارينغتون بعشر مرات تحدث كل 3000 سنة، والتوهجات الأقوى 100 مرة تحدث كل 6000 سنة.

يقول هدسون: «إن مُعدل إطلاق الشمس لتوهجات تتطور إلى عواصف شمسية مثل عاصفة كارينغتون أو أشد غير مفهوم».

يعلم العلماء أنه يوجد عدد لا بأس به من ذرات الكربون-14 الموجودة في الحلقات الشجرية التي تنتج عن الانفجارات الشمسية. هذه الذرات مُتناثرة في الفضاء منذ عصر الهولوسين الممتد 10,000 سنة.

يقول هدسون: «لا نعلم ما علاقة هذه الذرات بمعدل حدوث العواصف الشمسية، وحتى نستطيع فهم ذلك فهمًا أفضل، لا يُمكن التنبؤ بموعد العاصفة الشمسية التالية».

اقرأ أيضًا:

عاصفة شمسية أدت إلى توهج في السماء في 30 من مارس

يزعم العلماء أن العواصف الشمسية المدمرة تضرب الأرض كل 25 عامًا!

ترجمة: طاهر قوجة

تدقيق: تسبيح علي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر