نظرًا للتقدمات الأخيرة المبهرة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، فمن الواضح أن الآلات الواعية والذكية تلوح في الأفق.

فالآلات تفهم الأوامر الشفهية، تميز الصور، تقود السيارات وتلعب الألعاب بشكل أفضل مما نفعل، فيا تُرى كم تبقى من الوقت قبل أن نراهم يمشون بيننا؟

يأخذ التقرير الجديد للبيت الأبيض عن الذكاء الاصطناعي بوجهة نظر متشككة تناسب ذلك الحلم، فيقول بأنه من المحتمل أن العشرين سنة المقبلة لن ترى آلات.

بحسب التقرير: «معرض ذكي يطبق على نطاق واسع مماثل أو يتجاوز مثيله لدى البشر» وبالرغم من ذلك يذهب التقرير للقول بأنه خلال السنوات القادمة: «ستصل الآلات وتتجاوز الأداء البشري في العديد والعديد من المهام» لكن لا يزال كل ذلك فرضيات حول كيف ستطور تلك القدرات بعض النقاط المفقودة والهامة.

يذكر أريند هينتز (Arend Hintze) الأستاذ المساعد في علوم الكمبيوتر والهندسة في جامعة ولاية ميشيغان، وبصفتي باحث في مجال الذكاء الاصطناعي، سأعترف بأنه من الجيد أن يُسلط الضوء على مجال اهتمامي على أعلى مستوى في الحكومة الأمريكية، لكن ركز التقرير بشكل حصري على ما أسميه «النوع الممل من الذكاء الإصطناعي» فقد قلل ذلك التقرير -في نصف جملة- من مجال أبحاثي فى الذكاء الاصطناعي بموضوع مساعدة التطور في تحسين أنظمة الذكاء الاصطناعي دائمة التطور، وكيف تستطيع النماذج الحاسوبية أن تساعدنا على فهم كيف تطور ذكاؤنا البشري.

ويركز التقرير على ما يمكن تسميته بأدوات الذكاء الاصطناعي الأساسية: تعَلُّم الآلة والتعلُّم العميق.

تلك هي أنواع التقنيات التي تعد قادرة على لعب جوباردي «لعبة أسئلة وأجوبة أمريكية» بشكل جيد، وهزيمة محترفي الألعاب من البشر في أكثر الألعاب التي اختُرعت تعقيدًا، فتلك الأنظمة الذكية الحالية قادرة على التعامل مع كميات ضخمة من البيانات وإجراء عمليات حسابية معقدة بسرعة كبيرة، لكنها تفتقر إلى العنصر الذي سيكون مفتاح بناء الآلات الواعية التي نتصور امتلاكها في المستقبل.

إننا بحاجة إلى فعل ما هو أكثر من تعليم الآلات كيف تتعلم، نحن بحاجة إلى تجاوز الحدود التي تحدد الأربعة أنماط المختلفة للذكاء الإصطناعي، والحواجز التي تفصل الآلات عنا، وتفصلنا عنهم.

النوع الأول: الآلات التفاعلية

إن أكثر أنواع أنظمة الذكاء الاصطناعي بساطة هي تفاعلية بشكل بحت، ليس لديها القدرة على تكوين ذكريات ولا على استخدام خبرات الماضي لاتخاذ قرارات حالية.

استطاع ديب بلو حاسوب آي بي إم الفائق الذي يلعب الشطرنج هزيمة لاعب الشطرنج الدولي جاري كاسباروف في أواخر التسعينات، إنه المثال الأوضح لذلك النوع من الآلات.

فباستطاعة ديب بلو أن يتعرف على القطع فوق رقعة الشطرنج وأن يعرف كيف تتحرك كل منها أيضًا، كما يستطيع توقع أي القطع يمكن تحريكها وحركات الخصم كذلك، ويمكنه اختيار الحركة الأمثل بين كافة الاحتمالات.

لكن ليس لديه أية فكرة عن الماضي، ولا أية ذكرى عما حدث في السابق، وبغض النظر عن إحدى قواعد الشطرنج النادرة والتي تمنع من تكرار نفس الحركة لثلاث مرات، فإن ديب بلو يتجاهل كل ماهو سابق على اللحظة الحالية، فكل مايفعله هو النظر باتجاه القطع فوق رقعة الشطرنج كما هو حالها الآن، ثم يختار بين الحركات التالية الممكنة.

ذلك النوع من الذكاء الاصطناعي والذي يشمل الحاسوب يستطيع إدراك العالم بشكل مباشر فيتصرف طبقًا لما يراه، إنه لا يعتمد على فكرة مسبقة لديه عن العالم. ففي ورقته البحثية، قام الباحث في مجال الذكاء الإصطناعي رودني بروكز بالنقاش حول أنه يجب علينا بناء آلات مثل تلك فقط، ودافعه الأساسي في ذلك هو أن البشر ليسوا على قدر كبير من الكفاءة في برمجة عوالم محاكاة بشكل دقيق ليستطيع الحاسوب استخدامها، والتي تسمى في مجال الذكاء الإصطناعي بـ «محاكاة/نمذجة للعالم».

وإننا نتعجب من كون الأجهزة الذكية الحالية إما ليس لديها مفهوم مجرد عن العالم، أو لديها مفهوم واحد محدود ومخصص جدًا لمهام محددة، فالإبتكار في تصميم ديب بلو ليس بتوسيع نطاق الحركات المحتملة التي يضعها الكمبيوتر في الاعتبار، وبالأحرى، فقد وجد المطورون طريقة لتضييق رؤيتها، كي تتوقف عن متابعة بعض الحركات المستقبلية المحتملة، اعتمادًا على كيفية تقييمها لنتائجها. وبدون تلك القدرة، سيحتاج ديب بلو إلى قوة أكثر كي يتمكن حقًا من هزيمة كاسباروف.

وبالمثل، فإن كمبيوتر جوجل ألفا جو الذي استطاع هزيمة كبار خبراء لعبة جو لايستطيع تخمين كل الحركات المحتملة أيضًا، وطريقته في التحليل هي أكثر تعقيدًا من طريقة ديب بلو بواسطة استخدام شبكة عصبية لتقييم تطورات اللعبة.

تضيف تلك الأساليب تحسينات على قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على لعب ألعاب معينة بشكل أفضل، لكنها لا تستطيع التغير بسهولة أو التطبيق على الحالات الأخرى. فتلك الخيالات الاصطناعية ليس لديها أدنى فكرة عن العالم المحيط، ما يعني بأنها لاتستطيع أداء وظيفة مغايرة للمهام المكلفة بها، كما يمكن خداعها بسهولة.

ولا يمكنها المشاركة بشكل تفاعلي مع العالم بنفس الطريقة التي نتخيل أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستطبقها يومًا ما، وبدلًا من ذلك، ستتصرف تلك الآلات بنفس الطريقة في كل مرة تواجه فيها نفس الموقف، قد يكون ذلك جيد جدًا لضمان نظام ذكاء اصطناعي جدير بالثقة فأنت تريد سيارتك ذاتية القيادة أن تكون سائقًا موثوق به، ولكنه أمر سيء لو أردنا من الالآت أن ترتبط وتستجيب حقًا مع العالم الخارجي، فأنظمة الذكاء الاصطناعي الأبسط تلك لن تشعر بالملل إطلاقًا، الاهتمام، أو الحزن.

النوع الثاني: الذاكرة المحدودة

تتضمن تلك الفئة من النوع الثاني آلات تستطيع تفحص الماضي، وذلك ما تفعله السيارات ذاتية القيادة، فعلى سبيل المثال، روقبت سرعة واتجاه السيارات الأخرى، الأمر الذي لا يمكن إجراؤه بمجرد لحظة واحدة، لكنه يتطلب تحديد أهداف محددة ومراقبتها مع مرور الوقت.

أضيفت تلك الملاحظات إلى نموذج محاكاة العالم المبرمج مسبقًا للسيارات ذاتية القيادة، والتي تشمل أيضًا علامات المسارات على الطريق، إشارات المرور، وعناصر أخرى مهمة مثل منحنيات الطرق، تُستخدم عندما تقرر السيارة تغيير الحارات، كي تتجنب قطع مسار سائق آخر أو الاصطدام بسيارة أخرى قريبة.

لكن ستزول هذه المعلومات الصغيرة البسيطة عن الماضي، إذ لا تُحفظ كجزء من مكتبة خبرات السيارة التي يمكن أن تتعلم منها، فالطريقة التي يستخدمها الإنسان للقيادة تجمع خبرات السنين خلف عجلة القيادة.

حسنًا إذن، كيف يمكننا بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تستطيع تصميم نماذج محاكاة للواقع، تتذكر تجاربها وتتعلم كيفية التعامل مع المواقف الجديدة؟ كان بروكس محقًا بوصف ذلك بالصعب جدًا، فبحثه الخاص في تلك الأساليب مستوحى من التطور الدارويني، إذ يستطيع البدء في تعويض نقاط الضعف الإنسانية عن طريق السماح للآلات ببناء نماذج محاكاة الواقع الخاصة بهم.

النوع الثالث: نظرية العقل

قد نتوقف هنا، ونسمي تلك النقطة بـالفجوة الهامة بين الآلات التي نمتلك وبين الآلات التي سنبنيها في المستقبل.

ومع ذلك، فمن الأفضل أن نكون أكثر دقة في مناقشة أنواع آلات محاكاة الواقع التي نرغب في تشكيلها، وما النحو الذي تحتاج أن تكون عليه.

ستكون الآلات لاحقًا أكثر تطورًا، ولن يشكل النوع مجرد تصورات عن العالم، بل أيضًا عن عوامل أو كيانات أخرى في العالم، ففي علم النفس تسمى تلك بـنظرية العقل، أي فهم أن البشر والكائنات والأجسام في العالم يمكن أن يمتلكوا الأفكار والمشاعر التي تؤثر على سلوكهم.

هذا أمر حاسم في كيفية تكوين المجتمعات بواسطتنا نحن البشر، لأنه سُمِحَ لنا أن نمتلك تفاعلات اجتماعية، دون فهم دوافع ونوايا بعضنا البعض، ودون الأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه شخص آخر سواء عنا أو عن البيئة، فالعمل معًا يكون صعبًا في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحول يكون مستحيلًا.

فلو كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي تمشي بيننا فعلًا، سيكون لديهم القدرة على فهم أن كل منا لديه أفكار ومشاعر وتوقعات حول الكيفية التي سنُعامل بها، وسيضبطون سلوكهم وفقًا لذلك.

النوع الرابع: الوعي بالذات

تكمن الخطوة النهائية في تطور الذكاء الاصطناعي في بناء أنظمة تستطيع تشكيل تصورات عن نفسها.

وأخيرًا، سيستطيع باحثوا الذكاء الاصطناعي فهم الوعي، وبناء آلات تمتلكه.

هذا يعد بشكل ما امتدادًا لـنظرية العقل المنسوبة للنوع الثالث للذكاء الاصطناعي، فالوعي يسمى أيضًا وعي بالذات لسبب ما.

«أريد ذلك البند» هي جملة مختلفة تمامًا عن «أعرف أنني أريد ذلك البند» فالكائنات الواعية تكون مدركة لذاتها، ولحالتها الداخلية، ولديها القدرة على التنبؤ بمشاعر الآخرين.

فلنفترض أن شخصًا ما يقوم بالتزمير خلفنا في حركة المرور ويبدو أنه غاضب أو غير صبور، لأن هذا مانشعر به عندما نزمّر تجاه الآخرين.

فبدون نظرية عقل، لا نستطيع الحصول على تلك الأنواع من الاستنتاجات.

وبينما نحن ربما نكون بعيدين عن خلق آلات تكون واعية بذاتها، يجب أن نركز جهودنا نحو فهم الذاكرة، التعلم والقدرة على اتخاذ قرارات مبنية على خبرات سابقة، تلك خطوة هامة لفهم الذكاء البشري كما هو.

ذلك أمر في غاية الأهمية إذا أردنا تصميم أو تطوير آلات تكون أكثر من استثنائية في تحديد مايرونه أمامهم.


  • إعداد: آدم حمدي
  • تدقيق: ولاء سليمان
  • تحرير: سهى يازجي
  • المصدر