في سابقة هي الأولى من نوعها عالميًا، استخدم مهندسون من وكالة العلوم الوطنية الأسترالية (CSIRO)، تعلم الآلة الكمومي -نوع متقدم جدًا من الذكاء الاصطناعي يستفيد من مبادئ الفيزياء الكمومية- لتصنيع أشباه الموصلات -المواد الأساسية التي تُصنع منها الرقاقات الإلكترونية والمعالجات في أجهزتنا، ومن شأن هذا البحث أن يعيد تشكيل طريقة تصميم الرقاقات الدقيقة مستقبلًا.
سبق أن أوضح الأستاذ محمد عثمان، رئيس قسم أبحاث الأنظمة الكمومية في Data61 التابع للوكالة الأسترالية، لمجلة كوزموس، أن أبحاث الخوارزميات الكمومية اليوم بالغة الأهمية لتطوير حواسيب كمومية مفيدة في المستقبل.
أوضح عثمان أن تعلم الآلة الكمومي يملك إمكانية التفوق على خوارزميات تعلم الآلة التقليدي.
أُخضع هذا الأمر للاختبار في البحث الجديد الذي نُشر في مجلة Advanced Science. وتُعد هذه الدراسة الأولى التي تُظهر إمكانية تطبيق طريقة كمومية على بيانات تجريبية حقيقية في تصنيع أشباه الموصلات لتحسين العملية.
ركز الفريق اهتمامه على نمذجة مقاومة التلامس الأومي لمادة شبه الموصل (هذه الخاصية تعني مدى سهولة تدفق الكهرباء –التيار- عندما يلامس جزء من شبه الموصل معدنًا آخر. إذا كانت المقاومة قليلة، يتدفق التيار بسهولة، وهذا مهم جدًا لأداء الرقاقات الإلكترونية) وتقيس هذه الخاصية المقاومة الكهربائية عند نقطة التلامس بين شبه الموصل والمعدن، إذ يتدفق التيار بسهولة بين المادتين في كلا الاتجاهين.
تُعَد نمذجة مقاومة التلامس الأومي أمرًا بالغ الأهمية في تصميم أشباه الموصلات وتصنيعها، إلا أنها خاصية من المعروف أن نمذجتها بالغة الصعوبة.
اختبر الفريق نموذجه لتعلم الآلة الكمومي على بيانات من 159 عينة تجريبية من أشباه الموصلات من نوع «ترانزستور نيتريد الغاليوم عالي الحركية الإلكترونية». ويقدم هذا النوع أداءً متفوقًا مقارنةً بالترانزستورات السيليكونية الأكثر شيوعًا.
يوضح عثمان، المؤلف الرئيس للدراسة الجديدة: «بعد الحصول على مجموعات بيانات تصنيع أشباه الموصلات، نجري معالجة مسبقة. وهذه خطوة كلاسيكية. نتناول المتغيرات المختلفة التي تؤثر في عملية التصنيع ونجري ما يُعرف بـ«التشفير الأحادي الساخن»، الذي يحدد ببساطة ما إذا كان متغير معين قد فُعِّل أم لا».
«إنها آحاد وأصفار تشير إلى ما إذا كان، مثلًا، غاز معين قد شُغِّل أم لا، أو إلى زمن التلدين -هل كانت المادة تحت تأثير حرارة معينة لفترة محددة، وما إذا كانت المادة قد طُعِّمت -هل أضيفت شوائب للمادة- أم لا».
بعد إتمام التشفير الأحادي الساخن، حصل الفريق على قائمة تضم 37 متغيرًا لكل تجربة. ثم أُجري تحليل كلاسيكي آخر، يُعرف بـ «تحليل المكونات الرئيسة»، قلّص عدد المتغيرات إلى 5 فقط.
يقول عثمان: «إن قدرات الحواسيب الكمومية المتاحة لدينا حاليًا محدودة جدًا. لذا أردنا تبسيط الأمر، والتحقق من أننا نستطيع تقليص أبعاد المشكلة بذكاء، حتى نتمكن من التعامل معها ضمن قدرات المعالجات الكمومية الحالية. وفور أن ننهي ذلك، نبدأ المكون الكمومي».
طوّر الفريق بنية مبتكرة للانحدار الكمومي المحاذي للنواة (QKAR). وتضمّن تصميم QKAR الخاص بهم خارطة ميزات كمومية من نوع باولي-Z، وهو مؤثر رياضي يمكنه ترجمة البيانات الكلاسيكية إلى حالات كمومية على هيئة 5 بتات كمومية، أو كيوبتات، وهي الوحدة الأساسية للمعلومات في الحوسبة الكمومية، تشبه البتات في الحواسيب العادية لكن بقدرات أكبر.
وبعد تعيين البيانات على الكيوبتات، تُستخدم طبقة محاذاة النواة الكمومية لإجراء عملية تعلم الآلة.
في عالم الحوسبة، تمثل النوى المكونات الجوهرية لنظام التشغيل، فهي تدير موارد النظام وتعمل جسرًا يربط بين مكونات البرمجيات والعتاد.
يوضح عثمان أن حسابات النواة الكمومية تستخلص الميزات المهمة من مجموعات بيانات التصنيع. ويضيف: «هنا يكمن السحر الكمومي كله، فهذه النوى شديدة التشابك. وعندما تعالج مجموعة البيانات، فإنها تصل إلى معلومات ما كانت لتتاح لولا ذلك عبر النوى التقليدية التي استخدمها الناس سابقًا».
بعد أن تستخلص النواة الكمومية الميزات المهمة، تُستخدم خوارزمية كلاسيكية أخيرة لاسترجاع المعلومات. ويوضح عثمان: «تأخذ تقنية تعلم الآلة التقليدية هذه النتيجة التي استخلصتها الطريقة الكمومية، ثم تُدرَّب لتقديم إرشادات تعود بالفائدة على عملية التصنيع. قد تحدد لنا المتغيرات المهمة في عملية التصنيع التي تؤدي الدور الحاسم، وما الذي يحتاج إلى تغيير أو ضبط لتحسين عملية التصنيع».
تفوقت تقنية QKAR على سبع خوارزميات لتعلم الآلة التقليدي دُرِّبت أيضًا على المشكلة نفسها.
ويضيف أنه نظرًا إلى الحاجة إلى 5 كيوبتات فقط، فإن هذه الطريقة قابلة للتطبيق فورًا على البنى الكمومية الحالية. ويقول: «لذا، فهذه تقنية سهلة التطبيق. فعادةً ما يتحدث الناس عن خوارزميات كمومية تتطلب عشرات الكيوبتات غير المتاحة. لكن هذه الطريقة التي طورناها عبر الجمع بين ما هو كلاسيكي وكمومي، يمكن تنفيذها فورًا أو في المستقبل القريب، والاستفادة منها».
يقول المؤلف الرئيس الدكتور زيهينغ وانغ: «إن صناعة أشباه الموصلات مقيدة على نحو متزايد بندرة البيانات والتعقيد المتزايد للعمليات. تُظهر نتائجنا أن النماذج الكمومية، عندما تُصمَّم بعناية، يمكنها التقاط أنماط قد تفوتها النماذج التقليدية، خاصةً في الأنظمة عالية الأبعاد ذات البيانات القليلة. وقد تحققنا من صحة النموذج بتصنيع أجهزة جديدة من نيتريد الغاليوم أظهرت أداءً محسنًا، وأكدنا بواسطة تحليل طيف النواة الكمومية قدرة تعلم الآلة الكمومي على التعميم خارج نطاق بيانات التدريب».
يقول المؤلف المشارك الدكتور تيم فان دير لان: «يتمثل أحد أكبر التحديات في تعلم الآلة الكمومي في جعله عمليًا. فبإدخال طبقة محاذاة نواة قابلة للتعلم في دارة كمومية سطحية، أثبتنا إمكانية تحقيق مكاسب مفيدة في الأداء حتى مع وجود عتاد كمومي محدود الكيوبتات».
«أظهر النموذج متانة في ظل مستويات واقعية من الضجيج الكمومي، وهو أمر ضروري لتطبيقه مستقبلًا على أجهزة NISQ الفعلية (الأجهزة الكمومية صاخبة الضجيج متوسطة النطاق)».
يقول عثمان إن نموذج QKAR يمكن تكييفه لمواد أخرى بعد اختبار إثبات المفهوم الأولي هذا على نيتريد الغاليوم. ويتابع: «هذا مثال تُظهر فيه التقنية الكمومية بوضوح أنها قادرة على استخلاص ميزات لا تتاح لولا ذلك من خلال الطرق التقليدية. هذه هي الدراسة الأولى التي نشرناها، وقد أثبتنا أنها ناجحة. والآن، سنعمل مع علماء آخرين في مجال تطوير المواد وسندرس أنظمة مواد جديدة. وسندرس مواد شبه موصلة أخرى، مثل عمليات تصنيع السيليكون».
«تتمثل خطوتنا التالية في دراسة مجموعات بيانات أخرى، ومعرفة مدى قابلية تطبيق هذه الطريقة، والتحقق من فعاليتها على مجموعة متنوعة من العينات التجريبية المختلفة».
اقرأ أيضًا:
كيف يمكن لهاتف الأندرويد اكتشاف الزلازل؟
علماء يصنعون روبوتات حيوية هجينة من جثث العناكب!
ترجمة: غالية طيب صالح
تدقيق: أكرم محيي الدين