إذا أجرينا منافسة لنعرف من أسوأ إمبراطور روماني مر على الإمبراطورية الرومانية، فستبرز عدة أسماء ككاليغولا مثلًا الذي اشتُهِر بفساده الأخلاقي وفجوره حتى يومنا هذا ونيرو المعروف بقسوته الذي -حسب زعم إحدى الأساطير- كان يعزف على قيثارته في حين كانت الحرائق تجتاح روما ولم تبق ولم تذر من المدينة. وأخيرًا يبرز اسم كومودوس الذي جمع كل ما سبق وأكثر بكثير أيضًا.

امتد حكم كومودوس بين عامي 180 إلى 192 بعد الميلاد، ولم يبخل على نفسه بشيء، لكنه تجاهل واجباته وكرس نفسه ووقته في حريم النسوة خاصته الذي تسكنه أكثر من 300 امرأة وعدد مماثل من الذكور وشارك أيضًا في نزالات المجالدين في الكولوسيوم وأمر بإعدام عدد لا يحصى من مناوئيه وحلفائه وأفرادًا من عائلته على حد سواء. وعندما احترقت روما في أثناء عهده، لم يقدم سوى القليل لإخماد الحرائق وأصر أيضًا على أن تحمل المدينة المعاد بنائها اسمه تكريمًا له. كان كومودوس يظن أن روح الرجل القوي الأسطوري هرقل قد تقمصت جسده.

كومودوس: الإمبراطور الفتى

كان كومودوس في الخامسة عشرة من عمره عندما جعله والده ماركوس أوريليوس إمبراطورًا بالمشاركة ونصَّبه خليفة له على الرغم من أنه ليس كفئا لشغل منصب كهذا. يكتب المؤرخ ليوس لامبريديوس عنه «منذ صباه كان كومودوس دنيئًا ذميمًا غير شريف قاسيًا فاجرًا خليعًا بذيء اللسان».

عندما قضى ماركوس أوريليوس -المحبوب شعبيًا- نحبه عام 180، أصبح كومودوس الإمبراطور الأوحد للإمبراطورية الرومانية وهو في الثامنة عشرة، وقد حيكت شائعات على أن له يدًا في وفاة والده، مع أن المؤرخين في الوقت الحالي يشككون في ذلك.

كان من الصعب على أي خليفة أن يضاهي ماركوس أوريليوس أو يتفوق عليه؛ إذ يصفه البروفسور باري شتراوس -أستاذ التاريخ والدراسات القديمة (أدب الإغريق والرومان) من جامعة كورنيل ومؤلف كتاب «القياصرة العشرة: الأباطرة الرومان ابتداءً من أغسطس وحتى قسطنطين»- بالإمبراطور الأكثر إنسانية وتواضعًا وفلسفة من بين جميع الأباطرة. إلا أن ذلك لم يكن حال ابنه؛ إذ أصبح نقيض والده في كل شيء.

بينما تمتع كومودوس بالعديد من منافع منصبه ومزاياه، لم يهتم بالقيام بالعمل الذي يتطلبه منصب الإمبراطور؛ فبدلًا من الاضطلاع بمهمته، فوض إدارة شؤون الإمبراطورية الرومانية إلى مجموعة من المساعدين الموثوقين وعندما يفقد ثقته بهم يأمر بقتلهم -غالبًا بطريقة وحشية- ويعين بدلًا منهم.

إلى جانب ذلك، فتحت ثروة كومودوس الهائلة الباب واسعًا أمامه للسعي وراء رغبات وأهواء أخرى وعلى الخصوص مشاهدة نزالات المجالدين وانضمامه إليهم.

يكتب المؤرخ ديو كاسيوس عن كومودوس: «إنه غالبًا ما ذبح على مرأى الناس أعدادًا كبيرة من الرجال والحيوانات أيضًا» ويضيف: «على سبيل المثال، قتل بنفسه خمسة أفراس نهر معًا وفيلين على مدار يوميين متعاقبين وقتل أيضًا حيوانات وحيد القرن وزرافة. وفي يوم آخر قتل مئة دب بثقفهم بالرماح وهو آمن على نفسه من شرفته المطلة على حلبة الصراع».

في واقعة أخرى جمع كومودوس عددًا كبيرًا من الرجال الذين فقدوا أقدامهم وألبسهم زي ثعابين وأعطاهم اسفنجات ليرموها عليه بدلًا من الحجارة ثم ضربهم بالهراوات حتى الموت متظاهرًا أنهم عمالقة. وكان يبدو أنه أكثر حذرًا وترويًا مع المجالدين الحقيقيين؛ إذ لم يقتل أيًا منهم قط بل أقدم على قطع أذن أو أنف في بعض المناسبات. بالطبع تحلى المجالدون بحس سليم لجعله يفوز عليهم في النزالات.

قيل إن كومودوس قد فاز بـ 12000 نزال في حلبة الصراع وتباهى أيضًا في أنه أحرز هذه الانتصارات مستخدمًا يده اليسرى فقط.

الإمبراطور يفقد عقله

لم تكن الصحة العقلية أبرز سمات كومودوس وصفاته قط وبدا أنه أكثر انفصالًا عن الواقع كلما تقادم حكمه.

حالما أقنع كومودوس نفسه أنه تجسيد لهرقل، أمضى الكثير من الوقت يقنع بقية روما في ذلك. وطلبًا لتلك الغاية، أقدم كومودوس على إزالة رأس نيرو من تمثاله البرونزي الضخم ذي المئة قدم المنتصب قرب الكولوسيوم واستبدل به نسخة مطابقة لرأسه وألحق التمثال بهراوة ووضع أسدًا برونزيًا عند قدميه لتعزيز المقارنة مع هرقل. وجرى إرسال تماثيل له بصفته هرقل وهو يرتدي جلود حيوانات ويلوح بهراوة إلى زوايا الإمبراطورية الرومانية الأربع.

قرر كومودوس أيضًا أن يسمي أشهر العام على اسمه؛ فشهر آب (أغسطس) أصبح كومودوس وتشرين الأول (أكتوبر) أصبح هرقل وأشارت بقية الأشهر إلى كثير من الألقاب منحها لنفسه.

عندما اجتاحت الحرائق روما عام 191، رأى كومودوس ذلك فرصة ليعيد تسمية المدينة باسم “Colonia Lucia Annia Commodiana” أو «مستعمرة كومودوس»، ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، دُعِى الرومان بـ «Commodiani» أي الكوموديين ومجلس الشيوخ الروماني غدا مجلس الشيوخ الكومودي المحظوظ.
لم تصبر نخبة روما على جنون كومودوس على الرغم من أن قلة قليلة منهم تجرأوا وتحدوه صراحة أو عاشوا طويلًا إذا أقدموا على ذلك.

نجا كومودوس من محاولة اغتيال كانت أخته وراءها عام 182 وفشلت عندما أعلن القاتل المغتال عن نواياه قبل أن يتمكن من رفع سيفه وينقض عليه الحراس. عدَّه كومودوس وغيره الكثيرين مذنبين وقتلهم انتقامًا على ذلك وأرسل أخته إلى المنفى لفترة قصيرة ثم أمر بقتلها أيضًا.

فشلت محاولة اغتيال ثانية عام 187، لكن في عام 192 نجح المتآمرون في اغتياله؛ إذ أقدم اثنان من كبار مسؤوليه -بمساعدة خليلته- على تسميمه وذلك إما بتسميم الخمرة أو لحم البقر حسب الرواية وعندما لم تنجح هذه الحيلة، جلبوا مصارعًا محترفًا يُدعى نرسيس خنق كومودوس.

لأي درجة كان كومودوس سيئًا؟

في كتابه الصادر عام 2021 «الأباطرة الرومان الشريرون: التاريخ المروع لأشد حكام روما شرًا من كاليجولا إلى نيرو الكثير غيرهم»، منح المؤلف فيليب بارلاغ المركز الأول لكومودوس واصفًا إياه بأنه «المنغمس في الملذات والمغفل، ناهيكم عن أنه مريض وقاسٍ وسادي وواهم».

يشير المؤرخ شتراوس إلى أنه على الرغم من درجة السوء التي وصل إليها عهدا كاليجولا ونيرو في النهاية، فإن كل منهما «بدأ عهده بداية حسنة» في حين بدأ كومودوس عهده بداية سيئة وبقي على هذا النحو. كانت تصرفاته الغريبة -على وجه الخصوص- في حلبة الصراع بمثابة إحراج لا يليق بمنصبه الملكي.

يقول شتراوس: «إذا لم يكن كومودوس أسوأ إمبراطور في التاريخ الروماني القديم، فقد كان بالتأكيد من أكثر الأباطرة المخجلين والمهينين في نظر النخبة الرومانية».

اقرأ أيضًا:

كيف ازدهرت روما القديمة خلال فترة السلام الروماني؟

الإمبراطورية الرومانية: كل ما تود معرفته

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

المصدر