يربط النسيج الكوني الكون ببعضه، واليوم، أصبح بإمكاننا اليوم رؤيته! يتخلل الكونَ نسيج واسع غير مرئي، يُنسج جزؤه اللولبي عبر الفضاء. لكن على الرغم أننا نرى تنظيم المادة في الفضاء، فإن هذا النسيج غير مرئي. يعود السبب إلى أنه مكون من المادة المظلمة، التي تولد شدًا ثقاليًا (جاذبية)، لكن لا ينبعث منها أي ضوء.

بقي النسيج غير مرئي حتى اليوم؛ إذ أنار الباحثون -للمرة الأولى- إحدى أكثر الزوايا ظلامًا في الكون.

كم هو مظلم النسيج الكوني - يتخلل الكونَ نسيج واسع غير مرئي، يُنسج جزؤه اللولبي عبر الفضاء - تنظيم المادة في الفضاء - أكثر الزوايا ظلامًا في الكون

حياكة النسيج

كان الكون قبل زمن بعيد أسخن وأصغر وأكثر كثافة، ويمكن القول إنه كان مملًّا أكثر أيضًا، فلم يكن هناك الكثير من الاختلاف في الكثافة بين مكان وآخر، وكان الفضاء ضيقًا أكثر بالمجمل، لكن حين كان الكون في مراحل تشكيله الأولى، تشابهت الأشياء كثيرًا أينما حلّت.

من ناحية أخرى، اختلفت الكثافة بعض الشيء عشوائيًا. فكانت تلك الكتل ذات قوة شد ثقالي أكبر بقليل من الفراغ المحيط، وبناءً على ذلك مالت الأشياء إلى أن تتدفق داخلها. طوَّرت هذه الكتل مع الزمن تأثيرًا جاذبيًا أقوى، فبدأت الكتل تكبر بهذه الطريقة، وتسحب المزيد من المادة إلى الداخل، ما تسبب في تكبيرها، واستمرت على هذا المنوال لمليارات ومليارات من السنين. فرغت المسافات بين الكتل حين نموها في ذات الوقت.

جذبت المناطق التي تحوي المادة المزيد من المادة، أما تلك التي لا تحوي المادة، فاستمرت بالخسارة مع مرور حقَب الزمن الكوني.

في النهاية نمَت البقع الضيقة فأصبحت نجومًا ومجرات وعناقيد نجمية أولى، في حين شكّلت المسافات بينها الفراغات الكونية الهائلة.

اليوم بعد 13,8 مليار عام من مشروع البناء الهائل، يبدو أن العملية لم تكتمل بعد، إذ إن المادة ما تزال تتدفق خارج الفراغ، وتنضم إلى مجموعات من المجرات التي تتدفق في الكثافة، وتتحول إلى عناقيد غنية. ما لدينا اليوم هو شبكة واسعة معقدة من الخيوط التي تشكل المادة، يطلَق عليها: النسيج الكوني.

ضوء وسط الظلام

تُعد الغالبية العظمى من المادة في كوننا ظلامًا، وهي مادة لا تتفاعل مع الضوء أو أي من المادة «الطبيعية» التي نراها مثل المجرات وسُحب الغاز والأشياء الأخرى المثيرة للاهتمام. يكون معظم النسيج الكوني غير مرئي كليًا بالنسبة إلينا بناءً على هذا. لحسن الحظ، فإنه حين تتجمع المادة المظلمة، فإنها أيضًا تجر معها بعضًا من المادة العادية.

نستطيع أن نرى الضوء في التجاويف الأكثر كثافة من كوننا، حيث أثرت الجاذبية الضعيفة للمادة المظلمة على المادة العادية بما يكفي لتلتحم، إذ حولت المادة العادية نفسها إلى نجوم.

أخبرتنا النجوم والمجرات أين تختبئ المادة المظلمة، فلعبت دور المنارات على الشواطئ السوداء البعيدة، معطيةً إيانا رسمًا خياليًا للتصميم الحقيقي للنسيج الكوني.

بإمكاننا بسهولة أن نرى العناقيد النجمية بهذه النظرة المتحيزة. ظهرت العناقيد مثل مدن كبرى يُنظر إليها ضمن رحلة ليلية بالطائرة. نحن نعلم بالتأكيد وجود كمية هائلة من المادة المظلمة في تلك الهياكل، إذ تحتاج إلى الكثير من الجاذبية لتجمع هذه المجرات معًا.

على الجانب الآخر من السلسلة، يمكننا بسهولة تحديد الفراغات؛ فهي الأماكن التي لا توجد فيها مادة. نظرًا إلى عدم وجود مجرات لإنارة هذه المساحات، نعلم إلى حد كبير بأنها فارغة.

تكمن عظمة النسيج الكوني في الخطوط الدقيقة للخيوط نفسها، فتمتد هذه الأجزاء اللولبية الرفيعة بين المجرات التي تمتد لملايين السنين الضوئية، مثل الطرق الكونية السريعة العظيمة التي تعبُر الفراغات السوداء، وتربط العناقيد المتزاحمة المشرقة (المجرات).

بعدسة خافتة

تُعد تلك الخيوط في النسيج الكوني أصعب جزء من النسيج لدراسته، إذ إن لديها بعض المجرات ولكن ليس الكثير منها، ولديها كل أنواع الأطوال والتوجهات. بالمقارنة مع ذلك، تُعد العناقيد والفراغات لعبة هندسية للأطفال. لذلك، على الرغم من أننا عرفنا بوجود خيوط لعقود من الزمن -بفضل محاكاة الحاسوب-، واجهنا وقتًا عصيبًا بالفعل لرؤيتها.

في الآونة الأخيرة، أحرز فريق من علماء الفلك تقدمًا كبيرًا في رسم خريطة نسيجنا الكوني، ونشروا نتائجهم في 29 يناير في قاعدة بيانات أرخايف، وقد أنجزوا عملهم على النحو التالي:

أولًا أخذوا فهرسًا لما يسمى بالمجرات الحمراء المضيئة (LRGs) من مسح الطيف التذبذبي لباريون (BOSS). يمكن تشبيه المجرات الحمراء المضيئة بوحوش ضخمة تميل إلى أن تكون في مراكز النقط الكثيفة للمادة المظلمة. وإذا كانت المجرات الحمراء المضيئة موجودة في المناطق الأكثر كثافة، فيجب للخطوط التي تربطها ببعضها أن تكون مصنوعة من خيوط دقيقة أكثر.

لكن التحديق في الفضاء بين مجرتين حمراوين مضيئتين لن يكون مثمرًا؛ إذ لن ترى الكثير من الأشياء. لذا، أخذ الفريق آلاف الأزواج من المجرات الحمراء المضيئة وأعاد ترتيبها وجمعها فوق بعضها لصنع صورة مركبة.

أحصى العلماء -باستخدام هذه الصورة المركبة- جميع المجرات التي يمكنهم رؤيتها، مضيفين كل ما استطاعوا المساهمة به لإضفاء الضوء. سمح ذلك للباحثين بقياس مقدار المادة الطبيعية التي تتكون منها الخيوط بين المجرات الحمراء المضيئة. نظر الباحثون، بعد ذلك، إلى المجرات وراء الخيوط، ونظروا تحديدًا في أشكالها.

عندما اخترق الضوء -القادم من تلك المجرات التي في الخلفية- الخيوط المتداخلة، دفعت جاذبية المادة المظلمة في تلك الخيوط الضوءَ بلطف، ما أدى إلى تغيير طفيف في صور تلك المجرات. بفضل قياس كمية التحول (التي أطلق العلماء عليها اسم «القص»)، تمكن الفريق من تقدير مقدار المادة المظلمة في الخيوط.

اصطف هذا المقياس مع التنبؤات النظرية (وهو مؤشر لوجود المادة المظلمة)، إذ أكد العلماء أيضًا أن الخيوط لم تكن مظلمة تمامًا. من بين كل 351 شمس ذات كتلة كبيرة في الخيوط، هناك شمس واحدة فقط بإمكانها إنتاج الضوء.

تُعَد هذه خريطة مبدئية للخيوط، لكنها الأولى من نوعها، وتظهر بالتأكيد أنه على الرغم من أن نسيجنا الكوني مظلم في الغالب، فإنه ليس أسود تمامًا.

اقرأ أيضًا:

ماذا لو كان نسيج الزمكان متقطعًا؟ سيتغير الواقع إلى الأبد

التضخم الكوني – ماذا حدث بعد الانفجار العظيم ؟

ترجمة: هاني عبد الفتاح

تدقيق: إبراهيم قسومه

مراجعة: تسنيم الطيبي

المصدر