خطَتْ الصين مؤخرًا خطوة مهمة في اتجاه استغلال عملية الاندماج النووي لاستخلاص الطاقة النووية الرخيصة الآمنة لمنفعة الجنس البشري، فأعلنت في الأسبوع الأول من عام 2022 أنها حطمت الرقم القياسي في الحفاظ على مادة ذات حرارة بلغت 70 مليون درجة مئوية مدة 1056 ثانية (أي 17 دقيقة ونصف) عبر حقل مغناطيسي قوي جدًا في داخل ما يُعرف بجهاز التوكاماك (Tokamak)، من ضمن مشروع «الشمس الاصطناعية» الذي تبلغ تكلفته حوالي تريليون دولار.

تحظى الطاقة النووية على سمعة سيئة جدًا بين الناس، وذلك بسبب تاريخها الحافل المرتبط بالقتل والدمار والحوادث الفتاكة. ومع ذلك يعَد استخراج الطاقة النووية عبر عملية الاندماج أحد أحلام البشرية التي يمكن بفضلها ضمان مصدر رخيص وآمن للطاقة، ما يدعو الدول الغنية إلى توظيف الأموال الطائلة والجهود الحثيثة في سبيل تحقيقه، كما هو الحال في مشروع «الشمس الاصطناعية» الصيني.

(اسم المشروع الرسمي هو EAST وهو اختصار لـ Experimental Advanced Superconducting Tokamak)،

وكذلك في المشروع المستقبلي الذي مركزه في فرنسا وتشترك به 35 دولة (من ضمنها الصين وأمريكا والدول الاوروبيّة) المسمى بالمفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER – International Thermonuclear Experimental Reactor).

في هذا المقال سوف أعرض الخلفية العلمية لهذه الطاقة وأهمية الإعلان الصيني الجديد، وبالذات سوف أتطرق إلى القوة النووية القوية وعملية الاندماج النووي التي تمكننا من إطلاق الطاقة واستغلالها.

القوة النووية القوية واكتشافها

في عام 1909 أجرى العالم البريطاني (النيوزيلندي الأصل) إرنست رذرفورد تجربة رقائق الذهب الشهيرة، التي دفعته إلى اقتراح نموذج مبنى الذرة المعروف باسمه، المشير إلى أن الذرات فارغة في أغلبها، بحيث تتركز في نواتها جسيمات ذات شحنة موجبة (البروتونات)، وتدور حولها جسيمات ذات شحنة سالبة (إلكترونات)، تمامًا كما تدور الكواكب السيّارة حول الشمس (الشكل رقم 1)

مع أننا نعرف اليوم أن هذا النموذج ليس دقيقًا، فإن مبنى الذرة الأساسي الذي يصفه هذا النموذج يعطينا تصوّرًا أوليًا جيدًا لمبنى الذرة في الواقع.

أدى هذا النموذج إلى إثارة عدة تساؤلات أهمها هو السؤال التالي: إذا كانت البروتونات مشحونة بشحنة كهربائية موجبة، فما الذي يُبْقيها مجتمعة داخل النواة ويمنعها من أن تتنافر كهربائيًا عن بعضها؟

الإجابة على هذا السؤال هي أن هناك قوة من نوع آخر، تجذب البروتونات (والنيوترونات) إلى بعضها، وتتغلب على قوة التنافر الكهربائية فيما بينها وتحافظ عليها داخل النواة. تسمى هذه القوة التأثير النووي القوي (The Strong Nuclear Interaction)، وقد بقيت غامضة حتى سبعينيات القرن الماضي حين أتى العلماء بنظرية مفصلة حول كيفية عمل هذه الجسيمات الأساسية التي تتفاعل مع هذه القوة (الكواركات، quarks) وماهيّتها.

القوّة النووية القوية قصيرة المدى، لذا كلما كَبُرت نواة الذرة، كان من الأصعب المحافظة على ارتباط البروتونات ببعضها، وهذا نتيجة تنافرها الكهربائي طويل المدى. لذا نجد في نواة الذرة جسيمات أخرى تسمى النيوترونات، وهي جسيمات متعادلة كهربائيًا لكنها تحمل «شحنات» القوة القوية؛ ومن هذا المنطلق فهي تساهم في المحافظة على ارتباط مركبات النواة ببعضها (الشكل رقم 1).

