تقترح إحدى النظريات الحديثة والغريبة، أن الوعي البشري قد يفسّر ميكانيكا الكم، ذلك بإلزام الجسيمات دون الذرية (الجسيمات الصغيرة جدًا) على اختيار نتيجة واحدة ملموسة.

أكثر الجوانب المحيرة لميكانيكا الكم هو أن الجسيمات الصغيرة دون الذرية لا يبدو أنها “تختار” الحالة التي تكون فيها حتى يتمكن المراقب الخارجي من قياسها، لذا تتأتى قيمة القياس من تحويل كل الاحتمالات الغامضة لما يمكن أن يحدث إلى نتيجة محددة وملموسة. على الجانب الآخر توفر رياضيات ميكانيكا الكم قواعد معينةً لكيفية إجراء العملية، وهذه الرياضيات لا تشرح حقًا ما يعنيه ذلك من الناحية العملية.

إحدى الأفكار هي أن الوعي المتمثل في إدراكنا لذاتنا وتأثيرنا على محيطنا، له دور رئيسي في القياس، وأن تجربتنا للكون هي التي تحوله من مجرد تخيّل إلى شيء حقيقي بالفعل.

فإذا كانت هذه هي الحالة، فهل من الممكن أن يفسّر الوعي البشري بعضًا من غرابة ميكانيكا الكم؟

قياس الكم:

ميكانيكا الكم هي القواعد التي تحكم هذه الحديقة الضخمة من الجسيمات دون الذرية التي يتكون منها الكون، إذ تخبرنا أننا نعيش في عالم أولي غير محدد. بعبارة أخرى، على الأقل عندما يتعلق الأمر بعالم الجسيمات الصغيرة، وبغض النظر عن مدى ذكاء العلماء في تصميمهم التجريبي، أو مدى معرفتهم الكاملة بالظروف الأولية لتلك التجربة، فإن من المستحيل التنبؤ على وجه اليقين بنتيجة أي تجربة.

هل سمعت بالقوة المؤثرة على البروتون؛ الذي هو جسيم دون ذري مستقر؟ لا يوجد موقع محدد لهذه القوة، هنالك فقط مجموعة من الاحتمالات للمكان الذي يمكن أن تكون فيه.

لحسن الحظ تظهر هذه اللا حتمية فقط في العالم دون الذري، أما في العالم العياني (الذي نراه بالعين المجردة)، فإن كل شيء يعمل وفقًا لقوانين الفيزياء الحتمية. لكننا لسنا متأكدين تمامًا من سبب هذا الاختلاف بين العالمين، وهذه المشكلة قد نناقشها لاحقًا.

حين يُجري الفيزيائيون تجربة على الأنظمة الكمومية، على سبيل المثال محاولة قياس مستويات طاقة الإلكترون في الذرة، فهم غير متأكدين تمامًا من الإجابة التي سيحصلون عليها. وبدلاً من ذلك تتنبأ معادلات ميكانيكا الكم باحتمالات مستويات الطاقة هذه؛ أي بمجرد أن يجري العلماء التجربة بالفعل، فإنهم يحصلون على إحدى تلك النتائج، وفجأةً يصبح الكون حتميًا مرةً أخرى عندما يدرك العلماء مستوى طاقة الإلكترون.

وعلى سبيل المثال أيضًا فإنهم سوف يعرفون بالضبط ما الذي سيفعله، لأن “الدالة الموجية” تصبح معدومةً، ويختار الجسيم حينها مستوى طاقة معينًا.

إن هذا التحوّل من اللا حتمية إلى الحتمية أمر غريب تمامًا، ولا توجد نظرية أخرى في الفيزياء تعمل بنفس الطريقة.

ما الذي يجعل عملية القياس مميزةً جدًا؟

تحدث تفاعلات كميّة لا تُعد ولا تحصى في الكون طوال الوقت فهل تتحول هذه التفاعلات بين الحتمية واللا حتمية، حتى عندما لا يلاحظها أحد؟

ما دور الوعي في ميكانيكا الكم؟

يقول التفسير القياسي لميكانيكا الكم، المعروف باسم تفسير كوبنهاجن: «تجاهلْ كل شيء، وحاول فقط الحصول على النتائج».

من وجهة النظر هذه، العالم دون الذري غامض في الأصل ويجب ألاّ يحاول الناس فهم ما يحدث، أو رسم صورة متجانسة لهذا العالم. وبدلاً من ذلك يجب على العلماء أن يحسبوا أنفسهم محظوظين لأنهم على الأقل يستطيعون إجراء تنبؤات باستخدام معادلات ميكانيكا الكم.

بالنسبة لكثير من الناس هذا غير مُرضٍ، إذ يبدو أن هنالك شيئًا مميزًا لا يُصدق في عملية القياس، يظهر فقط في نظرية الكم. ويصبح هذا المجال أكثر إثارةً للإعجاب عند مقارنة هذا القياس بأي تفاعلات أو قياسات أخرى.

مثلًا في سحابة غاز بعيدة في عمق الفضاء بين النجوم، حيث لا يوجد أحد، ولا أحد يشاهد، إذا اصطدمت ذرتان ببعضهما داخل سحابة الغاز هذه، فهذا تفاعل كمي، لذلك يجب تطبيق قواعد ميكانيكا الكم، ولكن هنا لا يوجد “قياس” ولا نتيجة، بل مجرد واحد من تريليونات من التفاعلات العشوائية تحدث كل يوم، من دون أن يلاحظها البشر؛ هكذا تخبرنا قواعد ميكانيكا الكم أن التفاعل يظل غير محدد.

أما إذا اصطدمت هاتان الذرتان ببعضهما البعض داخل المختبر فيمكن للعلماء قياس، وتسجيل ما حدث، نظرًا لحدوث القياس. وتخبرنا نفس قواعد ميكانيكا الكم أن اللا حتمية انقلبت لتصبح حتمية، وهذا ما سمح لنا بالقول إنها نتيجة ملموسة.

ما الفرق بين هاتين الحالتين؟

كلتاهما تشتملان على جسيمات دون ذرية تتفاعل مع جسيمات دون ذرية أخرى، وكل خطوة في عملية القياس تتضمن جسيمات دون ذرية على مستوى ما، لذلك لا ينبغي أن نهرب من القواعد الكمية المعتادة التي تنص على أن النتيجة يجب أن تكون غير محددة.

يشير بعض المنظرين، مثل عالم فيزياء الكم الرائد يوجين وينر، إلى أن الاختلاف الوحيد بين هذين السيناريوهين هو أن أحدهما يتضمن مراقبًا واعيًا ومُفكرًا، والآخر لا يشمله. وهكذا فإن ما يُسمى بـِ “الانهيار” في ميكانيكا الكم (الانتقال من الاحتمالات غير المحددة إلى نتيجة ملموسة) يقوم على أساس الوعي البشري.

أحلامنا في هذا الكون:

لأن الوعي مهم جدًا للبشر، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن هنالك شيئًا مميزًا فيه. وبعد كل ما تقدم نعرف أن الحيوانات هي الكيانات الواعية الوحيدة المعروفة التي تسكن الكون.

إحدى طرق تفسير قواعد ميكانيكا الكم هي الإيمان بالحقيقة الآتية بشكل مطلق: ما نسميه قياسًا هو في الحقيقة تدخل عامل واعٍ في سلسلة من التفاعلات دون الذرية العادية.

طريقة التفكير هذه تتطلب أن يكون الوعي مختلفًا عن جميع فروع الفيزياء الأخرى في الكون. خلاف ذلك يمكن العلماء -وهم يفعلون- أن يجادلوا في مسألة أن الوعي بحد ذاته مجرد مجموع التفاعلات دون الذرية المختلفة. وإذا كان الأمر كذلك فلا توجد نقطة نهاية في سلسلة القياس، وبالتالي فإن ما يفعله العلماء في المختبر لا يختلف حقًا عمّا يحدث في السحب الغازية العشوائية.

على الرغم من أنه ليس نظريةً فيزيائيةً صارمة، لكن مفهوم الوعي باعتباره مختلفًا، ومنفصلًا عن الكون المادي، له تاريخ طويل في مجال الفلسفة، واللاهوت. وإلى أن يتمكن شخص ما من اكتشاف طريقة لاختبار مفهوم الوعي هذا، على أنه منفصل عن بقية القوانين الفيزيائية في تجربة علمية، يتعين علينا البقاء في عالم الفلسفة والتخمين.

اقرأ أيضًا:

اكتشاف أربعة جسيمات أصغر من الذرة قد تختبر فهمنا قوانين الطبيعة

لماذا تشكل القنابل النووية سحبًا بشكل عيش الغراب؟

ترجمة: أحمد عضيم

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر