أبحر أسطول مكوّن من خمس سفن و260 بحار من ميناء سانلوكار دي باراميدا الإسباني في 20 سبتمبر 1519 تحت قيادة فرديناند ماغيلان؛ البحار البرتغالي الذي بدّل ولاءه إلى إسبانيا. سعت رحلة ماغلان للعثور على طريق مائي باتجاه الغرب إلى أرخبيل صغير في إندونيسيا يُسمى بجزر الملوك «جزر التوابل» التي هي مصدر لجوزة الطيب، والقرنفل، والتوابل الأخرى التي استخدمها الأوروبيون بوصفها منكهات وأدوية، ولتحقيق ذلك وجب أن تدور البعثة حول الكوكب أول مرة في تاريخ البشرية. لقد كانت خطة جريئة؛ إذ تضمنت الإبحار عبر آلاف الأميال من المياه المجهولة، والعثور على ممر غير مكتشف سابقًا عبر الأمريكيتين من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. لكن ماغيلان كان مؤمنًا بأن إرادة الرب تكمن بنجاحه.

يذكر لورنس بيرغرين مؤلف كتاب «على حافة العالم: رحلة ماغيلان المرعبة حول الكرة الأرضية» في 2003 أن الملاح ماغيلان «كان شخصًا لا مثيل له فيما يتعلق بالذكاء الملاحي، والشجاعة الشخصية، والهدوء بالمصاعب». إن سعيَ ماغيلان كلّفه حياته في نهاية المطاف، وأدى إلى خسارة جميع سفنه باستثناء واحدة ومعظم طاقمه بسبب الموت أو الفرار من الخدمة.

فيما يلي بعض المخاطر التي جعلت رحلة ماغيلان الاستكشافية غادرة للغاية، وكيف تغلب المستكشف وطاقمه على بعضها دون كل هذه العقبات.

لم يكن ماغيلان يعرف حقًا كيفية الوصول إلى وجهته

وفقًا لبيرغرين، فإن ماغيلان قد حاول في البداية إقناع ملك البرتغال مانويل بالتصريح له برحلة لاكتشاف طريق مائي إلى جزر الملوك، لكن الملك رفض الفكرة لبغضه ماغيلان، وبعد عناء استحصل على إذن من الملك لعرض خطته في مكان آخر، ثُمَّ انتقل إلى إسبانيا في عام 1517، حيث ضغط على ذوي الشأن بخصوص فكرته التي سوَّق لها بإعلانه عن اعتقاده بأن جزر الملوك تقع ضمن سيادة المملكة الإسبانية بحسب تحديد معاهدة تورديسيلاس عام 1494، التي اتفقت فيها إسبانيا والبرتغال على تقسيم العالم غير المسيحي بينهما. وربما صدق ماغيلان ذلك فعلًا؛ لأنه كان لديه صديقًا بحارًا برتغاليًا يُدعى فرانسيسكو سيراو استقر في جزر الملوك، وكتب رسائل لماغيلان وضع فيها الجزر أبعد شرقًا من مكانها الفعلي. فلم يكن ماغيلان مخطئًا بشأن وجهته فحسب، بل لم يكن متأكدًا من الطريق الذي سيسلكه للوصول إلى هناك.

أخبر ماغيلان المسؤولين الإسبان أن خطته تتمثل بالإبحار على طول الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية حتى نهاية الأرض، وأظهر لهم كرة أرضية لتوضيح الطريق. وعلى الرغم من عدم معرفته للمسافة الفعلية، فإنه قدَّر أن الرحلة ذهابًا وإيابًا من جزر الملوك لن تستغرق أكثر من عامين، ومع ذلك بقيت مسألة كيفية تجاوز الأمريكتين مبهمة لماغيلان، ووفقًا لكتاب المؤرخ جيري بروتون «تاريخ العالم في 12 خريطة»، فإن كاهن ومؤلف يدعى بارتولومي دي لاس كاساس، الذي شهد عرض ماغيلان للمسؤولين الاسبان، قد سأله «ماذا ستفعل إذا لم تجد مضيقًا للعبور إلى البحر الآخر؟»، إلا أن ماغيلان تهرّب من الاجابة.

عندما عبر ماغيلان المحيط الأطلسي أخيرًا ووصل إلى أمريكا الجنوبية، تبين أن العثور على الممر أصعب بكثير مما كان يتوقع، وتحطمت سانتياغو -إحدى سفنه- في عاصفة في أثناء ذلك وهُجِرَت اضطرارًا.

وجب على ماغيلان إخماد تمرد بعض أفراد طاقمه

يوضح بيرغرين أنه «لم تكن التهديدات المادية، أو العواصف، أو المخاطر الطبيعية للإبحار عبر محيط شاسع هي الخطر الأكبر الذي واجهه الملاح البارع، بل الجماعة الذين قادهم كانوا ذوي نزعة التمرد والقادمين من عدة دول متحدثين بلغات مختلفة، وكثيرًا ما كانوا حانقين بعضهم تجاه بعض وتجاه ماغيلان».

أنطونيو بيغافيتا؛ الدبلوماسي الذي احتفظ بمذكرات مفصلة عن الرحلة الاستكشافية، التي نشرها لاحقًا في كتاب بـعنوان «رحلة ماغيلان حول العالم»، يذكر أن «القباطنة الذين رافقوه كانوا يكرهونه بشدة، وأكاد أجزم أن السبب هو أنهم إسبان وأن ماغيلان برتغاليًا».

بعد رحلة شاقة عبر المحيط الأطلسي إلى البرازيل وتعرض الأسطول للعواصف، زادت التوترات في ديسمبر 1519 عندما حوكِمَ ربان يُدعى أنتونيو سالامون على متن سفينة فيكتوريا وأُعدِمَ خنقًا بتهمة الاعتداء الجنسي على بحار متدرب. فازداد التذمر عندما اتهم قبطان يُدعى خوان دي قرطاجنة ماغيلان بأنه عميل برتغالي مزدوج وبأنه عمل على تخريب المهمة. ثُمَّ دبر قرطاجنة وآخرون مؤامرة لتنظيم تمرد وقتل ماغيلان في أبريل 1520، ولكن وفقًا لرواية البرتغالي غاسبار كوريا، فقد توقع ماغيلان خيانتهم وعندما حاولوا الهجوم سحب أحد ربانيه الموالين خنجرًا ونَحَرَ المتمرد لويس دي ميندوزا وعُلِقَت جثته بعدئذ من قدميه «حتى يراه البقية من السفن الأخرى». ثُمَّ قبض ماغيلان على المتمردين الآخرين وكانت عقوبتهم وحشية؛ إذ قُطع رأس أحد القباطنة وسُحِل جسده وقُطِع إلى أرباع ليكون مثالًا على ثمن الخيانة، أما قرطاجنة الذي حاول تدبير مؤامرة ثانية، فتُرِك ليموت جوعًا على جزيرة صغيرة قبالة الساحل. وقد تبدو شدة ماغيلان صادمة اليوم، لكن بيرغرين يذكر أن الأمر كان عاديًا في عصره ويوضح أنه «كان للقباطنة سلطة تقرير حياة أو موت بحارتهم، وكانوا يستخدمونها أحيانًا».

لكن ذلك لم يهدئ كل المعارضة، وتمكن ربان سفينة سان أنطونيو وطاقمها من الفرار بعيدًا في نوفمبر 1520 عائدين إلى إسبانيا.

المحيط الهادئ أكبر بكثير مما تخيله ماغيلان

اكتشف ماغيلان مضيقًا في نوفمبر 1520 سُمي لاحقًا بمضيق ماغيلان، وهو قناة طبيعية تمر بين الطرف الجنوبي للقارة اللاتينية وجزيرة تييرا ديل فويغو، وتمكن أخيرًا هو وسفنه الثلاثة المتبقية من الإبحار في المحيط الذي أسماه «المحيط الهادئ» لأنه بدا ساكنًا للغاية.

يذكر بيرغرين: «لقد اعتقد -ماغيلان- أن الإبحار حول العالم والوصول إلى جزر الملوك سيكون أشبه بالوثب ثُمَّ القفز وبعد ذلك سيعود إلى وطنه منتصرًا، وبالتأكيد، لم يسر الأمر بهذه الطريقة»، فبمجرد اختفاء ساحل أمريكا الجنوبية، وجد ماغيلان نفسه في وسط محيط أكبر بكثير مما كان يتخيل، ويضيف بيرغرين: «عَبَر ماغيلان المحيط الهادئ وتوقع العثور على اليابسة في أي يوم دون أن يدرك أنه يعبر أكبر مسطح مائي على هذا الكوكب».

مع استمرار الرحلة، وجب على طواقم السفن كي يعيشوا أن يرشدوا استهلاك ما تبقى من الطعام والمياه، فامتد أثر هذا المأزق إلى ماغيلان نفسه، إذ يوضح بيرغرين: «أصبح عصبيًا في مرحلة ما، ربما بسبب نقص الطعام، وبدأ يصبح أقل عقلانية»، وحينما أدرك المستكشف أن الخرائط التي استخدمها غير دقيقة وعديمة الجدوى، ألقى بها فجأة في البحر.

أصيب رجال ماغيلان بالرعب، ويذكر بيرغرين: «اعتقدوا أنهم هالكين لا محالة من دون الخرائط»، لكن الحقيقة على العكس من ذلك فقد تحرروا منها، إذ اضطر ماغيلان إلى الإبحار من خلال قراءة العلامات الموجودة في بيئة المحيط، واكتشف الرياح التجارية التي تهب عبر المحيط الهادئ، وتمكن من تسريع طريقه عبر المحيط الهادئ مستخدمًا مهارته بوصفه بحارًا، إلى جانب خفة الحركة والقدرة على المناورة في تصميم سفنه، قبل أن يموت هو ورجاله من الجوع والعطش.

ثقة ماغيلان المفرطة كانت مميتة

وفقًا للباحثين كيت فولاغار وكريستي باتريشيا فلانيري من الجامعة الكاثوليكية الأسترالية، فإن ماغيلان عندما وصل إلى الفلبين في مارس 1521، رأى فرصة لتحويل السكان الأصليين إلى الكاثوليكية ووضعهم تحت سلطة الملك الإسباني.

أيّد بعض الحكام المحليين ماغيلان لرؤيتهم مزايا في التحالف مع الإسبان، لكن لابو لابو رئيس جزيرة ماكتان رفض ذلك، فقرر ماغيلان كونه جنديًا سابقًا الهجوم، وحاول هو وقوة إسبانية صغيرة مكونة من 60 رجلًا مسلحًا و20 إلى 30 من الحلفاء المحليين القيام بغزو برمائي عند الفجر في 27 أبريل 1521. ويذكر بيرغرين افتراض ماغيلان أن تقنيته المتفوقة -البنادق والدروع- ستتغلب على السكان الأصليين المسلحين برماح خشبية، وقد ثبت أن ذلك كان خطأ فادحًا في التقدير.

فبموجب ما يذكره بيغافيتا، لم تتمكن قوارب قوى الغزو من الاقتراب كثيرًا من الشاطئ بسبب الصخور الموجودة في الماء، ما أجبر رجال ماغيلان على القفز في الماء ومحاولة السباحة إلى الأرض ليكتشفوا أن بانتظارهم أكثر من 1500 محارب. وأطلقت قوات ماغيلان المكونة من رماة القوس والنشاب والفرسان النار على أصحاب الأرض، ولكن في ظل الفوضى لم تتمكن القوات من إصابتهم.

كتب بيغافيتا: «لقد كانت الرماح والحجارة التي ألقوها علينا كثيرة جدًا، حتى أننا لم نتمكن من إظهار أي مقاومة». وأصيب ماغيلان في ساقه بسهم مسموم، وأسقط المهاجمون خوذته، وناضل بشدة للبقاء حتى جرحه أحد المحاربين في ساقه بسيف فسقط، ما مكّن الآخرين من الاحتشاد فوقه ثُمَّ رفسوه وطعنوه حتى الموت.

لم يعد سوى 18 بحارًا وسفينة واحدة من سفن ماغيلان

تكبد الإسبان الكثير من الخسائر بالأرواح حتى أنهم اضطروا إلى التخلي عن سفينتهم الأخرى كونسيبسيون لعدم وجود ما يكفي من الرجال للإبحار بها، ووصلت السفينتان المتبقيتان إلى جزر الملوك في نوفمبر 1521.

كانت إحدى السفينتين المتبقيتين المسماة ترينيداد في حالة سيئة، وتُرِكَت لإجراء تصليح شامل واستولى عليها البرتغاليين لاحقًا ثُمَّ غرقت في النهاية بسبب عاصفة، ولم يتبق سوى فيكتوريا للإبحار بها حول كيب هورن في أفريقيا والعودة على طول الساحل الغربي لأفريقيا باتجاه أوروبا. وفي 6 سبتمبر 1522، وصلت فيكتوريا إلى الميناء الإسباني نفسه الذي غادرت منه قبل ثلاثة أعوام. وكانت أشرعة السفينة فيكتوريا الممزقة وبدنها المتضرر الذي أرثته الشمس دليلًا على المحنة التي نجت منها هي وال 18 بحارًا الذين تبقوا من أصل 260، وكانوا هزيلين بسبب سوء التغذية والتعرض للعراء حتى أنهم واجهوا صعوبة في المشي أو التحدث.

تمكن الناجون من إعادة شحنة من التوابل، وكان من الواضح أن فكرة ماغيلان لإنشاء طريق غربًا إلى آسيا كانت بطيئة جدًا ومكلفة وخطيرة تمامًا حتى أنها لا يمكن تطبيقها عمليًا.

تأثير رحلة ماغيلان في التاريخ

على الرغم من أن الرحلة قد تبدو في ذلك الوقت وكأنها فاشلة، فإن مسعى ماغيلان غيّر العالم بطرق حاسمة. فمن خلال الإبحار حول الكرة الأرضية، أزالت البعثة أي شكوك متبقية حول كروية الكوكب، وأظهرت أيضًا أن أمريكا الشمالية والجنوبية كانت قارتين منفصلتين عن آسيا، وأن معظم سطح كوكبنا كان مغطى بالمياه. وقد استغرق الأمر نصف قرن آخر قبل أن يتمكن السير فرانسيس دريك؛ الملاح الإنجليزي والقرصان وتاجر العبيد، من مضاهاة إنجاز بعثة ماغيلان من خلال الإبحار حول العالم في الفترة ما بين 1577 و1580.

اقرأ أيضًا:

فرديناند ماجلان ورحلته حول الأرض الجزء الأول

فرديناند ماجلان ورحلته حول الأرض – الجزء الثاني

ترجمة: صفا روضان

تدقيق: غفران التميمي

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر