وجدت دراسة للانتخابات الأمريكية قائمة على الفيزياء، أن الناخبين أصبحوا أكثر أستقطابًا مع مرور الوقت، ما أدى إلى وضع غير مستقر، تؤدي التغييرات الطفيفة جدًّا في الرأي إلى تغييرات واسعة النطاق في النتائج النهائية للانتخابات. ربما تظنها مفاجئة، لكن اتضح إن النظريات والمعادلات المشتقة من الفيزياء هي أداة مفيدة لفهم الطرق التي تسير بها الانتخابات الديمقراطية، ويتضمن ذلك الوسائل التي قد تُعطل سير العملية أو تُحسنها.

دراسة تستخدم الفيزياء لتفسير نتائج الانتخابات الديموقراطية - التغييرات البسيطة في الآراء يمكن أن تؤدي إلى تغيرات كبيرة في نتائج الانتخابات النهائية

أشارت دراسة جديدة معتمدة على الفيزياء، أن انتخابات الولايات المتحدة مرت بمرحلة انتقالية سنة 1970، من فترة حسم نتائج الانتخابات من طريق التفضيلات السياسية للناخبين، إلى فترة من عدم الاستقرار المتزايد، إذ تؤدي التغيرات البسيطة في التفضيلات السياسية إلى تقلبات كبيرة، تصب نحو نتائج سياسية أكثر تطرفًا في كلا الاتجاهين.

يوضح التحليل أن عدم الاستقرار يرتبط بوضع غير متوقَّع، تؤدي فيه النتائج إلى اتجاه مخالف لتفضيلات الناس الحقيقية. ما يعني أن خطوة بسيطة في الرأي السائد باتجاه اليسار يمكن أن تسبب نتائج أكثر يمينية والعكس، وهو ما سماه الباحثون التمثيل السلبي negative representation. نُشرت الدراسة في مجلة Natural Physics ، وأجراها ألكسندر سيجنفيلد Alexander Siegenfeld طالب الدكتوراه في الفيزياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بمعانة يانير باريام Yaneer Bar-Yam رئيس معهد نظم نيو إنغلاند.

يقول سيجنفيلد: «يبدو أن بلدنا أكثر أنقسامًا من الماضي، إذ تشبه نتائج الانتخابات بندولًا يتأرجح بقوة أكثر من أي وقت مضى. أي تغيير طفيف في رأي الناخبين في هذا النظام غير المستقر قد يغير نتائج الانتخابات تغييرًا كبيرًا، مثلما يتغير موقع صخرة فوق جبل بسبب دفعة صغيرة».

يستطرد سيجنفيلد موضحًا: «استخلص الباحثون من تحليل سابق استهدف منصات الحزبين الجمهوري والديموقراطي في جميع الانتخابات منذ 1944، حساب عدد الكلمات المستقطبة، باستخدام مجموعة مدمجة من تقنيات التعلم الآلي والتحليل البشري. اتضح ان عدد الكلمات المستخدمة في استقطاب الجمهور كان مستقرًّا نسبيًّا قبل 1970، ثم تلا ذلك زيادة هائلة في الاستقطاب».

وجد الفريق أن نموذج Ising المستخدم لشرح سلوك المغناطيسات وأنظمة فيزيائية أخرى، يعادل رياضيًّا بعض نماذج الانتخابات، ويصف بدقة بداية ظهور عدم الاستقرار في الأنظمة الانتخابية.

يضيف باريام : «يمثل عام 1970 مرحلةً انتقالية مفاجئة، تحولت فيها الانتخابات من الاستقرار إلى عدم الاستقرار».

يرجع عدم الاستقرار جزئيًّا إلى بنية الأنظمة الأساسية للحزبين، والتي عُظم دورها في اختيار المرشحين بدرجة كبيرة منذ السبعينيات، إذ يميل الناخبون في الانتخابات التمهيدية إلى الآراء الحزبية المتطرفة، أكثر مما يميل إليها الناخبون في الانتخابات العامة، لذلك يميل المرشحون إلى اتخاذ المواقف التي تمكنهم من جذب أولئك الناخبين، وهي مواقف قد تكون متطرفة للغاية، ومن ثم تكون أكثر تطرفًا مما يفضله أكثر الناخبين المشاركين في الانتخابات العامة، ما يقلل من احتمالات فوز هؤلاء المرشحين.

يقول سيجنفيلد: «هذا تحول بعيد المدى من استقرار الانتخابات إلى عدم استقرارها، ويشبه نوعًا ما يحدث للمعادن المغناطيسية إذ تتعرض لحقل مغناطيسي، ويمكن شرحه بنفس الصيغ الرياضية. ولكن كيف لهذه الصيغ المنتمية إلى مجال بعيد تمامًا أن تكون مرتبطةً بالأمر؟».

وصف الصورة: بتحليل برامج الحزبين الجمهوري والديمقراطي منذ 1944، وجد الباحثون زيادةً في عدد الكلمات الاستقطابية ابتداءً من عام 1970 حتى الآن، كما يوضح الرسم البياني، ما أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار في الانتخابات

يرى سيجنفيلد إنه فيزيائيًّا، لا يُشترط معرفة الأسباب الكامنة أو الآليات للتوصل إلى نتائج مفيدة أو ذات مغزى، مثلما تمكن الفيزيائيون من شرح سلوك الموجات الصوتية -والتي تُعَد أساسًا حركة إجمالية للذرات- بدقة كبيرة، قبل وقت طويل من معرفتهم بوجود الذرات نفسها.

يقول سيجنفيلد: «عند تطبيق الفيزياء لفهم الجسيمات الأساسية في كوننا، فنحن لا نعرف في الواقع التفاصيل الأساسية الكامنة وراء النظريات، ومع ذلك يظل بإمكاننا التوقع بدقة بالغة».

وبالمثل، لا يحتاج الباحثون إلى معرفة دوافع الناخبين الفرديين وآرائهم ليتمكنوا من إجراء تحليل ذي معنى لسلوكهم الجمعي. جاء في الورقة البحثية: «يمكن الاستفادة من الفيزياء لفهم سلوك الأنظمة الجمعية، ليس لأن البشر يشبهون الإلكترونيات، ولكن لأن بعض السلوكيات التي تحدث على نطاق واسع قد تكون مفهومة دون الحاجة إلى فهم التفاصيل الصغيرة».

النتيجة المهمة الأخرى التي توصل إليها الباحثون هي ظاهرة التمثيل السلبي. ويتمثل في أن التحول الإجمالي للناخبين جهة اليسار يؤدي إلى تحول جهة اليمين في نتيجة الانتخابات أو العكس.

يوضح سيجنفيلد: «قد يحدث هذا مثلًا إذا واجه الناخبون الاختيار بين مرشح يساري وسطي ومرشح يميني متطرف. إذا تحركت مشاعر العامة تجاه المرشح اليساري، قد يؤدي هذا إلى تفضيل الناخبين التابعين لأقصى اليسار عدم المشاركة يوم الانتخابات، لأن آراء مرشحهم الوسطي بعيدة جدًّا عن آرائهم، ونتيجةً لذلك يفوز المرشح اليميني المتطرف. أو أن يميل ناخبو اليمين إلى اختيار مرشح يميني متطرف، ما قد يزيد من فرصة المرشح الليبرالي في الفوز بالانتخابات العامة. ويضعف التمثيل السلبي الغرض من الانتخابات الديموقراطية».

وجدت الدراسة أن التمثيل السلبي موجود دائمًا في الأنظمة الانتخابية غير المستقرة، لكن قد تساعد عدة أساليب على مواجهة الميل نحو عدم الاستقرار، والحد من التمثيل السلبي.

أحد هذه الحلول هو التحول نحو أنظمة التصويت المُرتبة ranked-voting systems، المعمول بها في أستراليا ومين وسان فرانسيسكو وكمبريدج وماساتشوستس. يحد هذا النظام من الحاجة لاختيار (أهون الشريرين) بين المرشحين، وتسمح للناس بالتصويت لصالحهم الحقيقي دون الاضطرار الناجم عن مرشحي طرف ثالث.

ويتمثل أحد الأساليب أيضًا في زيادة معدل المشاركة في الانتخابات، سواءً من طريق المكافئات والحوافز، أو من طريق الدعاية والقوانين (مثل التصويت الإجباري في أستراليا). إذ يوضح البحث أن انخفاض نسبة الناخبين يزيد احتمالية عدم الاستقرار.

يقول سيجنفيلد: «يردد أكثر الناس: اذهب للتصويت كي يُسمَع صوتك (وإن كان اعتماد المرشح على أصوات الناخبين أمرًا أقل تقديرًا)، ما يزيد من احتمالية كون الانتخابات أكثر استقرارًا في المستقبل. يوضح بحثنا علميًّا أن ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات يساعد على الديمقراطية، لأن نسبة المشاركة المنخفضة تهدد استقرار الانتخابات إذ تؤدي إلى التمثيل السلبي».

كتب سورين جوردن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوبون في ألاباما، معقبًا على البحث: «أحببت هذا البحث. إن تقاطع الأمرين شئ مذهل، ورؤية الفيزيائيين يوظفون الرياضيات في مثل هذا الأمر هو حقًا شئ خارق للمألوف. إن تطوير العلوم السياسية يطور حقًا كلا التخصصين. يُعَد هذا نموذجًا استرشاديًّا ممتازًا لفهم بعض الظواهر الحرجة، مثل كيف أن التحزب -الذي يُعَد ظاهرةً غير صحية- ما زال قادرًا على إحداث آثار واسعة النطاق في النتائج الاجمالية».

اقرأ أيضًا:

لماذا لا يقبل الناس على الانتخابات ؟ ( دراسة حالة الولايات المتحدة الامريكية )

الفيزياء والانتخابات «عندما يتدخل العلم في صناديق الاقتراع»

ترجمة: آية قاسم

تدقيق: سلمى عفش

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر