كيف تغير أفضل المنتجات توقعاتنا وحالتنا البيولوجية؟


تَمَيَّزت مختلفُ العصور التي عاشَها الإنسانُ باختراعاتٍ واكتشافاتٍ عديدةٍ غيَّرت المجتعمات وأثَّرت فيها تأثيرًا بارزًا. فمن العصر البرونزي (Bronze age) وحتى عصرِ الثورةِ الصناعيَّةِ (Industrial revolution) تغيَّرت -وبطريقةٍ شبه دائمة- طرائقنا في العمل وفي التفكير وحتَّى في العيش، نتيجةَ علاقاتنا بالمنتجات الرقميَّة المختلفة.

فَقد فرضت علينا الثورة الرقميَّة تحوُّلًا كبيرًا في السلوكيَّات وفي المعتقدات، مستفيدةً من ميلنا الفطريِّ للراحة. وفي الوقت الذي ما زال فيه النِّقاش مستمرًّا حول إذا ما كانت الفائدة المحقَّقة من المنتجات الرقميِّة أكثر من الضرر الذي تتسبَّبُ به، فإنَّه لا يوجد مجال لإنكار أنَّ مختلف الأفراد قد عاشوا اضطراباتٍ أكثر خلال العصر الصناعي.

على أنَّ «ثقافةَ الراحة» التي نعيشها لم تبدأ مع «أوبر» (Uber) (أوبر شركة نقل أميركيَّة متعدِّدة الجنسيات، تعمل عبر الإنترنت، حيث يمكنُ للمستخدمين طلب رحلةٍ عبر تطبيقٍ (application) متوفِّرٍ على هواتفهم الذكيَّة، فيتِّم توجيه سائقي «أوبر» الذين يستخدمون سيَّاراتهم الخاصَّة لتنفيذ هذه الرحلات. وقد قامت عدَّة شركاتٍ بنسخِ نموذج «أوبر» في أعمالِها، وهو ما باتَ يُعرف اليوم بالـ (uberification)، وهي تعرِّفُ عن نفسها بالعبارات التالية: «نقرة زر واحدة وستصلُك السيَّارة»، «نحنُ مستعدون في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ وقت»، «خلف المقود أشخاصٌ مثلك يذهبون في طريقك»، كما أنَّها متوفِّرةٌ في عدَّةٍ مدنٍ عربيَّةٍ)، ولكنَّها تشكِّل المثال الأصلح لنتساءل: كيف كنَّا نعيش قبل أن تتأسَّسَ هذه الشركةُ وأمثالها؟

ومِنَ المعلومِ أنَّ كلَّ جيلٍ قد امتاز بنوع من هذه المنتجات، إلا أنَّ «أوبر» و«إير بي أن بي» (Airbnb) -وهو موقعٌ يتيحُ للأشخاص تأجير واستئجار أماكنَ للسكن- وغيرها من هذه الخدمات التي لا تحصى والمتوفِّرة على الإنترنت امتازت بمستوى الراحة الذي تقدِّمُه. وبالرغم من السائق الذي لا نستطيعُ التأكَّد من هويَّته والذي نضع كامل ثقتنا به، أو من الشِّقة الواقعة في مكانٍ غير مألوف؛ فإنَّ وجود هذه الخيارات في أيدينا يبقى أفضل من أيِّ بديلٍ آخر.

نعم، لقد تحوَّلت توقُّعاتُنا بين ليلةٍ وضحاها!

فقد استطاعت المنتجات الرقميًّة تغييرنا حسب الطلب، وسرنا في الطريق الذي رسمته لنا، حتَّى بتنا غير قادرين على إتمام أعمالنا بالطرق التقليديَّة، فالذي يستخدمُ خدمةَ «أوبر» مثلًا حتمًا لن يكونَ مستعدًّا لإعادة استخدام سيَّارة الأجرة ذات اللون الأصفر مرَّةً أخرى!

ولكنَّ التساؤل الذي يُطرح: هل تشكِّل هذه الخدمة الوسيلة الأنسب للتنقُّل؟ ولكن هل من فائدةٍ لهذا التساؤل أصلًا؟! فإنَّ هذه المنتجاتِ «الجيِّدةَ» غير جيِّدة لذاتها؛ بل تجعلُ الطرق التقليديَّة السابقة غير مرغوبٍ بها.

وحتَّى أولئك الذين يفضِّلون الحديث وجهًا لوجه على استخدام تطبيقِ «سناب شات» (Snapchat) مثلًا، يدركون قوَّة هذه الابتكارات، وكذلك تزداد رغبة كبار السن في المشاركة في هذه الخدمات الرقميَّة، بدءًا من خدمات توصيل البقالة وحتى مشاركتهم في استضافة أعدادٍ متزايدةٍ من المسافرين عبر تطبيق «إير بي أن بي».

وتشير الوقائع على أنَّه وبالرغم من وجوب تعلُّم التكنولوجيا، فإنَّ الدماغ البشريَّ يتَّجه إلى الخيارات الأكثر احترامًا للحياة الشخصيَّة، والملائِمة والمريحة. وبالتالي فإنَّ أفضل المنتجات هي تلك التي تكون قادرةً على احترام خاصيَّة الدماغ هذه، والتي تكون قادرةً على إعادة إحيائه.

وتشكِّل تقنيَّة تحديد المواقعِ (GPS) المثال الأبرز لمنتجات تغيير العقل البشري، وإنَّ هذه التقنيَّة ليست جديدة تمامًا ولكنَّها أصبحت دقيقة جدَّا وتستخدم تقريبًا في كلِّ التطبيقات بناءً على الطلب، ويندرُ أن يخلو تطبيق منها.

لقد غيَّرت هذه التقنيَّة كيفيَّة قيادتنا لسيَّاراتنا، كما غيَّرت كيفيَّة استهداف الشركات التجاريَّة لزبائنها، ووصل بِها الأمر إلى تغيير المادة الرماديَّة (Grey matter) في جهازِنا العصبي (المادة الرماديَّة هي أحد العناصر الأساسيَّة في الجهاز العصبي المركزي)!

ولقد أثبتت الدراسات أنَّ الاعتماد على الأقمارِ الاصطناعيَّة في الملاحة جعلنا أسوأ في توجيه أنفسنا في هذا العالم، وقلَّل فرص التواصل الحقيقي، دون أن ننسى أثر هذا الاعتماد على البيئة التي تحتضننا. لقد تبعنا معادلة «استخدمها أو تخسرها»، ففقدنا تواصلنا وتفاعلنا مع محيطنا. ولكن، وعلى الرغم من هذه النتائج، فإنَّنا لن نحمل خريطة عملاقة بغية تدبُّر أمرنا خلال زحمة سيرٍ خانقةٍ داخل المدينة، فتكون خدمة تحديد المواقع الحلَّ الأمثل في هذه الحالة.

نستنتجُ إذًا أنَّ أثر هذه المنتجات الرقميَّة على أدمغتنا بالغٌ ولافتٌ للنظر، وهي تضع معنىً جديدًا لمعادلة «البقاء للأصلح»، فكلُّ ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة أصبح بمتناول أيدينا، وبالتالي أصبح «الملعب» -ملعب هذه المعادلة- أوسع وأكثر انفتاحًا، وإنَّ المنتجات الناجحةَ هي تلك القادرة على حلِّ المشاكل وكذلك على تأمين نموِّ حياتنا المتوازن، فتكون الراحة في كلِّ مجالاتها وغير منحصرةٍ في مجالٍ واحد، ومتى حصلنا على هذه النتيجة لا مجال للرجوع إلى الوراء.


إعداد: هنادي نصرالله
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر