تزداد نسبة الإصابة بالصرع عند مصابي التوحد بدرجة كبيرة لدى مقارنتها مع نسب الإصابة بين الناس عامةً، ومع أن نسبة الإصابات لديهم أقل من 2% فإن الدراسات تشير إلى ارتفاع تلك النسبة حتى نحو 30% لدى مصابي التوحد. حفزت العلاقة بين هذين الاضطرابين الباحثين لطرح السؤال الآتي: «هل حقًا تسبب الاضطرابات العصبية بعض حالات التوحد؟»، وبينما لا نستطيع إجابة هذا السؤال بوضوح، فإن الدراسات زودتنا بنتائج مثيرة للاهتمام حقًا.

عن الصرع

الصرع اضطراب عصبي شائع نسبيًا ينتج عنه نوبات؛ ولهذا يسمى أيضًا باضطراب النوبات. وقد يظهر في مرحلة الطفولة متسببًا في نمو عقلي غير طبيعي أو إصابة أو مرض مع أن الحال ليس كذلك دائمًا. ويُشخص الصرع عند إصابة الفرد على الأقل بنوبتين دون مبرر، أي لم تنتج عن حالة مرضية معروفة كسكر الدم المنخفض أو كأحد أعراض انسحاب الكحول. ويصبح التشخيص مؤكدًا عند تطبيق اختبار التخطيط الكهربائي الدماغ (قياس موجات الدماغ)، أو التصوير بالرنين المغناطيسي (تصوير الدماغ).

وتنشأ نوبات الصرع عن اندفاعات غير عادية في النشاط الكهربائي في الدماغ التي تنتج بدورها عن تفاعلات كيميائية. وتختلف حدة تلك النوبات؛ فقد تكون شديدة إلى درجة الإعاقة أو غير ملحوظة. وقد تتنوع الأعراض بين الإصابة بالتشنجات العضلية وإلى ما يعرف بحالات الغياب عن الوعي، وقد تشمل الأعراض أيضًا أحداثًا حسية قبل النوبة وآثارًا لاحقة كالشعور بالإجهاد أو الغثيان.

تسمح الأدوية لكثير من الأشخاص بالسيطرة على صرعهم، ومما ينتشر انتشارًا واسعًا:

  •  كاربامازيبين.
  •  الفينيتوين.
  •  حمض الفالبوريك.
  •  جابابنتين.
  •  توبيراميت.

ومع أن تلك المركبات قد تمنح بعض السيطرة على النوبات، فإن كثيرًا منها تصاحبه أعراض جانبية حادة. ولذلك من المهم متابعة التأثيرات التي قد تنتج عن الدواء المتناول لتجنب إصابة المريض بأضرار فوق إصابته بالصرع.

الرابط بين التوحد والصرع

لا تقتصر العلاقة بينهما على كون الصرع أوسع انتشارًا بين مصابي التوحد وحسب، بل أن احتمالية الإصابة بالتوحد لدى مصابي الصرع تظل أعلى بنحو 10مرات عن المعدل الطبيعي. وأُثبت ذلك على مر العقود في عدة دراسات، لكن المدى الدقيق لهذا الانتشار اختلف كثيرًا فيما بينها. وقد يصعب تحديد مدى انتشار الصرع بين مصابي التوحد لأن كلا الاضطرابين يتمثلان بأعراض متشابهة، وبالتحديد يشتركان بالأعراض التالية:

  •  حركات جسدية وتشنجات لا إرادية.
  •  شرود الذهن.
  •  نقص الانتباه أو فقدان التركيز.
  •  تجارب حسية غير مألوفة.

لكن اكتشف الباحثون بعض الحقائق المثيرة للاهتمام حول التداخل بين التوحد والصرع، وأبرزها:

  •  ارتفاع نسبة الإصابة بالصرع لدى ذوي الإعاقة الذهنية.
  •  وجود رابط بين الصرع والتوحد التراجعي (أي فقدان المهارات المكتسبة).
  •  بينما يبدأ التوحد في مرحلة الطفولة دائمًا، فإن الصرع قد يبدأ بالظهور لدى مصابي التوحد إما في الوقت نفسه أو في مرحلة البلوغ.
  •  مع أن عدد مصابي التوحد من الذكور يبلغ أربعة أضعاف المصابات من النساء، فإن بعض الدراسات تشير إلى ارتفاع نسب الإصابة بالصرع لدى النساء المصابات بالتوحد مقارنةً بالرجال.

استكشاف العلاقة بين التوحد والصرع

دفع وجود رابط مشترك غير عادي بين التوحد والصرع الباحثين إلى الرغبة في استكشاف الروابط المحتملة بين الاضطرابين، فطرحوا على أنفسهم الأسئلة التالية:

هل يوجد سبب مشترك لنشأة الصرع والتوحد؟

إن أسباب الإصابة بأي من الاضطرابين غامضة في معظم الأوقات، لكن بعضها يظل واضحًا، فمثلًا قد ينشأ الصرع نتيجة إصابة في الدماغ، وقد ينشأ التوحد بسبب اضطراب وراثي. لكن في المقابل تبحث بعض الدراسات في السؤال: هل من الممكن أن يشترك الصرع والتوحد بسبب أو عدة أسباب، حتى وإن كان ذلك محدودًا ببعض الحالات فقط.

أشارت النتائج إلى فرصة وجود هذا الاحتمال وأن كلًا من الظروف الجينية والبيئية لها دخل في الإصابة بأي منهما. إذ ظهرت علاقة بين الحالات التي نتجت عن اختلاف في عدد النسخ الجينومية أو الطفرات في الجينات الفردية وبين مصابي طيف اضطراب التوحد ومصابي الصرع. ومن ضمنها التصلب الحدبي ومتلازمتي ريت والكروموسوم إكس الهش وغيرها. توجد نظريات أخرى تربط بين التوحد والصرع بناءً على الاختلافات الجينية، والدليل الذي يدعم ذلك هو أن كليهما قد يكون -على الأقل إلى حدٍ ما- نتيجة لحالة الشذوذ الجيني نفسها.

وإلى جانب العوامل الجينية، يشترك التوحد والصرع ببعض العوامل البيئية، وتشمل:

  •  التلوث الهوائي والسموم البيئية.
  •  الإصابة خلال فترة الحمل بعدوى داخل الرحم.
  •  تناول الأم المصابة بالصرع أدوية علاجية (خاصةً فالبروات) في أثناء الحمل.
  •  تلف دماغ المولود خلال ولادته.
  •  اضطرابات حديثي الولادة مثل اليرقان.
  •  بعض حالات الأيض.

هل يمكن للصرع أن يكون سببًا للإصابة بالتوحد (أو العكس)؟

يتناول تريسي تران من جامعة روتجرز، بالتعاون مع فيجي سانتاكومار (الأستاذة المشاركة في قسم علم أنظمة الأحياء وعلم الأحياء الجزيئي والخلوي في جامعة كاليفورنيا) هذا السؤال في ورقة بحثية نشرت في مجلة Translational Psychiatry. تقول فيجي: «تنص إحدى الفرضيات بأنه في أثناء تطور الدماغ، تتطور الخلايا العصبية المثبطة (المسؤولة عن تنظيم إيقاعات الدماغ) على نحو غير طبيعي … إذا صح ذلك؛ فيعد هذا مدلولًا على اكتمال الدماغ على منوال غير طبيعي؛ ما قد يؤدي إلى الإصابة بكلٍ من التوحد والصرع».

ركزت الدراسة على وجود عدد أقل من الخلايا العصبية المثبطة في دائرة دماغ الفئران التي خضعت للتجربة، إذ زُودت بطفرة منعت الخلايا العصبية المثبطة من الزحف لموقعها الطبيعي في دوائر الدماغ مكتملة النمو. فأظهرت الفئران سمات سلوكية ارتبطت بطيف التوحد، وكانت أكثر عرضةً للنوبات.

وقد أشارت فيجي إلى احتمالية وجود خلل نموٍ فيما يتعلق بتأسيس الدوائر العصبية المثبطة، ما قد يساهم على نحو رئيسي في ظهور التوحد والصرع معًا. ولذلك قد يساعد فهم آلية نمو الدوائر هذه في تطوير العلاجات الأكثر استهدافًا لجذر المشكلة.

تشير عدة دراسات إلى كون الصرع أحد الأسباب التي تكمن وراء الإصابة بالتوحد، فقد تؤثر نوبات الصرع الحادة التي تصيب الرضع والأطفال الصغار جدًا (خاصةً تلك التي تسمى التشنجات الطفولية) سلبًا في نمو الدماغ. وقد يساعد التدخل الجراحي لعلاج النوبات على تحسين السلوك الاجتماعي ورفع نسبة الذكاء. وتبحث إحدى الدراسات في قدرة العلاجات التي تمنع الصرع لدى الرضع ذوي نسبة الخطورة المرتفعة، من مصابي التصلب الحدبي، على الحد من فرص إصابتهم بالتوحد لاحقًا في حياتهم. وتعد متلازمة تسمى لاندو- كليفنر إحدى اضطرابات الصرع الحادة التي تسبب تراجعًا في النمو وأعراضًا شبيهة بالتوحد.

هل يمكن لوسائل علاج الصرع معالجة أعراض التوحد؟

من العوامل المُحيّرة عندما يتعلق الأمر بالتوحد هي انعدام وجود الأدوية التي تعالج أعراضه من جذورها. ولذلك نلجأ إلى الأدوية التي تعالج أعراضه كلًا على حدة، فتحد من القلق وتحسن مدى الانتباه، ومن ثم إلى العلاجات التي تساعد في بناء مهارات التواصل الاجتماعي. ولكن بوجود الرابط القوي بين التوحد والصرع؛ ينشأ احتمال وجود التأثير المشترك لأدوية الصرع على التوحد. وبالفعل، أثبتت إحدى الدراسات فعالية فالبروات الذي يعالج النوبات في التقليل من الانزعاج لدى مصابي التوحد والصرع من الأطفال الصغار.

ما الاحتياطات التي يجب اتخاذها عند الاشتباه في إصابة طفل مصاب بالتوحد بالنوبات؟

ليس من المستغرب إصابة طفل مصاب بالتوحد أيضًا بنوبات صرع نظرًا إلى الارتباط القوي بين التوحد والصرع. فقد يختبر الطفل النوبات ظاهريًا أحيانًا، فتصيبه التشنجات أو يصبح متصلبًا أو يفقد وعيه. وقد تصعب ملاحظة تلك النوبات في أحيان أخرى؛ فتتمثل في وهلة قصيرة من التحديق المجرد من الاستجابة، أو المرور بتجربة حسية غير عادية. خاصةً إذا كان الطفل غير لفظي أو لديه أعراض توحد نموذجية؛ أي ذو سلوكيات متكررة مثل النقر باستمرار على شيء ما أو التأرجح أو تعمد السير بسرعة ثابتة.

من المهم تقييم حالة الطفل عند اشتباه الصرع، وعلاجه إذا استدعى الأمر. فيما يلي الخطوات التي غالبًا ما تُتبع في ذلك:

  •  استشارة طبيب الأطفال مبدئيًا، الذي سيطرح بدوره الأسئلة على الطفل ويفحصه لتقصي أثر أي نوبات محتملة.
  •  بناءً على ما يتوصل إليه الطبيب (إذا وجد على الطفل ما قد يستدعي القلق) فقد يطلب إجراء تخطيط كهربائي للدماغ أو تصوير بالرنين المغناطيسي أو كليهما للكشف عن أي نشاط غير معتاد للدماغ أو تشوهات.
  •  إذا دلت نتائج الفحوصات على وجود الصرع؛ فقد يوصي مقدم الرعاية الصحية للطفل بتناول الأدوية التي تحد من النوبات وتسيطر عليها. ولكن يبقى أمر بالغ الأهمية وهو مناقشة الأعراض الجانبية المحتملة للدواء، والحرص على عدم تداخله مع أي دواء آخر يتناوله الطفل، والانتباه إذا كان يساهم في سوء أعراض التوحد.
  •  قد ينصح مقدم الرعاية الصحية بالفحوصات الجينية للتوصل إلى ما إذا كان الطفل يعاني اضطرابًا جينيًا، على طراز كروموسوم إكس الهش، والذي تربطه علاقة بين كل من الصرع والتوحد.

التعايش مع الصرع

بينما يتعايش العديد من مصابي الصرع مع نوباتهم بدعم من الأدوية، فما يزال آخرون يفتقرون إلى هذا الدعم. في الحالة الأولى قد يكون كل ما يحتاجه الطفل هو فقط زيارات متواصلة إلى طبيب الأعصاب لتعديل جرعة الدواء أو مناقشة أعراضه الجانبية. بينما في الحالة الأخرى يستدعي الأمر البحث في جذر المشكلة وتوخي الاحتياطات اللازمة. أما لدى الإصابة بالتوحد، فيجب الانتباه إلى بعض العلامات التي قد تدل على وجود الصرع أيضًا:

  •  مواجهة الطفل صعوبات في التعلم والتنسيق الحركي والتواصل مع الآخرين والتحكم في سلوكياته، والافتقار إلى قدرته على العناية بنفسه أو المبادرة المتأخرة في ذلك.
  •  حاجة الطفل للمتابعة الإضافية والإشراف عليه في أثناء أدائه للأنشطة ذات نسبة الخطورة المرتفعة نسبيًا، مثل الاستحمام والسباحة أو ممارسة الرياضة.
  •  انسحاب الطفل؛ فيصبح أقل مشاركةً ونشاطًا مقارنةً بالأطفال غير المصابين بالصرع.
  •  مواجهة الطفل تحديات تؤثر في قدرته على التركيز والنوم.
  •  تحوله إلى ضحية للتنمر والمضايقة من زملائه.
  •  شعوره بالنبذ من أقرانه.

يُنصح بإبقاء محيط الطفل من مدرسين وزملاء وموجهي الرعاية الصحية على علم بنوباته، وخاصةً إذا كانت حادة. وتثقيفهم عن الصرع لتعلم كيفية التعامل مع نوبات الطفل عند حدوثها.

يشكل الصرع تحديًا إضافيًا لتحديات الحياة شأنه شأن التوحد، ولكنه بعكس التوحد يعد مفهومًا على نطاق أوسع ويمكن السيطرة عليه؛ فنادرًا ما تعد نوباته مهددة للحياة بل قد تقل أو تتغير بنمو الطفل. وفيما يتعلق ببيئة الطفل؛ فغالبًا ما ينصح أهالي الأطفال المصابين باختيار الأنظمة الدراسية وأماكن العلاج التي تلائم وضع الطفل وتمنحه الأمان والراحة.

اقرأ أيضًا:

العلاج بالقنب قد يقلل من نوبات الصرع لدى الأطفال

اكتشاف وجود رابط بين التوحد والصرع

ترجمة: سامية الشرقاوي

تدقيق: محمد حسان عجك

مراجعة: لبنى حمزة

المصادر: 1 2