علماء يطرحون سيناريو جديد لبداية الحياة على الأرض


التطور مليء بسيناريوهات مماثلة لمعضلة البيضة والدجاجة الشهيرة، ومن أكثر هذه المسائل صعوبةً في الحل هي معرفة ما إذا تواجدت حياة قبل تشكُّل الحمض النووي، ولكن مع استمرار البحث فالعلم دائمًا ما يقدم توضيحات وتفسيرات جديدة لنصل مع التراكم المعرفي الناجم عن ذلك إلى الحقيقة أو إلى أقرب وأدق تصوّر لها.

يقدم الباحثون الآن دليلًا جديدًا لحدوث عمليات كيميائية حيوية أولية بدون الفوسفات الذي يعد عنصرًا أساسيًا من الحمض النووي الذي يشكل القواعد الأساسية للكيمياء الجينية، مما يعزز الجدل القائم حول تواجد العمليات الحيوية قبل تواجد الحياة.

فقد قام علماء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة بوسطن بإيجاد عدد من السبل الأيضية البديلة التي لا تحتاج إلى فوسفات، والنتائج التي توصّلوا إليها ستساعد في ملء الفراغ في فهمنا لكيفية تطور المركبات الكيميائية العضوية المعقدة إلى الحياة المعروفة على الأرض، فالحياة بتعريفها الحالي تعتمد بشكل كبير على كيمياء التناسخ غير المثالي التي تشمل نماذج قابلة للتكرار أو للنسخ مع تطوير وسائل تجعلها تستجمع طاقة كافية لإعادة ترتيب المركبات الكيميائية البسيطة لتعطي نماذج أكثر تعقيدًا.

 

والسؤال المهم هنا من أتى أولًا:

شيفرة كيميائية استطاعت التطور إلى أشكال أكثر تعقيدًا، أم سبل معقدة استطاعت استخدام الطاقة لتحويل المركبات الكيميائية البسيطة إلى مركبات أكثر تعقيدًا؟

ففي ما يسمى «فرضية عالم الـ RNA»، لدينا شرائط من الحمض النووي الريبوزي العائمة أدت بعض الوظائف التي يمكننا أن نصفها بأنها أسلاف الحياة.

كون هذا البوليمير يُشكِّل نموذج بدئي لحمل المعلومات وآلة تناسخ كيميائية، ولكن يوجد مشكلة في هذا المفهوم وهي أنّ الحمض النووي الريبوزي (RNA) لا يمكنه أن يقوم بعمله بدون مصدر طاقة يتطلب سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي يمكن أن نعتبرها شكل أولي أو مبكر للأيض (العمليات الكيميائية الحيوية).

ليس هذا فحسب، فالحمض النووي الريبوزي (RNA) يتضمن الفوسفات وهو عنصر قليل الشيوع في البيئة آنذاك لذا ففرض اندماجه مع مركبات عضوية أخرى صعب التفسير.

فرضيات «ما قبل الحياة» الأخرى تقترح أشكالًا بسيطة من التفاعلات التي تمتص الطاقة من البيئة (على شكل حرارة أو ضوء)، وتحولها من تفاعل كيميائي لآخر في حساء عضوي دون قيود الأغشية الخلوية، وفي النهاية هذه التفاعلات الأولية تقترن بالحمض النووي الريبوزي لتحاط مع الوقت بغلاف من مواد دسمة، ما قد نعتبره أنه الشكل الأولي للخلايا أو «الخلايا الأولى».

 

ومع هذا فالأيض في الكائنات العضوية الحديثة يعتمد بشكل كبير على مركبات كالأدينوزين ثلاثي الفوسفات (ATP) ونيكوتيناميد أدينين ثنائي نوكليوتيد الفوسفات (NADP)، مما يعيدنا لمشكلة الفوسفات نفسها.

بينما السبل البديلة التي بينها الباحثون الآن تعتمد على الكبريت الذي كان متوافرًا بشكل كبير في المحيطات قبل مليارات السنين، ويقول الباحث دانييل سيجريه (Daniel Segrè) من جامعة بوسطن:

«تكمن  أهمية هذا العمل في تنبيه الجهود القادمة التي تسعى لمعرفة أصل الحياة لإمكانية احتمال عدم حدوث التفاعلات التي تعتمد على الفوسفات، والتي تعتبر اليوم أساسية، عندما بدأت تفاعلات ما قبل الحياة على الأرض في الماضي.

فكرة السبل المعتمدة على الكبريت ليست حديثة تمامًا، ففي أوائل القرن العشرين اقترح عالم الكيمياء الألماني جنتر واشترشاوزر (Günter Wächtershäuser) أنّ مركبات ككبريتات الحديد والنيكل قد تعمل كمحفزات لتثبيت الكربون حول الفوهات البركانية في أعماق المحيطات، أي أنها كانت بمثابة عمليات أيض بسيطة لما أطلق عليه اسم «الكائنات الرائدة» – (pioneer organisms).

 

قد تبدو الكيمياء مقنعة، ولكن الأدلة التي ربطت تنوع التفاعلات المتضمنة في «فرضية عالم الكبريت-الحديد» هذه كانت ضئيلةً نوعًا ما في السابق، فما كان مفقودًا حتى الآن بحسب سيجريه هو دليل مبني على البيانات يشير إلى أنّ هذه التفاعلات تستطيع تشكيل شبكة استقلاب أولية عالية الارتباط وغنية نسبيًا، لذا قام سيجريه وفريقه بتطبيق أنظمة حيوية حاسوبية (وهي وسائل نظرية تستخدم نماذج رياضية لاكتشاف تنوع التفاعلات البيوكيميائية) لإيجاد مركبات كانت متوافرة في بيئة المحيطات القديمة وليس الفوسفات من ضمن تركيبها، وعن طريق تلك الوسائل استطاعوا تحديد مجموعة من ثمانية مركبات تتوافر فيها الصفات السابقة.

قاموا بعدها بتطبيق خوارزمية تحاكي عمليات الأيض الأولية بالاعتماد على هذه المركبات التي تضمنت كبريتيدات الحديد ومركبات أخرى حاوية على الكبريت تدعى «الثيو إسترات» (مركبات ذات مجموعة وظيفية R-S-CO-R)، مما سمح لهم بتصوّر التفاعلات المحتمل حدوثها في الماضي، وبهذا حدد الباحثون شبكة أساسية من 315 تفاعل تتضمن 260 مادة ومنتج عنها، بإمكانها أن توفر مجالًا واسعًا من المركبات العضوية المعقدة الضرورية للحياة كالأحماض الأمينية والأحماض الكربوكسيلية.

بما أنّ الكيمياء الحيوية البدائية قد فشلت في ترك أدلة أحفورية كثيرة، فعلينا أن نجمع القطع التي يمكننا جمعها عبر نماذج رياضية كهذه، برغم ذلك فهذا الاكتشاف الأخير لا يعتبر دليل إيجابي نهائي لبدء نشوء الحياة عبر سبل التفاعلات الخالية من الفوسفات، ولكنه يضيف دليل جديد لإمكانية بزوغ حياة بآليات كيميائية لم تعد تعتمد عليها معظم الكائنات اليوم.

 

وتطبيقات مثل هذا النوع من الأبحاث واسعة، إذ يقول سيجريه: «فكرة تحليل التفاعلات البيوكيميائية كمستوى من النظام البيئي أو كظاهرة كوكبية عوضًا عن كونها جزء من خواص الكائنات الحية، قد يكون لها أيضًا انعكاسات على فهمنا للمجتمعات الدقيقة».


ترجمة: دانيا الدخيل
تدقيق: أحمد اليماني

المصدر