لماذا تكون الأدمغة الأكبر حجمًا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض العقلية؟


قشرة الدّماغ في الإنسان والثّدْييّات الأخرى مسؤولةٌ عن الحواسّ، والحركة، والوظائف الإدراكيّة. حيث يجب أن يُوفّر فهم منظومة الشّبكات العصبيّة في القشرة الدّماغيّة، رؤًى تساعد على فهم الطّريقة الّتي يعمل بها الدّماغ، والعمليّات الّتي يستطيع تنفيذها. وقد أظهرت دراسة نُشِرت في الحادي والعشرين من شهر تموز/يوليو في مجلّة (PLOS Biology)، أن أسلوب بناء القشرة الدماغية، وما يتخلّلها من شبكاتٍ عصبيّة، في الرّئيسيّات (والّتي تتميّز بدماغٍ أكبر)، والقوارض (والّتي تتميّز بدماغٍ أصغر) يسير على نفس المبادِئ. وعلى الرّغم من ثابتيّة –عدم اختلاف– البناء العام للشّبكة العصبيّة، إلّا أنّ أدمغة الرّئيسيّات (الثّدْييّات العُليا) يحتوي على روابطَ بعيدة المدى (بين أجزاء الدّماغ) أضعف من دماغ القوارض؛ ممّا يشرح لنا سبب زيادة عرضة الأدمغة الكبيرة إلى الإصابة ببعض الأمراض العقليّة، كانفصام الشّخصيّة أو الفصام «الشّيزوفرينيا»، والألزهايمر.

في عملٍ سابق، رصد كلٌّ من –زولتان توروكزكاي «Zoltán Toroczkai»، من جامعة نوتردام – الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وماريا إركسيرافِز «Mária Ercsey-Ravasz»، من جامعة بولياي- رومانيا، وهنري كينيدي «Henry Kennedy»، من جامعة ليون – فرنسا، والزّملاء الآخرين– الدّراسات الّتي أُجرِيت على قرود المكّاك، والّتي تُصوّر الارتباطات في الدّماغ مع نظريّة الشّبكة الدّماغيّة؛ لإظهار أنّ بنية الشّبكة القشريّة في هذه الرّئيسيّات، يحكمها ما يُسمّى بـ«قاعدة المسافة الأسّيّة – Exponential distance rule – EDR»، إن صحّ التّعبير بالعربيّة.

تشرح هذا القاعدة، العلاقة الثّابتة بين المسافة وقوّة الرّابطة. وتمشّيًا مع نتائج الدّراسات (والّتي تكون على شكلِ رسومٍ تصويريّة)، تتنبّأ قاعدة المسافة الأسّيّة بوجودِ عددٍ أقلّ بكثيرٍ من المحاور العصبيّة بعيدة المدى –وهي الألياف العصبيّة الّتي تعمل كخطوط نقلٍ للجهاز العصبيّ– مقارنة بالمحاور العصبيّة قصيرة المدى، ويمكننا التّعبير عن هذا بمعادلةٍ رياضيّة. وعلى مستوى المناطق القشريّة الدّماغيّة (كالقشرة البصريّة والسّمعيّة)، والّتي فُحصت بدورها في الدّراسات نفسها، فإنّه كلّما قلّت المسافة بين منطقتين مُعيّنتَيْن، زادت الاتّصالات العصبيّة بينهما.

قارن الباحثون في هذه الدّراسة بين ميزات شبكة القشرة الدّماغيّة الخاصّة بقرود المكّاك – وهي حيوانات ثدْييّة بقشرة دماغ كبيرة – وبين ميزات القشرة الدّماغيّة الأصغر بكثيرٍ لدى الفأر. واستعملوا بيانات تتبّع (أيْ بينات الرّسوم التّصويريّة الخاصّة بهيكلة الدّماغ) مفصّلة لتحديد كمّيّة الارتباطات بين المناطق الوظيفية، وتلك الّتي شكّلت الأساس الّذي يقوم عليه التّحليل. وعلى الرّغم من الفروق الجوهريّة في حجم قشرة الدّماغ بين الأنواع المختلفة، والفروق الأخرى الواضحة في تنظيم القشرة الدّماغية، وجدوا أنّ السّمات الإحصائيّة الأساسيّة لجميع الشّبكات اتّبعت قاعدة المسافة الأسّيّة.

اعتمادًا على النتائج، افترض الباحثون أنّ قاعدة المسافة الأسّيّة تصف مبدأً تصميميًّا فعّالًا بقي ثابتًا أثناء عمليّة تطوّر أدمغة الثّدْييّات من مُختلف الأحجام. وقد قدّموا حججًا رياضيّةً تجعل من قاعدة المسافة الأسّيّة المبدأ المسيطر على الاتّصالات في القشرة الدّماغيّة بحقّ، وكما قد دعمت التّجارب اللاحقة هذا الادّعاء نفسه. والتّجارب كانت تنطوي على تقصّي مناطق الدّماغ الصّغيرة بدقّة عالية لكلٍّ من قرد المكّاك، والفأر، والليمور الفأريّ (أحد الرّئيسيات؛ لديه دماغ صغير جدًّا).

واختتم الباحثون بقولهم: «إنّ النّتائج تشير إلى أنّ قاعدة المسافة الأسّيّة تلعب دورًا أساسيًّا في تحسين تخطيط المناطق الدّاخلية في شبكة القشرة الدّماغيّة لدى الثّدْيّيات؛ ممّا يسمح للحيوانات ذات الأدمغة الكبيرة، بالحفاظ على كفاءة الاتّصالات العصبيّة، إلى جانب زيادة عدد الخلايا العصبيّة».

وكما تتنبّأ قاعدة المسافة الأسّيّة، وتُؤكّد البيانات التّصويريّة المرصودة لهيكلة الدّماغ؛ بأنّ الوصلات العصبيّة تَضْعُف باطّرادٍ بازديادِ المسافة. وعلى افتراضِ أنّ قاعدة المسافة الأسّيّة يمكن تطبيقها على جميع أدمغة الثّدْييّات، فإنّ ذلك يشير إلى أنّ الاتّصالات الّتي تمتدّ لمسافاتٍ طويلةٍ، قد تكون ضعيفةً جدًّا في القشرة الدّماغيّة لدى الإنسان، والّتي تكبُر بدورها قشرة المكّاك بخمس مرّات. يقول الباحثون: «إذا كان هذا الافتراض صحيحًّا، يمكن للمرء توقّع أن الوزن الخفيف للارتباطات (الاتّصالات) بعيدة-المدى قد يساهم في زيادة قابليّة انقطاعها (أو الإصابة بمتلازمات تنطوي على انقطاع تِلكُم الاتّصالات العصبيّة الدّماغيّة)؛ كما في الألزهايمر والفصام».


ترجمة: عبدالله الصباغ
تدقيق: يسر شيشكلي
المصدر