عانت أيرلندا الشمالية حقبة من العنف الطائفي المميت عرفت باسم حقبة «المشكلات»، وقد استمرت ثلاثين سنة مليئة بالسيارات المفخخة وأعمال الشغب وعمليات القتل الانتقامي التي بدأت منذ نهاية ستينيات القرن العشرين حتى نهاية تسعينيات القرن ذاته، وقد وضعت بذرتها قرون من الصراع بين أيرلندا الكاثوليكية وإنكلترا البروتستانتية.

تحولت التوترات إلى أعمال عنف في نهاية ستينيات القرن العشرين فخلفت نحو 3600 قتيل وأكثر من 30 ألف جريح.

التوترات التي قادت إلى «المشكلات»

يرجع أصل التوترات إلى قرون من الحرب التي حاول فيها الأيرلنديون الكاثوليك التحرر من حكم بريطانيا ذات الأغلبية البروتستانتية، ولم ينجحوا حتى سنة 1921 م حين نالوا استقلالهم وقُسِّمت بلادهم إلى قسمين: دولة أيرلندا الحرة ذات الأغلبية الكاثوليكية الساحقة وأيرلندا الشمالية الأصغر مساحة المكونة من أغلبية بروتستانتية إلى جانب أقلية كاثوليكية.

نالت دولة أيرلندا استقلالها الكامل في حين بقيت أيرلندا الشمالية تحت السيطرة البريطانية، واشتكت مجتمعاتها الكاثوليكية في مدن كبلفاست وديري -واسمها الرسمي لندنديري- من التمييز وسوء معاملة الحكومة البروتستانتية وشرطتها، وبمرور الوقت أصبحت القوتان المتعارضتان في أيرلندا الشمالية كتلتين متمايزتين: القوميين الكاثوليك ضد الموالين البروتستانت.

حركة الحقوق المدنية

في ستينيات القرن العشرين، شهدت أيرلندا الشمالية جيلًا جديدًا من القوميين الكاثوليك الشباب الواعين سياسيًا واجتماعيًا، يعُد حركة الحقوق المدنية في أمريكا نموذجًا لإنهاء ما رأوه تمييزًا وقحًا ضد الكاثوليك في دولتهم الأم. يقول أستاذ التاريخ الفخري بجامعة نوتردام، الذي نشأ في بلفاست جيمس سميث: «وُجد تمييز ممنهج في السكن والعمل، إذ كان حوض بناء سفن بلفاست أكبر مستخدم للعمال هناك لكن 95% من العاملين فيه كانوا من البروتستانت، أما في مدينة ديري التي كان ثلثا سكانها من الكاثوليك فقد قُسمت فيها الدوائر الانتخابية بطريقة ظالمة، حتى أن الموالين –البروتستانت- سيطروا عليها سياسيًا خمسين سنة».

رفض القادة القوميون الشباب -مثل جون هيوم وأوستن كوري وبرناديت ديفلين- القبول بالوضع القائم، إذ رأوا ما كان يحصل في أمريكا وكيف لفتت الحشود في المظاهرات السلمية النظر هناك إلى محنة السود الذين يعانون الفصل العنصري وقوانين جيم كرو الجائرة.

يعلق على ذلك جيمس سميث، في كتاب «في ذكرى المشكلات: نقاش في الماضي الحديث لأيرلندا الشمالية» المنشور عام 2017 م، بقوله: «اتخذوا حركة الحقوق المدنية الأمريكية نموذجًا لهم فقلدوها إلى درجة أنهم كانوا يرددون أغنية «سوف ننتصر» -التي كانت رمزًا من رموز الحركة الأمريكية- في إيرلندا الشمالية».

1968: الشرطة تقمع المتظاهرين في ديري

في 5 أكتوبر 1968 خُطط لمسيرة احتجاج تجوب شارع ديوك في ديري، وحاول النشطاء القوميون جذب الانتباه للتمييز في سياسات الإسكان التي نتج عنها –في الواقع- فصل بين السكان وفقًا للدين، فمنعت حكومة أيرلندا الشمالية هذه المسيرة، لكن المحتجين تجاهلوا المنع وتجمعوا في 5 أكتوبر مع لافتات تقول «رجل واحد، صوت واحد» و«دمروا الطائفية!».

بدأ الحشد بالمسير لكن التهديد بعصي شرطة أولستر الملكية -اسم قوة شرطة أيرلندا الشمالية حينها- منعتهم من التقدم، قبل أن تهاجمهم الشرطة وتقطع عليهم طريق الرجعة، وقد التقطت كاميرات التلفاز صورًا مقلقة تُظهر ضباط الشرطة الأيرلندية يضربون المحتجين بالعصي في حين تسود الفوضى في الشوارع. يرى سميث أن «حقبة المشكلات بدأت يوم 5 أكتوبر 1968، وأن صور التلفاز تلك حُفرت في ذاكرة الناس».

1969: العنف عند جسر بورنتوليت

رفع قمع الشرطة يوم 5 أكتوبر 1968 م درجة التوترات بين القوميين الكاثوليك وبين الموالين البروتستانت، وأعد المسرح لمزيد من المصادمات العنيفة. يوم رأس السنة 1969، نظم النشطاء القوميون مسيرة تنطلق من عاصمة أيرلندا الشمالية «بلفاست» نحو ديري «عاصمة الظلم» كما أطلقت عليها برناديت دفلين، على غرار مسيرات مارتن لوثر كنغ التاريخية، وساروا عبر معاقل الموالين المعروفة حيث كان خطر العنف واضحًا.

رافقت الشرطة مسيرة المحتجين القوميين مدة أيام حتى وصلت جسر بورنتوليت على مشارف ديري، وهناك –وفقًا للمحتجين- ارتدت قوات الشرطة خوذها ودروعها مستبقةً الصدام، وبدأت عصابة من الموالين تمطر المحتجين بالحجارة.

كان عدد المهاجمين يناهز 300 مواليًا، ملأوا الجسر بهراواتهم وقضبانهم الحديدية، وارتدى بعضهم أربطة معاصم بيضاء تُشير إلى وحدة شرطة «ب-الخاصة» الملحقة بشرطة أولستر الملكية. هرب المحتجون غارقين في دمائهم إلى النهر رغم برودته الشديدة طلبًا للحماية في حين لم تحرك الشرطة ساكنًا، وفقًا لسميث.

كان كمين جسر بورنتوليت شبيهًا -بشكل مخيف- بأحداث 7 مارس 1965 في أمريكا، حين عبر المحتجون السلميون المنطلقون من سلما جسر أدموند بيتوس فردتهم على أعقابهم قوة من فرقة ألاباما تلبس الخوذات البيضاء باستعمال قنابل الغاز والعصي والأسواط.

1969: معركة بوغسايد

يرى بعض المؤرخين أن بداية «المشكلات» الحقيقية هي أحداث أغسطس 1969، حين أثار موكب للموالين في ديري أعمال شغب وأعمالًا انتقامية استمرت ثلاثة أيام.

كتب سميث: «عادةً ما رتبت المنظمات المواكب عبر أيرلندا الشمالية لتخليد ذكرى الانتصارات العسكرية البروتستانتية التي ترجع إلى القرن 17، وكان المحفل المحلي ببلدة ديري يُعرف باسم «الصبية المبتدئين»، وقد نظم موكبًا وطنيًا للموالين يوم 12 أغسطس، انطلق عبر جزء من البلدة ذي غالبية كاثوليكية اسمه بوغسايد».

رأى سكان بوغسايد في الموكب استفزازًا مقصودًا فتجهزوا لمواجهة عنيفة مغلقين الشوارع بالمتاريس مستعدين بقنابل المولوتوف، وكما هو متوقع اصطدم القوميون من بوغسايد بموكب الصبية المبتدئين، فأسرع ضباط الشرطة لإيقاف أعمال الشغف لكن واجهتهم مقاومة سكان بوغسايد العنيفة يمطرونهم بالحجارة وقنابل المولوتوف.

استمرت نار «معركة بوغسايد» بالاستعار ثلاثة أيام لكن الضرر الأكبر أصاب بلفاست حيث ساعدت وحدات شرطة «ب-الخاصة» عصابات الموالين في اجتياح أحياء الكاثوليك وإحراق 1500 منزل. وفي 14 أغسطس طلب رئيس وزراء أيرلندا الشمالية من الحكومة البريطانية إرسال قواتها لاستعادة النظام، وكان هذا بداية عقود طويلة من نشر قوات الجيش البريطاني في أيرلندا الشمالية. يعلق سميث: «نستطيع القول إن أيرلندا الشمالية انهارت بكاملها مدة ثلاثة أو أربعة أيام، إذ لم تستطع الحكومة حفظ النظام فاضطر البريطانيون إلى المجيء».

«الأحد الدامي» وثلاثون عامًا من العنف الطائفي

رحب القوميون الكاثوليك بقدوم القوات البريطانية في البداية إذ افترضوا أنها ستحميهم لكن الجيش سرعان ما فرض سياسة «الحبس دون محاكمة»، التي نتج عنها جمع مئات ممن اشتُبه بانتمائهم للجيش الجمهوري الأيرلندي وسجنهم دون اتباع الإجراءات القانونية السليمة.

في 30 يناير 1972 نظم القوميون الكاثوليك في ديري مسيرة تحتج على سياسة الحبس دون محاكمة، لكن الجيش سعى لفضها، وحين رفض المحتجون الذهاب أطلقت قوات الجيش الرصاص المطاطي ثم الرصاص الحي فقُتل 13 محتجًا وجُرح 17 في مأساة أطلق عليها اسم «الأحد الدامي».

يقول سميث، الذي شهد الأحداث: «من الغريب أنه لم يُقتل سوى هذا العدد، رغم إطلاق الرصاص الحي!».

في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، عانت أيرلندا الشمالية تفجير عشرات السيارات المفخخة والهجمات الطائفية التي اقترفتها الجماعات المسلحة من الطرفين، مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وقوات ألستر التطوعية، وراح ضحية أعمال العنف هذه مئات القتلى المدنيين.

انتهت حقبة «المشكلات»، رسميًا على الأقل، بتوقيع اتفاق الجمعة العظيمة سنة 1998، الذي قدم إطارًا لتقاسم السلطة السياسية فأنهى عقودًا من العنف.

اقرأ أيضًا:

ثماني حقائق عن السلتيين

مجاعة البطاطا الأيرلندية.. لمحة تاريخية

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: نور عباس

المصدر