نلاحظ أن نواة العناصر الخفيفة تحتوي عادة على نفس عدد البروتونات والنيوترونات، بينما في نواة العناصر الثقيلة يفوق عدد النيوترونات عدد البروتونات بكثير. مثلًا، في نواة عنصر الأكسجين هناك 8 بروتونات و8 نيوترونات، بينما في نواة عنصر الزئبق هناك 80 بروتونًا و120 نيوترونًا. أي أن النيوترونات الزائدة تعمل كـ «صمغ» إضافي يُساعد على ربط مركبات أنوية الذرات الكبيرة ببعضها.

الشكل رقم 1: يبيّن الشكل نموذج رذرفورد الذري الذي يقضي بأن الذرات فارغة في أغلبها، بحيث تتركز في نواتها جسيمات ذات شحنة موجبة (البروتونات) وتدور حولها جسيمات ذات شحنة سالبة (إلكترونات)، تمامًا كما تدور الكواكب السيّارة حول الشمس. نعرف اليوم أن النّواة تحوي أيضا نيوترونات (اكتشفت عام 1935) تعمل كصمغ إضافي يساعد على الحفاظ على البروتونات داخل النواة.

الشكل رقم 1: يبيّن الشكل نموذج رذرفورد الذري الذي يقضي بأن الذرات فارغة في أغلبها، بحيث تتركز في نواتها جسيمات ذات شحنة موجبة (البروتونات) وتدور حولها جسيمات ذات شحنة سالبة (إلكترونات)، تمامًا كما تدور الكواكب السيّارة حول الشمس. نعرف اليوم أن النّواة تحوي أيضا نيوترونات (اكتشفت عام 1935) تعمل كصمغ إضافي يساعد على الحفاظ على البروتونات داخل النواة.

نوعا الطاقة النووية: الاندماج والانشطار

هناك طريقتان لإنتاج الطاقة النووية في الطبيعة تُعرفان باسم الانشطار والاندماج. لكي نفهم ما الفرق بين هاتين الطريقتين ينبغي لنا أن نفحص الشكل رقم 2 الذي يبين طاقة الارتباط لكل نيوترون أو بروتون في نواة الذرة كدالّة لكبر النواة الذرة (تحديدًا، كدالّة لـ «عدد الكتلة الذري»، وهو مجموع عدد البروتونات والنيوترونات في نواة الذرة).

أما طاقة الارتباط فهي مقدار الطاقة التي نحتاجها لنفك الترابط بين مركبات النواة، أي أنها الطاقة التي نحتاجها لكي نفصل الأجسام الموجودة في النواة عن بعضها وجعلها حرة.

تظهر ذرة الهيدروجين في أقصى اليسار من الرسم البياني في الشكل رقم 2، وذلك لأنها تحتوي في نواتها على بروتون واحد فقط، ثم نرى ذرة الهيليوم التي لها عدد كتلة ذرية 4 (لأنها تحتوي على بروتونَيْن ونيوترونَيْن)، وبعدها نرى نواة ذرة الحديد تظهر مع «عدد كتلة ذري» 56 لأنها تحتوي على 26 بروتونًا و30 نيوترونًا، وهكذا.

في الحقيقة هناك أهمية كبيرة لطاقة ارتباط النواة، فكلما ازدادت تلك الطاقة، ازداد ثبات الذرة. مثلًا، طاقة ترابط نواة ذرة الهيدروجين، -كما يبين الرسم البياني في الشكل رقم 2- هي أصغر طاقة بين جميع العناصر. ولكن إذا أضفنا إلى نواته نيوترونًا يصبح أثقل، أي يتحرك باتجاه اليمين على الشكل فتصبح طاقة ارتباطه أكبر، نتيجةً لهذه الإضافة تتحرّر الطاقة التي تشكل الفرق بين الوضع قبل التحويل وبعده.

الشكل رقم 2: الرسم يبين طاقة ارتباط أنوية الذرات كدالة لعدد الكتلة الذري. نرى على يمين الصورة ظاهرة الانشطار النووي، وعلى يمين الصورة ظاهرة الاندماج النووي.

الشكل رقم 2: الرسم يبين طاقة ارتباط أنوية الذرات كدالة لعدد الكتلة الذري. نرى على يمين الصورة ظاهرة الانشطار النووي، وعلى يمين الصورة ظاهرة الاندماج النووي.

تُسمّى العملية التي تندمج بها أنوية ذرات خفيفة مع بعضها عملية الاندماج النووي (Nuclear Fusion)، وهي العملية التي تحدث في مركز النجوم مثل الشمس أو في القنبلة الهيدروجينية وتجعلها تحرر طاقة.

أشهر هذه التفاعلات هو اندماج أربع أنوية ذرة الهيدروجين لتكوين نواة ذرة هيليوم، التي تتحرر عبرها 0.7% من الكتلة الأصلية على شكل طاقة حراريّة (هذا هو مصدر حرارة الشمس). مثال آخر على ذلك هو اتحاد أنوية ثلاث ذرات هيليوم لتكوّن ذرةَ كربون تزداد بها أيضًا طاقة الارتباط، ويتم هنا أيضًا تحرير طاقة حرارية، تحدث هذه العملية في النجوم التي كتلتها أكبر من نصف كتلة الشمس، وفي الحقيقة هذه العملية هي المسؤولة عن وجود الكربون في الكون.

تستمر عملية الاندماج النووي في إطلاق الطاقة كلما ازدادت كتلة النواة، إلى أن نصل إلى الحديد الذي من بعده تتحول هذه العملية إلى عملية مستهلكة، لا منتجة للطاقة.

أما في الطرف الآخر من هذه الدالّة، يحصل النقيض، أي أنه لكي تزداد طاقة ارتباط النواة علينا أن نجعلها أصغر، لهذا عندما تنشطر نواة ذرة ثقيلة مثل اليورانيوم إلى قسميْن فهي تتحرك في اتجاه اليسار على الدالة المبينة في الشكل رقم 2، وبذلك تُطلِق طاقة. تسمى هذه العملية بالانشطار النووي (Nuclear Fission) وهي العملية التي تحدث في القنبلة الذرية وفي المفاعلات (الأفران) النووية.

الاندماج النووي المضبوط

في كلا حالتي إنتاج الطاقة النووية (الانشطار والاندماج) هناك نمطان من الإنتاج: نمط عشوائي ونمط مضبوط. المقصود بمصطلح النمط العشوائي هنا هو الحالة التي لا نتحكم بها في الطاقة النووية المنطلقة من عملية الانشطار النووي العشوائي، كما هو الحال في القنابل النووية (على غرار تلك التي أُطلقت على مدينة هيروشيما في الحرب العالمية الثانية)؛ أو تلك المنطلقة من عملية الاندماج النووي العشوائي، كما هو الحال في القنابل الهيدروجينية (التي هي أقوى من القنابل النووية بألف مرة).

في المقابل، نمط إنتاج الطاقة النووية المضبوط هو النمط الذي نتحكم فيه بالطاقة التي تنتجها التفاعلات النووية. وهنا الفرق الكبير بين الانشطار والاندماج من ناحية قدرتنا التكنولوجية الحالية، إذ إننا نستطيع أن نضبط الطاقة التي تنتجها عملية الانشطار النووي ونستخدمها بانتظام لإنتاج طاقة كهربائية، وغيرها، وذلك بواسطة المفاعلات (الأفران) النووية.

لكننا -للأسف- ما زلنا حتى الآن لا نستطيع إنتاج طاقة بواسطة عملية الاندماج النووي بشكل مضبوط، هذا رغم من محاولات كثيرة مكلفة جدًا ابتدأت منذ خمسينيات القرن الماضي.

في الحقيقة، لا أبالغ حين أقول إن الحصول على مثل هذه الطاقة بشكل مضبوط هو ليس فقط حلم علماء الذرة، بل قد يكون أهم هدف للبشرية في معركتها لإنتاج طاقة رخيصة من جهة وصديقة للبيئة من جهة أخرى.

السبب في ذلك هو أن إنتاج الطاقة النووية بواسطة الانشطار النووي في الأفران الذرية يحمل إشكاليات كبيرة، بينما إنتاج الطاقة النووية الاندماجية بشكل مضبوط -إن استطعنا تحقيقه- يعد رخيصًا وآمنًا وصديقًا للبيئة مبدئيًا.

إشكالية وإيجابيات إنتاج الطاقة بواسطة الانشطار الذري (الأفران النووية)

يعتمد إنتاج الطاقة الانشطار النووي على عنصر اليورانيوم وهو أحد العناصر المشعة الموجودة طبيعيًا على الكرة الأرضية. الرقم الذري لهذا العنصر هو 92، وهو عدد البروتونات الموجودة في نواته (العدد الذري هو العدد الذي يحدد صفات العناصر الكيميائية وموقعها في الترتيب الدوري). لكن يوجد عدد آخر مهم من ناحية الفيزياء النووية، وهو عدد الكتلة الذري (الذي يحدد وزن العنصر الذري) الذي يعطينا التعداد الكلي للبروتونات والنيوترونات في هذه النواة.

هذا وتوجد في الطبيعة عناصر ذات نفس الرقم الذري (أي نفس العنصر) ولكنها تحمل أعدادًا ذريةً مختلفةً. تسمى هذه العناصر بالنظائر (Isotopes). على سبيل المثال، يوجد في الطبيعة ثلاثة نظائر من عنصر اليورانيوم وهي: يورانيوم-238 (ورمزه 238U)، يورانيوم-235 (ورمزه 235U) ويورانيوم-234 (ورمزه 234U). تشير الأرقام 238، 235 و234 إلى أعداد كتلة هذه النظائر الذرية. الفرق بين النظائر الثلاثة من ناحية المبنى هو أن الأول يحوي 146 نيوترونًا، الثاني 143 نيوترونًا والثالث 142 نيوترونًا. تجدر الإشارة إلى أن هناك نظائر أخرى لليورانيوم لكنها نادرة جدًا.

تحتوي مادة اليورانيوم في الطبيعة (التي نحصل عليها من مناجم اليورانيوم) على هذه النظائر الثلاثة بنسب متفاوتة، حيث نجد أن نسبة:

  •  اليورانيوم-238 أعلى بكثير من باقي النظائر، إذ تشكل الـ 99.3% من اليورانيوم في الطبيعة تقريبًا.
  •  اليورانيوم-235 يشكل 0.72% (أقل من 1%) تقريبًا.
  •  اليورانيوم-234 يشكل نسبة ضئيلة جدًا 0.005% تقريبًا.

نظير اليورانيوم الذي يستعمل في الأفران النووية هو اليورانيوم-235 النادر نسبيًا، لهذا يجب «إخصاب» اليورانيوم به حتى يكون قابلًا للاستعمال في المفاعلات والقنابل النووية، أي أن مصطلح اليورانيوم المخصب يعني اليورانيوم الذي يحوي نسبة عالية من اليورانيوم-235.

يوجد درجتان من الإخصاب هما:

  •  الدرجة قليلة الإخصاب المحتوية على نسبة 5%-20%، من اليورانيوم-235 من مجمل اليورانيوم المستعمل، وهذه الدرجة من الإخصاب تكفي لتشغيل المفاعلات النووية الصغيرة.
  • الدرجة عالية الإخصاب المحتوية على نسبة أكثر من 20% من اليورانيوم-235، وتُستعمل مبدئيًا للقنابل النووية.

في الحقيقة نحتاج إلى نسبة أكثر من 80% من اليورانيوم-235 للحصول على قنبلة نووية فعالّة.

تعتمد عملية إخصاب اليورانيوم على استعمال أجهزة الطرد المركزي الغازية (Gas centrifuge) التي تُذكر كثيرًا في سياق الخلاف الإيراني الأمريكي فيما يتعلق بإنتاج اليورانيوم المخصّب.

إذًا الإشكالية الأولى هي صعوبة الحصول على المادة الخام الأساسية (اليورانيوم-235) التي تحتاجها هذه الطاقة من ناحية توافر هذه المواد في الطبيعة ومن ناحية تكلفة استخلاصها التي تبلغ خمسة أضعاف تكلفة إنتاج طاقة صديقة للبيئة مثل الطاقة التي تنتجها توربينات طواحين الهواء العصرية.

تكمن الإشكالية الثانية في المخلفات التي تنتجها عملية الانشطار نفسها، إذ ينبغي لنا أن نفهم ما يحدث في عملية الانشطار النووي لليورانيوم-235.

تبدأ هذه العملية باصطدام نيوترون سريع بنواة اليورانيوم (كما يظهر إلى يسار الشكل رقم 3)، حيث يؤدي هذا الاصطدام إلى انشطار الذرة إلى مركبين كبيرين (نظيرين مشعين لنواة عنصر الكريبتون ونواة عنصر الباريوم)، و3 نيوترونات سريعة، وطاقة.

وهذا يوضح السبب في استعمال اليورانيوم-235 للتفاعل النووي، إذ إنه يُنتج 3 نيوترونات سريعة تؤدي كل منها دورها في شطر 3 أنوية يورانيوم-235 وهكذا، ما يضمن استمرار سلسلة الانشطارات النووية (Chain Reaction).

تكمن الإشكالية هنا في أن المواد الناتجة عن التفاعل النووي الانشطاري (مثل الباريوم-141 والكريبتون-92) مشعة أيضا، لكننا لا نستطيع استعمالها لإنتاج الطاقة بشكل فعال، فتبقى كفضلات مشعة ذات زمن حياة طويل، وتبقى هذه المخلفات مضرةً للبيئة وللبشر ولا نعرف كيف نتخلص منها بشكل آمن حتى الآن.

الشكل رقم 3: يظهر في الشكل التفاعل النووي الانشطاري لذرة اليورانيوم-235 الذي يبدأ من اصطدام نيوترون سريع بالنواة. تنتج عن عملية الانشطار عدة نواتج مثل الكريبتون-92 والباريوم-141 و3 نيوترونات سريعة، بالإضافة إلى الطاقة. دور النيوترونات الثلاثة مهم جدًا، إذ إنها تستمر في عملية الانشطار وتضاعفها عندما تصطدم بأنوية يورانيوم-235 أخرى.

الشكل رقم 3: يظهر في الشكل التفاعل النووي الانشطاري لذرة اليورانيوم-235 الذي يبدأ من اصطدام نيوترون سريع بالنواة. تنتج عن عملية الانشطار عدة نواتج مثل الكريبتون-92 والباريوم-141 و3 نيوترونات سريعة، بالإضافة إلى الطاقة. دور النيوترونات الثلاثة مهم جدًا، إذ إنها تستمر في عملية الانشطار وتضاعفها عندما تصطدم بأنوية يورانيوم-235 أخرى.

الإشكالية الثالثة هي أن إنتاج الطاقة الذرية عبر مفاعلات نووية (انشطارية) يساعد على انتشار الأسلحة النووية. وذلك لأن القنابل والمفاعلات النووية تحتاج إلى يورانيوم مخصب، وللحصول عليه، ينبغي للدولة التي تنتجها أن تملك تكنولوجيا إخصاب اليورانيوم.

الفرق الوحيد بينهما هو درجة إخصاب اليورانيوم التي يحتاجها كل منهما، إذ تحتاج القنابل النووية إلى يورانيوم مخصب بنسبة 80% على الأقل، بينما تحتاج المفاعلات النووية إلى أقل من ذلك بكثير (من 5% إلى 20%).

هذا يعني أن الدولة التي تملك القدرة على إنتاج الطاقة النووية تستطيع مبدئيًا أن تنتج قنابل نووية، ما يعني أن من السهل إساءة استعمال هذه الطاقة وتسييرها لأهداف حربية، وذلك لأن كل ما نحتاجه هو كمية كافية من اليورانيوم المخصب لدرجة عالية، ووضعها معًا ليبدأ التفاعل النووي!

الإشكالية الأخيرة هي الحوادث المميتة التي حدثت في المفاعلات النووية عبر تاريخ استعمالها في العالم، وهذه الحوادث مرتبطة بما ذكرناه في الفقرة السابقة، خاصةً فيما يتعلق بسهولة الحصول على الطاقة النووية فور حصولنا على اليورانيوم المخصب بدرجة عالية.

في اللحظة التي يبدأ المفاعل بإنتاج الطاقة الانشطارية، ينبغي لنا أن نبرده دائمًا بواسطة ماء جارٍ يحيط بلب المفاعل النووي حتى لا يخرج عن السيطرة.

ومن جهة أخرى، تُستعمل الحرارة التي يكتسبها الماء من أجل توليد الكهرباء. الإشكالية هنا هي أنه في اللحظة التي يحدث بها خلل معين في عملية التبريد يخرج المفاعل النووي عن السيطرة ويتحول إلى مصيدة من المواد المشعة والطاقة المدمرة، تمامًا كما حدث في حادثة مفاعل تشيرنوبل عام 1986 التي قتلت وأعيَت الكثير من الضحايا وسببت إخلاء مدينة عامرة وجعْلها غير صالحة للسكن عقودًا كثيرة، وأيضًا حادثة مفاعل فوكوشيما الذي ضربه تسونامي عام 2011 وأخرجه عن السيطرة، وغيرها من الحوادث.

مع كل هذه الإشكاليات هناك بعض الجوانب الايجابية للطاقة النووية التي تنتجها المفاعلات الذرية المتوفرة حاليًا.

  1.  لنبدأ بأهم صفة إيجابية وهي أن هذه الطاقة لا تصدر ثاني اكسيد الكربون، لذا فهي لا تساهم في تفاقم أزمة الاحتباس الحراري وعواقبها المدمرة.
  2.  توفر المفاعلات مصدر طاقة معتمَد نستطيع استعماله عند الحاجة.
  3.  فعالية إنتاج الطاقة في هذه المفاعلات عالية جدًا، إذ تُنتج مقدارًا كبيرًا من الطاقة بواسطة كمية صغيرة نسبيًا من اليورانيوم. إضافة إلى ذلك، تنتج هذه المفاعلات طاقة في أعلى قدرتها (maximum capacity) في 93% من الوقت، وهي أعلى نسبة من كل أشكال إنتاج الطاقة الأخرى.
  4.  سهولة التحكم بالحرارة المنبثقة عن التفاعل وتحديد معدلها عبر التحكم بكمية اليورانيوم المخصب.
  5.  محدودية آثار هذه الطاقة، بالذات إذا قارنّاها بمصادر الطاقة المتجددة الأخرى التي تحتاج إلى مساحات واسعة لكي نحصل عليها (مثل توربينات الهواء أو لوحات الخلايا الشمسية التي تنتشر على مساحات شاسعة).

إشكاليات وايجابيات إنتاج طاقة الاندماج النووي

تحدث عملية الاندماج النووي بين أنوية ذرات صغيرة تُنتج بعد اندماجها أنويةَ عناصر أثقل، وهي تتوفر بالطبيعة بكثرة، إذ إنها مصدر الطاقة التي تطلقها النجوم، مثل شمسنا التي تحوّل باستمرار 4 أنوية من عنصر الهيدروجين إلى نواة واحدة من عنصر الهيليوم.

هذا ما يحاول إنجازه مشروع «الشمس الاصطناعية» الصيني ومشاريع أخرى مشابهة. تستعمل هذه التجارب تفاعلًا اندماجيًا بين نظيري عنصر الهيدروجين المعروفين باسم الديوتيريوم (ورمزه 2H) المحتوي في نواته على بروتون ونيوترون، والتريتيوم (ورمزه 3H)، المحتوي في نواته على بروتون واحد ونيوترونين. ينتج عن هذا التفاعل عنصر الهيليوم العادي (غير المشع) ونيوترون واحد وطاقة عالية جدًا (الشكل رقم 4).

نستطيع أن نرى بسهولة أن التفاعل النووي الاندماجي، الذي يظهر في الشكل رقم 4، يتجنب عددًا من إشكاليات إنتاج الطاقة في المفاعلات النووية الانشطارية. فهو أولًا يحتاج إلى نظائر ذرة الهيدروجين المتوف بكميات كبيرة جدًا في الطبيعة من حولنا في جزيئات الماء (المحتوية على ذرة أكسجين واحدة وذرتي هيدروجين، H2O).

مع أن نسبة الديوتيريوم صغيرة جدًا في الطبيعة، فإن توفر الماء بشكل كبير يجعل الحصول على كميات كبيرة من الديوتيريوم أمرًا سهًلا نسبيًا.

من الجدير بالذكر أن جزيء الماء الذي يحوي ذرة ديوتريوم (بدل الهيدروجين العادي) يسمى الماءَ الثقيل، الذي ارتبط اسمه بقصة السباق بين ألمانيا وأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية لإنتاج أول قنبلة ذرية. أحيانا يضع العلماء هذه النقطة بشكل دراماتيكي حين يقولون إن هذه العملية تمكننا من «إنتاج الطاقة من مياه المحيطات».

الشكل رقم 4: يظهر في الشكل التفاعل النووي الاندماجي بين الديوتيريوم والتريتيوم الذي ينتج نواة عنصر الهيليوم العادية (غير المشعة) إضافةً إلى نيوترون واحد وطاقة عالية جدًا.

الشكل رقم 4: يظهر في الشكل التفاعل النووي الاندماجي بين الديوتيريوم والتريتيوم الذي ينتج نواة عنصر الهيليوم العادية (غير المشعة) إضافةً إلى نيوترون واحد وطاقة عالية جدًا.

تكمن صعوبة هذه التجربة في أنه لكي يحدث هذا التفاعل على الديوتيريوم والتريتيوم، ينبغي لهما أن يقتربا من بعضهما بشكل كافٍ، حتى يتسنى للقوة النووية القوية أن تتغلب على قوة التنافر الكهربائي بينهما (في كل نواة منهما يوجد بروتون ذو شحنة كهربائية سالبة، لذلك فهما يتنافران كهربائيا).

إضافة إلى ما ذكرناه، لا يُنتج هذا التفاعل موادّ مشعة مضرة للناس والبيئة، وبهذا يمكن تجنُب أحد أهم مساوئ المفاعلات النووية الانشطارية، بل وإنه يُنتج عنصر الهيليوم النادر جدًا على الكرة الارضية، وهو عنصر ذو استعمالات كثير في الصناعة والعلوم؛ لأنه يمكّننا من التبريد إلى درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق (نحو الـ 273 درجة مئوية تحت الصفر).

إضافة إلى ذلك من الممكن استعمال النيوترون الناتج عن هذا التفاعل في إنتاج التريتيوم الموجود قليلًا جدًا في الطبيعة. أي أن منتوجات هذا التفاعل الاندماجي آمنه، بل ومفيدة أيضًا.

ذكرنا أيضًا في بداية المقال، أن الطاقة التي تخرج من هذا التفاعل الاندماجي كبيرة جدًا نسبيًا (طاقة القنبلة الهيدروجينية أكبر بألف مرة من طاقة القنبلة الذرية). لذا يُتوقع أن إنتاج الطاقة بهذه الطريقة سيغطي حاجات البشرية بسهولة.

إذًا، إذا كانت فوائد هذا التفاعل الانشطاري كبيرة إلى هذه الدرجة، لماذا لم نستطع أن ننتجه بشكل مضبوط حتى الآن؟

ذكرت سابقًا أنه على الأنوية المتفاعلة أن تتغلب على قوة التنافر الكهربائية، وهذا يعني أن على التجارب التي تحاول إنتاج هذا التفاعل أن تخلق شروطًا مشابهة لتلك الموجودة في مركز الشمس، التي تصل حرارة مركزها إلى 15 مليون درجة مئوية وكثافته إلى 150 غرام لكل سنتيمتر مكعب، نتيجةَ الجاذبية الكبيرة في لب الشمس (أكبر بـ 150 مرة من كثافة الماء).

لكي نحقق نفس النتيجة على الأرض ينبغي لنا أن نصل إلى درجة حرارة أعلى من 100 مليون درجة مئوية، وهي أكبر بحوالي 7 مرات من حرارة مركز الشمس، فتفقد أنوية الديوتيريوم والتريتيوم في مثل هذه الحرارة الإلكترونات التي تدور حولها وتصبح متأينة تمامًا.

تتصرف المواد المتأينة في الفيزياء بشكل خاص حتى إنها تعَد الحالة الرابعة للمادة (إضافة إلى الحالات العادية الثلاث: صلبة، سائلة وغازية) التي تسمّى أيضا حالة البلازما (يجدر لفت الانتباه أن نفس الكلمة تستعمل أيضًا في البيولوجيا بمعنىً مختلف تماما، إذ تصف المادة السائلة في الدم، بلازما الدم، أو في الخلية، السيتوبلازم، وغيرها).

يعَد احتواء المواد المشتركة في التفاعلات النووية الاندماجية والحفاظ عليها في مكان واحد -عندما تكون درجة حرارتها عشرات ملايين الدرجات المئوية- مهمةً صعبة جدًا.

في الحقيقة هناك عدد قليل من الطرق الممكنة، أشهر هذه الطرق يتم بواسطة استعمال جهاز يسمى التوكاماك (Tokamak) الذي اقترحه العالمان الروسيان إيجور تام (Igor Tamm) وأندريه ساخاروف (Andrei Sakharov).

في هذا الجهاز يتم استعمال خطوط حقل مغناطيسي قوي جدًا لكي يُحجز الديوتيريوم والتريتيوم المتأينة والحارة جدًا في مكان واحد.

أتى اسم التوكاماك من اختصار اسم الجهاز المقترَح باللغة الروسية الذي يعني «الحُجرة الحَلَقية ذات اللفائف المغناطيسية» (بالإنجليزية toroidal chamber with magnetic coils)، ويظهر بشكل تخطيطي في الشكل رقم 5.

تكمن الصعوبة الأساسية في استعمال هذه الأجهزة حتى الآن في أن التفاعل بين الحقل المغناطيسي والبلازما المتأينة يجعل خطوط الحقل المغناطيسي غير ثابتة بعد فترة وجيزة، فلا تستطيع أن تحافظ على مواد التفاعل النووي في داخلها وقتًا طويلًا.

لهذا يعمل العلماء المختصون في هذه الأجهزة على تطوير تحسينات مختلفة على تصميم التوكاماك مثل زيادة قوة المجال المغناطيسي في الجهاز وغيرها من التعديلات. لكن جميع هذه التعديلات مكلفة جدًا وأغلبها لم ينجح في إحداث القفزة النوعية المطلوبة التي تستطيع أن تحافظ على البلازما الحارة -وبذلك على التفاعل الاندماجي- وقتًا كافيًا ليُنتج الجهاز طاقة أكبر بكثير ممّا يستهلك.

الشكل رقم 4: يظهر في هذا الشكل تخطيط جهاز التوكاماك، حيث نرى اللفائف ذات اللون الأزرق الغامق واللون الأزرق الفاتح التي تنتج الحقل المغناطيسي. تُنتج هذه اللفائف حقلًا مغناطيسيًا حَلَقيًا (من حَلَقَة) ومجدولًا يظهر باللون البنفسجي والأسهم السوداء، حيث تسير في مركزه المواد الحارة التي تتفاعل في عملية الاندماج النووي. قد تصل شدة الحقل المغناطيسي في الجهاز إلى 20 تسلا (450 ألف مرة أكبر من حقل الأرض المغناطيسي)

الشكل رقم 4: يظهر في هذا الشكل تخطيط جهاز التوكاماك، حيث نرى اللفائف ذات اللون الأزرق الغامق واللون الأزرق الفاتح التي تنتج الحقل المغناطيسي. تُنتج هذه اللفائف حقلًا مغناطيسيًا حَلَقيًا (من حَلَقَة) ومجدولًا يظهر باللون البنفسجي والأسهم السوداء، حيث تسير في مركزه المواد الحارة التي تتفاعل في عملية الاندماج النووي. قد تصل شدة الحقل المغناطيسي في الجهاز إلى 20 تسلا (450 ألف مرة أكبر من حقل الأرض المغناطيسي)

هذه الصعوبة هي نفسها السبب في أن هذه الأجهزة آمنة نسبيًا، إذ يتوقف التفاعل بسهولة إذا حدثت أي مشكلة؛ لأن المواد المتفاعلة تنفصل عن بعضها مباشرةً في حالة حدوث هذا الخلل دون عناء، بالإضافة إلى أنها مواد غير مشعة ومضرة بقدر مخلفات التفاعل النووي الانشطاري.

القفزة النوعية التي حصل عليها الصينيون هي قفزة مثيرة للإعجاب، إذ تقرّبنا أكثر من الهدف المنشود، لكنها ليست القفزة الوحيدة، بل إن هناك قفزات أخرى جديّة حدثت في السنوات الأخيرة.

قد تمكننا هذه القفزات من الحصول على طاقة الاندماج النووي واستعمالها خلال العقدين القادمين، ما قد يغير طريقة حياتنا جوهريًا إلى الأفضل؛ لأنها تساعد على إيقاف كارثة الاحتباس الحراري التي تحملنا نحو الهاوية.

أيضا ينبغي لنا أن نكون حذرين من مثل هذه التطورات التكنولوجية، وذلك لأن هذا الإنجاز مثله مثل أي تطور تكنولوجي آخر، قد يخلق أخطارًا جديدة وكبيرة من نوع آخر، وقد لا نستطيع التعامل معها أبدًا. لهذا علينا دائما أن نتذكر أن التطور التكنولوجي الذي لا تصاحبه اعتبارات أخلاقية قِيَمية هو تطور مدمر ومهلك.

اقرأ أيضًا:

مفاعل الاندماج النووي في كوريا يسجل رقمًا قياسيًا لحرارة البلازما داخله

الصين تخطط لتشغيل مفاعل الاندماج النووي (الشمس الاصطناعية) قريبًا

إعداد: البروفيسور سليم زاروبي