تلقت السيدة س منذ نحو عشر سنوات نتيجةَ تحاليلها الدموية، لتكتشف أنها مصابة بفيروس عوز المناعة البشري. وكحال عشرات الآلاف ممن يكتشفون إصابتهم كل عام في الولايات المتحدة الأمريكية، بات على السيدة س أن تتقبل العلاج المضاد للفيروسات الراجعة ضيفًا دائمًا على جسدها طيلة حياتها، لتضمن ألا يسيطر الفيروس على جهازها المناعي.

ولكن مرضها سار على غير المتوقَع، بعدما أصبحت السيدة س ثالث شخص في العالم، يبرأ جسده من هذا الفيروس بالكامل، وهو ما يعطي أملًا للكثير من المرضى ممن تُشابهُ حالاتهم حالة هذه السيدة.

رفع فريقٌ من الباحثين العاملين في الولايات المتحدة الأمريكيّة تحت مظلّة الشبكة الدولية للتجارب السريرية المتعلقة بمرض الإيدز للأمهات والأطفال والمراهقين، تقريرًا يتحدث عن شفاء المريضة بعد تطبيق علاجٍ جذريّ لمرض سرطان الدم، بعد إصابتها به لأربع سنوات.

وفيما عدا السيدة س، لم تُسجّل حتى الآن سوى حالتين موثّقتين شُفِيَتا من الفيروس تمامًا، بعدما أُجريت لهما عملية جراحية لنقل نقي العظم من مُتبرعَين يحملان جينات طافرة مقاومة لفيروس عوز المناعة البشري.

كلا المريضيَن أُصيبا بسرطان اللوكيميا، وهو مرض يصيب الجهاز المسؤول عن تكوين خلايا الدم المختلفة ومنها بعض أنواع خلايا الدم البيضاء التي يضربها فيروس عوز المناعة البشري، أولهما مريض أبيض عاش ما يُقارب عشر سنوات بعد شفائه من الفيروس حتى توفي في العام 2020 بسبب السرطان. وعُرف باسم «مريض برلين». أما الثاني، وهو من يُعرف باسم «مريض لندن»، فهو لاتينيّ وما يزال حيًا حتى الآن، وقد شفي من مرض الإيدز منذ سنتين.

وكما هو حال المريضين السابقين، اكتشف الأطباء إصابة المريضة س بسرطانٍ في الدم في العام 2017، وتحديدًا من نوع سرطان الدم النخاعي الحاد، الذي يصيب نخاع العظم (نقي العظم).

المريضة س من أصولٍ متعددة الأعراق، ولو كانت تنتمي للعرق القوقازي بشكل صافٍ، لأمكن لها الحصول على نقي العظم، لوفرة المتبرعين بنقي العظم من العرق القوقازي في قوائم المتبرعين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كان سيزيد فرصتها في الحصول على نقي عظم يوافق أنسجة جسمها. ولكن بسبب أصولها العرقية المختلطة، بحث العلماء عن طريقة أخرى للحصول على نقي عظم يناسبها بزراعة نقي عظم وتصميمه اعتمادًا على خلايا جذعية مستخرجة من دم الحبل السري.

جديرٌ بالذكر أن عملية تصميم عضو بدءًا من خلايا جذعية وزراعته داخل جسم الإنسان، لا تتطلب توافقًا كبيرًا بالأنسجة، كما هو الحال في نقل الأعضاء من جسم إنسان إلى آخر مثل نقل الكلية مثلًا. ولندركَ أثر هذه التقنية في علاج مرض اللوكيميا، لا ينبغي إلا أن نعرف أن عدد عمليات تصميم وزراعة نقي العظم بدءًا من الحبل السري، بلغت منذ التسعينات وحتى الآن حوالي 35000 عملية ناجحة حول العالم. فهي تمثل بالنسبة لمرضى اللوكيميا أفضلَ علاجٍ توصَّل إليه الطب حتى الآن.

ولكن تبقى ثغرة أخيرة في مثل هذا الخيار العلاجي، تتمثل في الفترة التي تعقب عملية الزراعة داخل الجسم التي يكون فيها النقي المستخرج من دم الحبل السري عاجزًا عن تشكيل كريات دم بيضاء، ما يجعل هذه الفترة الممتدة لأسابيع، فترة حرجة قد يصاب فيها المريض بأي عدوى، دون أن يكون قادرًا على التصدي لها، وهو ما قد يجعلها قاتلة.

لذا، فقد عمل العلماء على حل هذه المشكلة، بإجرائهم عمليات نقل دم من أحد أقارب هذه المريضة وهو ما منحها مناعة مؤقتة، ريثما تتمكن الخلايا الجذعية المشتقة من الحبل السري من توليد كريات دم بيضاء.

كل ما ذُكر حتى الآن لا يشرح سر شفاء المريضة من الإيدز. يكمن السر في جينات الخلايا الجذعية (المشتقة من الحبل السري) المزروعة في جسم هذه المريضة، إذ احتوت المادة الوراثية لهذه الخلايا على نسختين طافرتين من جين اسمه CCR5 delta-32.

تؤثر هذه الطفرة الموجودة في جينات هذه الخلايا، على مستقبلات بروتينية على سطح كريات الدم البيضاء بمثابة بوابة دخول فيروس عوز المناعة البشري للكريات البيض وغزوها، وتجعل طفرة هذا الجين البوابةَ أكثر تحصينًا في وجه فيروس عوز المناعة البشري، ومن ثمّ فلن يكون بمقدرة الفيروس غزوها وتدميرها.

بعد حوالي ثلاثة أشهر من زراعة النقي، كان جسد المريضة قد تخلص من كل كريات الدم البيضاء التائية القديمة المُصابة بفيروس عوز المناعة البشري، المصنعة من نقي العظم القديم أو تلك التي كانت موجودة في دم قريبها المنقول إليها، وباتت كل الكريات البيض الموجودة في دمها من نقي العظم الجديد المزروع، أي من النوع المحصّن ضد الفيروس.

ثمّ أوقف فريق العلماء -المشرف على علاج حالة السيدة س- العلاج المضاد للفيروسات الراجعة، ومن ثمّ تحرّوا عن وجود فيروس عوز المناعة البشري، لتظهر نتائج التحاليل سلبيّة.

ولكن لماذا يلجأ العلماء إلى الخلايا الجذعية في دم الحبل السري، ولا يلجؤون إلى الخلايا الجذعية التي تكوّن الدم في جسد الإنسان البالغ؟

تتلخص إجابة هذا السؤال بكلمة واحدة وهي «النكس»، إذ تظهر السجلات الطبية لحالات اللوكيميا المعالجة، حالات نكسٍ أقل. وعلاوةً على ذلك، فالمشكلة الأبرز في حالات نقل الأعضاء، وهي مهاجمة خلايا جسد المتلقي للعضو المزروع، وهي أقل في حالة الخلايا الجذعية من دم الحبل السري منها في الخلايا الجذعية الدموية للبالغ.

وللقارئ أن يعرف أن مريض اللوكيميا الذي يجري زراعة لنقي عظم من خلايا جذعية تعود للحبل السري، لا يقضي أكثر من 17 يوم بعد إجرائه لجراحة الزرع عادةً. أما الأكثر إثارة في هذا الصدد هو الجزئية المتعلقة بالخلفية العرقية لمريض اللوكيميا.

تُتيح زراعة خلايا دم الحبل السري الجذعية وعدم إثارتها لمناعة جسد المتلقي، فرصةً لأصحاب الخلفيات العرقية المختلطة -مثل مريض من أصول لاتينية من جهة الأب وأفريقية من جهة الأم مثلًا- للحصول على نقي عظم بديل لنقيِّهم المصاب، على عكس عملية زراعة النقي من خلايا البالغين الجذعية، التي تتسم بالتعقيد لناحية توافق الأنسجة وضرورة انتماء المتلقي والمتبرع للمجموعة العرقيّة ذاتها.

بالعودة إلى حالة السيدة س، فقد خرج فريق العلماء البحثي المشرف على الحالة، ليعلنوا عن نتائجهم خلال مؤتمرٍ علمي مخصصٍ للفيروسات الراجعة والعدوى الانتهازية، ولكن لم تُنشر هذه النتائج في دراسة، وما تزال غير متاحة للعموم حتى الآن.

وتكمن أهمية هذا السبق العلمي في منحه الأمل لبعض مرضى الإيدز، الذي ما تزال منظمة الصحة العالمية تعدّه جائحةً تضرب البشرية، وبتعداد حالاتٍ يبلغ أربعين مليون مريضٍ حول العالم. وهذا لا يعني كونه علاجًا لجميع مرضى الإيدز -على الأقل في الوقت الحالي- إذ يقتصر تطبيق هذا العلاج على مرضى الإيدز ممن يعانون من اللوكيميا، بسبب المخاطر التي ترافق مثل هذا العلاج.

اقرأ أيضًا:

شركة موديرنا تبدأ أول تجربة سريرية للقاحها من نوع mRNA ضد فيروس عوز المناعة البشري

ما الفرق بين الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري HIV والإيدز

الخلل الوظيفي المرتبط بفيروس العوز المناعي البشري

ترجمة: محمد شبو

تدقيق: دوري شديد

المصدر