إذا كان كوننا الفسيح يعجُّ بالمجرات والنجوم والكواكب، فأين المخلوقات الفضائية؟ لماذا لم تصلنا منهم إشارات؟

هذه الأسئلة البسيطة أهم ما تضمنته مفارقة فيرمي. طرح باحثان في بحث جديد السؤال: إلى متى يجب الانتظار لوصول إشارة من حضارة فضائية أخرى؟ كانت الإجابة 400 ألف سنة.

400 ألف سنة تُعد فترة انتظار طويلة جدًا بالنسبة للبشر الذين ظهروا قبل بضع مئات آلاف السنين واكتشفوا الزراعة منذ نحو 12 ألف سنة تقريبًا.

يجب استمرار وجود الإنسانية 400 ألف سنة حتى تأتي الفرصة للتواصل مع حضارات فضائية أخرى. وفقًا لما ذُكر في بعض الدراسات الحديثة المتعلقة بالبحث في الحضارات الفضائية الذكية القادرة على التواصل (CETIs).

فى هذا الصدد، قدم الباحثان وينجي سونج وهي جاو من قسم علم الفلك بجامعة بكين ورقة بحثية بعنوان: عدد الحضارات الفضائية الذكية القادرة على التواصل، المُحتمل وجودها داخل مجرتنا وفرص التواصل بين هذه الحضارات. نُشرت هذه الورقة البحثية في مجلة أسترو فيزيكال.

قال الباحثان :«بوصفنا الحضارة الوحيدة الذكية المتطورة الموجودة على كوكب الأرض، فإن أكثر الأسئلة المُحيرة للبشر، هل وجودنا فريد من نوعه أم لا؟

قُدمت العديد من الدراسات في العقود القليلة الماضية، حول إمكانية وجود حضارات خارج كوكب الأرض».

تجدر الإشارة إلى أن دراسة الحضارات الأخرى أمر محير بالنسبة للعلماء، إذ كل ما لدينا من معلومات هو حقيقة وجود البشر على كوكب الأرض. يحاول الكثير من الباحثين الإجابة عن هذا السؤال في إطار تجارب فكرية باستخدام إرشادات علمية دقيقة. مثل، ورد في دراسة أُجريت عام 2020 وجود حوالي 36 CETIs في مجرة درب التبانة.

عدد CETIs المحتمل وجودها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفترة الزمنية التي يجب مرورها لوصول إشارات من أيٍّ منها.

ذكر الباحثان فى دراستهما: «لطالما أردنا الإجابة عن الأسئلة التي أوّلها وأكثرها صعوبة: كم عدد الحضارات الفضائية الذكية القادرة على التواصل CETIs، الموجودة فى مجرة درب التبانة؟ في الوقت نفسه ليس لدينا بيانات مؤكدة سوى حقيقة وجود البشر».

هنا يأتي دور معادلة دريك، بناء على معرفتنا المتزايدة بمجرة درب التبانة، حاولت معادلة دريك التوصل لعدد الحضارات الفضائية الذكية التي يمكن التواصل معها فى مجرة درب التبانة.

تحوي معادلة دريك أخطاء كما أوضح العديد من النقاد. مثلًا، قُدِّرت بعض العوامل المتغيرة فى المعادلة بصورة تخمينية غير حقيقية، لذا لا يمكن الاعتماد على عدد الحضارات المُقدرة. لكن معادلة دريك تجربة فكرية أكثر من كونها عملية حسابية دقيقة. ما دفع الباحثان للبدء من جديد.

أوضح الباحثان: «معظم الدراسات حول هذا الموضوع تستند إلى معادلة دريك، تكمن صعوبة هذه الطريقة بعدم إمكانية التأكد أو التنبؤ باحتمال ظهور حياة على كوكب مناسب وتطورها لتصبح حضارة متقدمة قادرة على التواصل معنا».

ليس لدينا معلومات كافية لتحديد العدد الحقيقي للحضارات الأخرى الموجودة علميًا، أو حتى الجزم بحقيقة وجودها. هذه الدراسات هي فقط حوار مستمر مع أنفسنا عن هذه المعضلة، هذا الحوار يُلهمنا الأفكار عن السياق الذي انطلقت منه حضارتنا.

إذًا من أين جاءت فرضية انتظار 400 ألف سنة لوصول إشارة من حضارة فضائية أخرى، بالرغم من عدم التوصل إلى عدد الحضارات الفضائية الأخرى؟

لم يكن الباحثان أول من حاول الإجابة عن هذا السؤال. تضمنت ورقتهم البحثية الخطوط الرئيسية لجهود علمية سابقة، في محاولة لفهم كيفية نشوء حضارات أخرى في مجرة درب التبانة. حيث أشار الباحثان إلى دراسة سابقة أجريت عام 2020، توصلت إلى وجود 36 CETIs فى مجرة درب التبانة.

نتج هذا العدد من عمليات حسابية شملت تواريخ تشكّل نجوم المجرات وتوزيع المعادن فيها، واحتمالية استضافتها كواكب شبيهة بكوكب الأرض في مناطقها الصالحة للحياة.

أكّد الباحثان في ورقتهم البحثية أن مادة البحث المعنيّة بالحضارات الفضائية CETIs ستبقى كليًا قيد الافتراض حتى حدوث اكتشاف إيجابي.

أشاروا أيضًا إلى إمكانية تصميم نماذج قيّمة ذات أساس علمي قائم على الفرضيات المنطقية القادرة على توفير تقديرات مقبولة لمعدل نشوء مثل هذه الحضارات.

تعالج هذه الدراسة عاملين لهما قيم متغيرة وغير مفهومين بشكل كلي. يشير العامل الأول إلى عدد الكواكب الصخرية الشبيهة بالأرض الصالحة للحياة، وكم منها تطورت لتصبح حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل. العامل الثاني يحدد المرحلة التي تنشأ فيها حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل في النجم المُضيف لهذه الكواكب.

أعطى الباحثان لكل عامل متغيرًا خاصًا به فى عملياتهم الحسابية. المتغير (fc) يرمز إلى احتمالية ظهور حياة وتطورها إلى حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل، والمتغير (F) يرمز إلى المرحلة المطلوبة من مراحل تطور النجم المُضيف.

أجرى الباحثان سونج وجاو سلسلة من عمليات المحاكاة تُدعى (مونت كارلو)، مستخدمين في كل مرة قيمًا مختلفة لهذه المتغيرات، توصلت نتائجهم إلى سيناريوهين، واحد يبعث على التفاؤل والآخر على التشاؤم.

السيناريو الأول: بالتعويض عن قيمة F في المحاكاة 25%، وقيمة fc 0.1%، ينتج ضرورة وصول النجم المضيف إلى 25% على الأقل من متوسط عُمره قبل بزوغ حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل CETI. بالنسبة للكواكب الصخرية الشبيهة بالأرض، فلديها احتمالية 0.1% لتظهر على أرضها حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل.

هذه النتائج المتفائلة تخلق أكثر من 42 ألف CETIs محتملة فى مجرتنا. ربما تبدو كثيرة بعض الشيء، لكنها لن تكون كذلك عند الأخذ في الحسبان انتشارها في أنحاء المجرة خلال أزمنة مختلفة. بالإضافة إلى ضرورة استمرار الحضارة الإنسانية لمدة 2000 سنة قادمة لنتمكن من التواصل بطريقة تبادلية مع أي من هذه الحضارات، يبدو هذا الأمر ممكنًا.

هذا السيناريو يجعل الكون يبدو مأهولًا بحضارات أخرى ودودة. ربما تواصلت بعضها بالفعل ويجب علينا الانضمام إلى هذا الاتصال.

أمّا السيناريو الثاني (المتشائم): بتعويض F: 75% و fc: 0.001%، لن يتمكن النجم من استضافة حضارة فضائية ذكية قبل وقت طويل من دورة حياته، ما يعني انخفاض احتمالية استضافة أي كوكب صخري شبيه بالأرض، لحضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل CETI، إلى نسبة ضئيلة جدًا. أين تقودنا هذه المُعطيات؟

بحسب نتائج السيناريو، هناك حوالي 111 حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل محتمل وجودها فى مجرة درب التبانة. تحتاج الحضارة الإنسانية إلى 400 ألف سنة للتمكن من التواصل مع هذه الحضارات.

هنا يأتي دور المُرَشِّح العظيم، كل ما يُعرقل وجود الحياة في المادة ثم تطورها تدريجيًا لتصبح حضارة متقدمة.

تطرّق الباحثان لهذا المفهوم، إذ كتبا: «افتُرض أن متوسط عمر الحضارات يبدو محدودًا ذاتيًا، يرجع السبب إلى حدوث الكثير من الاضطرابات المحتملة، مثل القضايا السكانية والدمار النووي وتغيرات المناخ المفاجئة والمذنّبات الطائشة والتغيرات البيئية وغيرها. إذا كان يوم القيامة حقيقيًا، فلن يتمكن البشر في أسوأ الظروف من استقبال إشارات من حضارات فضائية ذكية قبل الانقراض».

أكّد الباحثان في ورقتهم البحثية: «تتحكم عوامل أخرى نجهلها في قيمة fc وF». ما ينطبق على أي عمل أو دراسة حول هذا الموضوع. هذه الورقة البحثية وغيرها حول الموضوع ذاته، تُعدّ تجاربًا فكرية بدلًا من نتائج مؤكدة.

لا يمكن التأكد من كل ما ذُكر، لكن لا يسعنا إلا إلزام أنفسنا باكتشافها، فهذا جزء من الطبيعة البشرية.

أضاف الباحثان: «نجهل تمامًا نسبة الكواكب الصخرية الشبيهة بالأرض القادرة على احتضان حياة على سطحها، ولا يمكن التنبؤ بعملية تطور هذه الحياة إلى حضارة فضائية ذكية قادرة على إرسال إشارات يمكن اكتشافها».

هل ستواجه الحضارة الإنسانية حضارة أخرى يومًا ما؟ إنه أحد أكثر الأسئلة المُلّحة التي تطرح نفسها بقوة. في الوقت الحالي لا يستطيع أحد الإجابة.

أولًا، يجب أن توجد حضارات فضائية ذكية أخرى قادرة على التواصل، ثم يجب أن يتزامن وجودنا معها وأن نتواصل بطريقة ما. من الممكن وجود حضارات أخرى اكتشفت بالفعل الحياة على كوكب الأرض قبل أن يمحيها المُرَشّح العظيم أو ربما بواسطة كارثة طبيعية مثل انفجار سوبرنوفا. لن نعرف الحقيقة أبدًا.

من جهة أخرى، قد تبقى البشرية لفترة طويلة، وربما ينتهي الحال بكوكب الأرض غير صالح للحياة دافعًا البشر إلى الهروب لكوكب المريخ أو مكان آخر. لو تخيلنا أنّ الفئة المتعثرة الناجية من أحفاد كوكب الأرض المُدمَّر استطاعت العيش على أرض كوكب المريخ الخالي من الحياة منذ أمد طويل، فهل يؤهله هذا ليصبح حضارة فضائية ذكية قادرة على التواصل؟

من الرائع تخيل وجود حضارات أخرى تغلبت بنجاح على المشاكل التي تواجهنا. هل سيتحقق هذا أم سنواجه حقيقة أن أول حضارة فضائية ذكية نكتشفها لن تكون أكثر من امتداد لحضارة كانت فخورة وواثقة إلى أن كبَح المرشح العظيم جماح تقدمها؟

من يدري؟ إذا قابلت البشرية فصيلة تكنولوجية أخرى، قد يستحيل مستقبلًا التمييز بين أحفادنا والبشر المعاصرين. أو ربما يمنعنا المرشح العظيم من الحصول على إجابة.

إذا كانت البشرية بحاجة هدف باعث على الأمل للتشبث به، فإن حلم التواصل مع حضارة فضائية أخرى يحقق هذا الهدف.

اقرأ أيضًا:

المكعب الغريب الموجود على القمر لا يمت بصلة للمخلوقات الفضائية

هل يكون الأطفال هم الوسيلة للتواصل مع المخلوقات الفضائية ؟

ترجمة: سوزان عثمان

تدقيق: سماح عبد اللطيف

مراجعة: نغم رابي

المصدر