تُمارَس الفلسفة السياسية اليوم في ضوء الانتصار الملموس لليبرالية، منطلقةً من افتراض لا منطقية مقاومة الليبرالية ، بوصفها نظامًا اجتماعيًا أو طريقةً في التفكير، مفترضةً لا عقلانية بل مَرَضية هذه المقاومة. ورغم محاولات المنتقدين المتكررة إثبات عدم اتساق قيم الليبرالية وتناقضها، تبدو هذه القيم صامدةً أمام الزمن، وأصبح البحث عن حلول للمشكلات الاجتماعية المُلحة خاضعًا لمقاييس النظام الليبرالي العالمي.

يتساءل إي بي تومسون: «كيف أدت أفكار المساواة والحرية والمشاركة إلى مجتمع تسوده القوة والهمينة واقتتال الأخوة؟». في حين يدافع هوبسون عن الليبرالية كونها تناصر التقدم والتحرر وحقوق الإنسان، وتؤمن بعالَمية هذه المعايير والمبادئ، مع إن الليبرالية المركزية الأوربية تُطبق هذه المبادئ على مجتمعات معينة فقط، بزعم أن أفرادها يتمتعون بالعقلانية الكاملة في (أوروبا المتحضرة)، في حين لا ينطبق ذلك على الكيانات السياسية غير الأوربية كونها تتضمن أفرادًا ومؤسسات (لا عقلانية).

أسست وجهة النظر هذه لمهمة (نشر الحضارة) في النظام الاستعماري، وقدمت العديد من المبادئ والرؤى الإمبراطورية المسوِّغة لذلك. ولعل باركر كان أفضل من عبّر عن مفهوم الاستعمار حين قال: «تتضح أهمية هذا المفهوم، ليس عند استخدامه في الفترة التاريخية التي تلت استقلال المُستعمَرات، بل عندما بدأت القوى الاستعمارية تطبع نفسها على الآخر، وهو ما استمر خفيةً في السياسة العالمية الحديثة».

خلق أوروبا: خطاب الحضارة - مقاييس النظام الليبرالي العالمي - النسيج الثقافي الأوروبي - العالم المعاصر بتكوينه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي

أفضل الحقب التي يمكن عبرها فهم العالم المعاصر بتكوينه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي فهمًا أعمق، هي حقبة الحكم الاستعماري الأوروبي، ويتضمن ذلك الدول الأوروبية التي احتلت بلدانًا أخرى في أثناء الفترة الاستعمارية، وهي فترة أساسية في تأثيرها الماضي والحاضر في الخطاب السياسي.

ليس هدف هذا المقال توفير خطة تغيير جذري للمجتمعات الليبرالية ، أو تجاهل تفوقها الأخلاقي والسياسي مقارنةً ببدائلها الاجتماعية التاريخية والمُعاصِرة، بل النظر بعين ناقدة إلى تطور الفضائل الليبرالية من العقلانية والتقدّم والتحرر، التي تطورت في فترة صراع أوروبا مع هويتها لتُشكّل مفهومًا معاصرًا في إطار يحفظ علاقة القوة والسلطة.

سأمهد لخلاصة المقال عبر تقسيمه إلى جزأين مترابطين، أولًا: مناقشة التحوّل من العصور الوسطى الى عصر التنوير، مرورًا بالثورة الاسمية، مع التركيز على مفاهيم الحداثة والعقلانية ومبدأ الكونيّة، وسأوضح كذلك مدى تأثير علمنة الفلسفة والشعور المجزأ بالوحدة في أوروبا على تفاعلها مع العالم بعد ذلك، وثانيًا: بحث مفهوم (الاختلاف غير القابل للتسوية) الذي استخدمته أوروبا لبناء هيمنتها والحفاظ عليها.

التكريس الأوروبي:

بدأ وعي العالم الحديث بنفسه في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لكن من الخطأ الاعتقاد أن الحداثة بدأت في نفس الوقت، إذ يشبه هذا الاعتقاد بأن الحياة الإنسانية بدأت حين بدأ الإنسان يدرك ذاته.

لم يظهر الانتقال نحو الحداثة مكتملًا، بل تطور عبر حقبة طويلة من الزمن، في سياقات اجتماعية وتاريخية متنوعة. لذا يجب علينا أن نفحص -باستقصاء موسع- التطور المبكر غير الواعي للعالم الحديث كي نفهم طبيعة هذا العالم وبنيته.

مثلًا، بدأت الخلافات بشأن العقيدة الاسمية في نهاية العصور الوسطى، ما أدى إلى أزمة في الفكر المسيحي تتعلق بطبيعة الله، ومن ثم طبيعة الوجود. ورغم تجذره العميق في سياسة الكنيسة وفي العلاقة بين السلطتين الكنسية والدنيوية في أوروبا القرون الوسطى، اتخذ النقاش شكل خلاف لاهوتي حول الحالة الميتافيزيقية للكون.

كان اللاهوت المسيطر في الكنيسة هو (التوماوية)، نسبةً إلى توما الأكويني. وفقًا لهذا اللاهوت، يمكن فهم العالم اجتماعيًا وسياسيًا بوصفه سلسلةً من القوانين والأوامر الإلهية، وأن الوقت خاضع لإرادة الله، فللعالم بداية ونهاية ومسار تطوري، وهو مشروح مجازًا في النصوص المقدسة.

وعلى ذلك، فإن أي مذهب (جديد) أو علماني يُعَد بالتأكيد تراجعًا وانحطاطًا. أبرزت الكتابات المثيرة للجدل لوليم الأوكامي وسواه من دعاة الاسمية موقفًا فكريًا جديدًا تحدى وجود الكونية بوصفها تجليًا للعقل الإلهي. فلم يعد الله مُقيَّدًا بحدود المنطق الكوني، بل أصبح مرتبطًا بالعالم وفق علاقة اعتبارية، وأصبح ممكنًا تصور الوقت بوصفه خطيًّا ولا نهائيًا وتقدميًا، لا انتكاسيًا. فلم يعد الإله (الرمزي) المثالي العالمي كائنًا كباقي الكائنات، بل أصبح قوةً مؤثرة ومبدأ يستطيع الإنسان بلوغه، وأكد هذا استبدال مبدأ القياس بالمنطق العقلي بوصفه أساسًا للبحث، ما مهد الطريق لإحساس عقلاني في الحكم، سيشكل الحداثة التي لا ترى في الإله قمة النظام العقلي.

نتيجةً لذلك، بدأت أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر عهدها الجديد من المسيحية العلمانية، وأخذت المسيحية تضمحل تدريجيًا.

ثم اختارت أوروبا ألا تستقي هويتها من الداخل، إذ أصبح إنشاء هوية سياسية وثقافية متجانسة أمرًا غير قابل للتحقيق، بل عرّفت هويتها عبر صياغة نظام من التناقضات العالمية، مدعومًا بإيمان كوني بالعقل وبتفاصيل مُكتسَبة من الثورة الاسمية.

وبدلًا من الانفصال الكلي عن المسيحية، اختارت أوروبا ببساطة أن تصبح أقل خضوعًا وارتباطًا بالمسيحية القديمة أو بديلها الجديد: الإسلام.

أصبحت القطبية الجديدة قطبيةً بين الحضارة والطبيعة، العالم الأوروبي مقابل غير الأوروبي، الذي يمكن وصفه أيضًا بالهمجية وعدم التحضر. ركزت أوروبا بصورة متزايدة على المُثل اليوتوبية الفاضلة للتقدم، التي صارت مترادفة مع فكرة الحداثة.

ونجحت أوروبا في الهيمنة على العالم بفضل الإنسانية المسيحية من جهة والعقل والمنطق من جهة أخرى، مع حس مستمر بالتفوق والتحديث.

مع سقوط المسيحية بوصفها نظامًا سياسيًا، بعد أزمة النظام القديم الكبرى سنة 1789، نشأت فضاءات ثقافية- سياسية ازدادت فيها أهمية الأيديولوجية. وشهد القرن الثامن عشر ظهور أوروبا بوصفها نموذجًا ثقافيًا مع انقسام أوروبا الغربية إلى قوميات. وتوقع الفيلسوف التنويري جان جاك روسو عصرًا يشهد زوال فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وحتى إنكلترا، فلا يوجد إلا أوروبيون، يتشاركون نفس المشارب والرغبات ونمط الحياة. تعكس هذه الرؤية روح القرن الذي شهد الصعود التاريخي لفلسفة علمانية جديدة أساسها العقل. وعلى هذا صار على أفكار أوروبا أن تصلح عالميًا لكل الشعوب، في حين نُظر الى الأفكار غير الأوربية أنها منحرفة عن المعايير التي أسستها العقلانية الأوربية.

وهكذا استطاعت أوروبا أن تنشئ استعمارًا عقليًا متحمسًا، إذ لم يهدف الغرب إلى إقناع الآخرين بصواب أفكاره، بل إلى حملهم على القبول بوجود قيم عالمية غير مشروطة للعقلانية. يقول ماكس فيبر: «لا يمكن تعريف العقلانية بالقوى الناتجة عن حداثة الغرب فحسب». يمكن الحديث عن جينالوجيا (أصل) العقلانية، إلى جانب ضرورة العقلنة، بدلًا من هيمنة وحدة غائية العقل.

كان مصطلحا (حضاري) و(متحضر) موجودين قبل القرن الثامن عشر، لكن الفلاسفة الفرنسيين في ستينيات القرن الثامن عشر استخدموهما للدلالة على مفاهيم التقدم والعقلانية والحداثة. وهكذا وضع عصر التنوير أساسًا لإطار جديد للحضارة العالمية، بتحرير الخيال الإنساني والعلم من أغلال تقاليد النظرة المسيحية للعالم. أوجدت أوروبا تراتبية هرمية للحضارات حُدِّدت وفق تقدم خطي مُطرد، أي أن العالم غير الأوروبي أصبح يُنظر إليه أنه أوروبا كما كانت سابقًا: عالم جامد غير ناضج يفتقر إلى إمكانية التقدم.

ووفقًا لغياتري سبيفاك فإن الفئات البسيطة مثل الجنود والصيادين والمزارعين هم من أنتجوا انقطاعًا ثابتًا عن الغاية الكاملة للمنطقية والعقلانية.

ومع ذلك، يجب ألا تلهينا هذه التطوّرات عن البقايا العلمانية للنظرة المسيحية للعالم، تلك البقايا التي نجت من عملية الانتقال إلى الحداثة، وكانت أساسًا لأشكال جديدة من الهوية الأوروبية القائمة على الإنسانية والمفاهيم المسيحية قدر استنادها إلى العقلانية.

عبر أسطورة (سقوط الإنسان) ووعد الخلاص يمكن إنقاذ الإنسانية الساقطة. رافقت هذه الأخلاقيات المسيحية ظهور (مهمة نشر الحضارة) في القرن التاسع عشر، حين أصبحت أوروبا مقياسًا للحضارة وأخذت على عاتقها مسئولية تجديد الحضارات (المفقودة).

كان الاهتمام بالثقافات الأخرى أحد أكثر الموروثات رسوخًا منذ عصر التنوير، إذ أصبح (الآخر) مثارًا للفضول، ما وفر وسيلة لتأسيس الهوية والمحافظة عليها في عالم الحداثة المُلتبِس. وبالاحتفاظ بمسافة بين (الأنا) و(الآخر)، أمّنت أوروبا لنفسها هويةً عالميةً بنظرة موحدة. فحُلَّت مشكلة (الكوني مقابل الجزئي) بإفصاح أوروبي عن المشروع العالمي للقومية، بهدف نشر التحضر والثقافة الأوروبية في العالم. برر إحساس التفوق الأوروبي على كل ما هو غير أوروبي المطامع الاستعمارية التوسعية. ولافتراضهم تدني القدرات الجسدية والعقلية عند غير الأوروبيين، ما يجعلهم غير قادرين على الإنجازات الثقافية الكبيرة التي تريد أوروبا الحديثة تحقيقها.

فُسِّر الاختلاف الديني بأنه فساد وثني، أما تقنيًا فقد كان واضحًا للأوروبيين تفوقهم على غير الأوروبيين في تطويع الطبيعة. واحتفى شاعر البلاط الاستعماري كيبلنج بهذه الفكرة في قصيدته الشهيرة (عبء الرجل الأبيض)، فالعرق الأنجلوساكسوني -حسب كيبلنج- هو الأجدر بحمل عبء الحضارة. لكن يمكن أيضًا أن نقول إن طريقة التقسيم الثنائية هذه التي سادت في عصر الاستعمار قد كرست الاختلافات، كونها تجاهلت أوجه التشابه وكانت سطحية للغاية.

تشكل العالم بسبب فكرة (الآخر)، التي اعتمدت أساسًا على تعزيز الاختلافات المتعلقة بالتفوق العِرْقي، فالفكرة نفسها فرضتها القوى الاستعمارية لغزو البلدان الأضعف واستغلالها.

يرى يورغن أوسترهاميل مؤلف كتاب (الاستعمار: لمحة نظرية) أن الاختلاف البيولوجي قد أطال الحكم الاستعماري وأثر لاحقًا في العالم الثالث، فالاختلاف العرقي في نظر الأوربيين كان دليلًا بديهيًا على تميزهم عن سواهم. وكذلك فقد ساعدت فكرة (الآخرية) أو (نحن وَهُمْ) على تأسيس الهيمنة والتمييز على أساس الجنس، وإضفاء الشرعية عليها. فكان الاختلاف بين الأَمة الشرقية الأُنثى والرحّالة الغربي الذَكر قالبًا مثاليًا لابتكار هوية غربية خاصة، بناءً على شعور أبوي بالتفوق والسيادة العقلية.

يقول هلمت كزمكس «يمثل جسد المرأة الأسود عند النظر إليه بعين الاستعمار كل ما هو مجهول وخطر في أرض غريبة، سواءً في الجزائر أو في قارات العالم الجديد»، أتاح مفهوم الجندر خطابًا للسلطة والقوة مبنيًا على تصور معين للتراتبية والتبعية والسيطرة. وأصبح من المؤكد أن خطاب تباين العِرْق والجندر في أوروبا كان الدافع وراء التوسع الاستعماري، وإقامة علاقات غير متكافئة بناءً على الهيمنة والسلطة والقوة في جميع المجالات، شكلت -ولا تزال- عالمنا الحديث.

أضفت فكرة (أوروبا منبع الحضارة والحرية والتقدم) شرعيةً على الاستعمار واستئصال الثقافات الأخرى. وتسلحت أوروبا بترسانة مناسبة لتبرير الهيمنة الفكرية وشرعنتها، بدعم من القيم المسيحية (المثالية) والمسؤولية الأخلاقية لنشر الحضارة إلى سائر الثقافات. وكانت الهيمنة في هذا السياق بديهيةً عبر قدرتها على التحكم في وسائل الاتصال، لفرض مفهوم (الآخر) على غير الأوربيين، والتحقق من أنهم يرون أنفسهم كما يراهم المهيمن. وأنشأت أوروبا المؤسسات التي أخذت على عاتقها إعادة إنتاج آليات الهيمنة وخطابها.

أعاد المستعمرون إنتاج المعرفة المُهيمِنة بهدف الحفاظ على وجودها عبر المؤسسات الأكاديمية الغربية وأنظمة التعليم في العالم الثالث، وهكذا رسمت أوروبا أخيرًا شكل العالم الثالث عبر التأثير الثقافي في أفكار ومؤسسات ومجتمعات البلدان المُستعمَرة بالهيمنة وليس بالتوافق. يجادل جاك دريدا ضد استعمال الحقائق العالمية بوصفها عقلانية، إذ يرى أنه ليس بوسعنا حين نتحدث عن (الآخر) إلا أن نكتشف مرارًا وتكرارًا الطبيعة المنحازة والاعتباطية لتصنيفاتنا للآخر، وعدم يقيننا من معرفتنا المُستقاة من هذه التصنيفات.

جزء كبير من انبهار أوروبا بفكرة الآخر هو تعبير عن علاقات القوة، فالسلطة مقابل الضعف أو التبعية كانت البنية الأساسية التي حددت العلاقات بين العالمين. وبرؤية الآخر أنه ضعيف، يعبر الغرب عن موقف نابع من الهيمنة.

يصف هذا النوع من الخطاب لغةً ينبغي للمعرفة المتخصصة أن توافقها كي تصبح حقيقية، فوفقًا لفوكو، يتضمن الخطاب -دومًا- شكلًا من العنف في طريقة فرض نظامه اللغوي على العالم، فعلى المعرفة أن تتسق مع نماذجها كي يُعترف بشرعيتها. وبهذا المعنى فإن خطاب الحضارة و(الآخرية) هو بناء كلامي أكثر من كونه تركيبًا معرفيًا موضوعيًا، وقد حدد بناء هذا الخطاب الفكري طريقة فهم أوروبا لسائر العالم. ما أدى إلى علاقة من الاستغلال والهيمنة والسيطرة الثقافية، وتشكُل نظام معرفي سطحي عن (الآخر) لا يُسمح فيه للآخر بالتحدث أو التعبير عن نفسه.

وما أعطى السلطة صلاحيتها ببساطة أنها لم تأخذ شكل الإجبار، بل كرست نفسها لتقديم المعرفة والخطاب، لهذا يُنظَر إليها بوصفها شبكةً مُنتِجة تمتد عبر البناء الاجتماعي، لا شاهدًا سلبيًا وظيفته القمع. الخطاب -بهذا المعنى- يبرز الصفات المُقيِّدة والمتجانسة معًا، ولا يأخذ بعين الاعتبار آثاره في زعزعة الاستقرار. لذا يجب على المرء، عند النظر إلى الخطاب بالكامل، أن يتقبل تعقيد العملية وعدم استقرارها. إذ قد يكون الخطاب أداةً للسلطة ونتيجةً لها في نفس الوقت، وقد يصبح عائقًا ومصدر مقاومة أيضًا.

الخلاصة:

ما بدا لنا تناقضًا حين تزامن انتصار الليبرالية الغربية مع التوسع الاستعماري البريطاني في القرن التاسع عشر، اتضح أنه توافق كامل. إذ إن مركزية الليبرالية الأوروبية جعلتها استعمارية بطبيعتها.

تاريخيًا، وُلدت الهوية الأوروبية بوصفها حداثة مُنكِرة لذاتها من رحم التقاليد المتنوعة التي نشأت في أثناء الثورة الاسمية، وحققت النهضة والتنوير وما ارتبط بهما من أفكار -مثل الإنسانية المسيحية والتقدم والقومية- لأوروبا تماسكها الداخلي اللاحق، ما عزز الأفكار الوحدوية التي أنتجتها هذه الحركات العالمية الثقافة العرقية، وأصبحت التعددية مقبولة، شرط أن تكون ضمن النسيج الثقافي الأوروبي.

استطاعت أوروبا عرض هوية موحدة أمام العالم بواسطة وجهها الاستعماري، وقد بُنيت هويتها على أسس من المنطق والعقلانية والحداثة. ويوضح هذا بقوة الدور الذي لعبه الآخر دائمًا، الذي وجب الحفاظ على وجوده دومًا لا لشيء إلا لكي يُرفَض، وهو -على أي حال- وجود يُزعم أنه يمثل فهم الوطنيين غير الغربيين لذواتهم، مع أنه يختلف حتمًا -وبشدة- مع هذا الفهم. بُنيت علاقة ثنائية بين أوروبا والآخر، يمكن عبرها الحفاظ على هوية أوروبا المهيمنة بوصفها تمثل الحرية والتقدم و الحضارة.

وفي مقابل التطور الأوروبي، وُجد الرجل البدائي الهمجي والمرأة الغامضة والثقافات المتخلفة المتدهورة، لذلك فمن الواضح عند البحث العميق عن آثار الاستعمار -الماضية والمعاصرة- في العالم الحديث، أننا لن نجد معرفةً أخرى توفر لنا فهمًا أفضل لهذه الآثار أكثر من المعرفة والعقلية التي كانت الدافع وراء الاستعمار منذ البداية.

لن نستطيع فهم الإرث الاستعماري إن لم نستوعب مفهومي (الآخرية) و(الحضارة) ويمكننا بهذا الفهم إدراك التراتبيات الهرمية والعلاقات التي ما زالت موجودةً حتى اليوم.

اقرأ أيضًا:

ما هي النيوليبرالية أو الليبرالية الحديثة؟

ما هي الليبرالية الكلاسيكية ؟

الأساطير وعلم الفلك: من مظاهر الحضارة اليونانية القديمة

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر