لا يوجد أيّ مركزٍ للكون!

وفقًا للنّظريات القياسيّة في علم الكونيّات، بدأ الكون مع “الانفجار الكبير” منذ حوالي 14 ألفَ مليون سنة، ومازال يتوسّع حتّى الآن.

حاليًّا, لا يوجد مركزٌ للتوسّع، فإنّه متماثلٌ في كلِّ مكان.

لا ينبغي أن نتصوّر الانفجار الكبير كانفجارٍ اعتيادي.

فالكون لا يتوسّع خارجًا من مركزٍ ما إلى الفضاء؛ بل إنّه يتوسّع بشكلٍ متساوٍ في كلِّ مكانٍ، بقدر ما يمكننا أن نقول.

في عام 1929 أعلن إدوين هابل أنه قاسَ سرعةَ مجراتٍ على مسافاتٍ مختلفةٍ منّا، ولاحظَ أنه كلما كانت المجرّة أبعد، كانت أسرع في انحسارها.

قد يوحي هذا بأنّنا مركزُ الكون الآخذ في الاتساع، ولكن في الواقع إذا كان الكون يتوسّع بشكلٍ موحّدٍ وفقًا لقانون هابل، فإنّه سيبدو كذلك من أيّ وجهةِ نظر.

إذا رأينا المجرة B تنحسر عنّا بسرعة 10،000 كم / ثانية، فإنّ كائنًا فضائيًّا في المجرة B سيرى مجرتنا A تنحسر مبتعدةً عنهم بسرعة 10،000 كم / ثانية في الاتجاه المعاكس.

مجرة أخرى C تبعدُ عنا ضعفَ بعدِ المجرّة B في نفسِ الاتجاه، سنراها تنحسرُ عنّا بسرعة 20،000 كم / ثانية. وسيراها الفضائي «في المجرّة B» تنحسر بسرعة 10،000 كم / ثانية.

A B C
From A 0 km/s 10,000 km/s 20,000 km/s
From B -10,000 km/s 0 km/s 10,000 km/s

إذًا من وجهةِ نظر الفضائي في المجرّة B، كلّ شيءٍ يتوسّع مبتعدًا عنهم، في أيّ اتجاهٍ كان، تمامًا كما يبدو لنا الأمر.

مماثلةُ البالون الشهيرة

هناك طريقةٌ جيدة للمساعدة في تصوّر توسّع الكون وهي مقارنةُ الفضاء بسطح بالونٍ يتمدّد.

وقد استخدم آرثر إدينغتون هذا التشبيه في وقتٍ مبكر في عام 1933 في كتابه «الكون المتمدّد-The Expanding Universe».

كما استخدَمه أيضًا فريد هويل في كتابه الشهير «طبيعة الكون-The Nature of the Universe» في طبعة 1960.

كتبَ هويل: “غالبًا ما يقول لي أصدقائي غير الرّياضيّين إنهم يجدون صعوبةً في تصوّر هذا التوسّع.

ولعجزي عن استخدام الرّياضيّات كثيرًا معهم، لا أستطيعُ أن أصفه بطريقةٍ أفضلَ من استخدامِ مماثلة البالون مع عددٍ كبيرٍ من النقاطِ المرسومةِ على سطحهِ.

إذا كان البالون يُنفخ فإنّ المسافات بين النقاط تزداد بنفس الطريقة التي تزاد فيها بين المجرّات.”

مماثلة البالون جيدة جدًّا ولكن يجبُ أن تُفهَمَ بشكلٍ صحيح، وإلّا قد تسبّب مزيدًا من الخلط.

كما قال هويل: “هناك العديد من الجوانب الهامّة التي هي مضلّلة بالتّأكيد.”

من المهمّ المراعاة أنّ الفضاء ثلاثيّ الأبعاد سيقارَن مع سطح البالون ثنائيّ الأبعاد.

السّطح متجانسٌ بدون وجود نقطة تُعتبر المركز.

فمركز البالون نفسه ليس على السطح، وينبغي ألّا يُعتقَد أنّه مركز الكون.

إذا كان هذا يساعد، يمكنك التفكير في الاتجاه الشّعاعي للبالون على أنّه الوقت.

وهذا ما أشار إليه هويل، ولكن يمكن أيضًا أن يكون هذا مُشوّشًا.

فمن الأفضل ألّا نعتبر النقاط جزءًا من الكون على الإطلاق.

كما اكتشف غاوس في بداية القرن الـ19، يمكن وصف خصائص الفضاء مثل الانحناء وفقًا لشروط الكمّيات المجرّدة الّتي يمكن قياسها دون الحاجة للتفكير في ما هو الانحناء نفسه.

إذ أنّ الفضاء يمكن أن ينحني دون أن يكون هناك أيّ أبعادٍ أخرى تتحدّبُ “للخارج”.

كما حاول غاوس أيضًا تحديد الانحناء في الفضاء عن طريق قياس زوايا مثلثٍ كبير بينَ قممِ تلالٍ ثلاث.

عند التفكير في مماثلة البالون يجب أن نتذكر أنّ. . .

• السّطح ثنائيّ الأبعاد للبالون مماثلٌ للفضاء ثلاثيّ الأبعاد.

• المساحة ثلاثيةّ الأبعاد المضمّنة في البالون لا تماثل أيّ مساحة فيزيائيّة ذات بُعدٍ أعلى.

• قد يكون الكون محدودًا من حيث الحجم والنّمو مثل سطح البالون المتمدّد، ولكن يمكن أيضًا أن يكون لانهائيًّا.

• المجرّات تتباعد كما تتباعد النّقاط على سطح البالون المتمدّد, لكن المجرّة الواحدة لا تتمدّد لأنّها مقيّدة بالجاذبيّة.

… ولكن ماذا لو كان الانفجار الكبير انفجارًا

في الانفجار المألوف، تنتشر المادّة خارجًا من نقطةٍ مركزيّة.

وسيكون المركزُ بعد لحظاتٍ قصيرة من بدء الانفجار أهمّ نقطة.

وبعدها سيكون هناك مقذوفاتٍ كرويّة من المواد تنتشر مبتعدةً عن المركز إلى أن تجلبها الجاذبيّة للأرض مجدّدًا.

«الانفجار الكبير» -كما نفهمه- لم يكن انفجارًا كهذا على الإطلاق. كان انفجارًا للفضاء، وليس انفجارًا في الفضاء.

وفقًا للنّماذج القياسيّة لم يتواجد أيّ زمانٍ أومكانٍ قبل الانفجار الكبير.

لم يكن هناك حتى “قبل” يمكننا الحديث عنه. لهذا، يختلفُ الانفجار الكبير كثيرًا عن أيّ انفجارٍ اعتدناه، وهو ليس بحاجةٍ لنقطةٍ مركزيّة ينطلق منها.

إذا كان الانفجار الكبير انفجارًا عاديًّا في فضاءٍ موجودٍ مسبقًا، سنكون قادرين على رؤية حافّة الانفجار ورؤية فضاء خالٍ تمامًا بعدها. .بدلًا من ذلك، نحن ننظر للانفجار الكبير نفسه ونضبط خلفيّة خافتة تشعُّ من غازاتٍ حارّة أوّليّة للكون المُبكر.

هذه “الأمواج الراديويّة للخلفيّة الكونيّة” متشابهة في كلّ الاتجاهات. يخبرنا ما سبق أنه لا يهمّ توسّعها للخارج من نقطةٍ معيّنة، وإنما يتوسّع الفضاء نفسه بالتّساوي.

ومن المهم التأكيد على ملاحظاتٍ أخرى تدعم الرأي القائل بعدم وجود مركز للكون، على الأقل بقدرِ ما تستطيعُ الملاحظات الوصولَ إليه.

وحقيقةُ أنّ الكونَ يتوسّع بشكلٍ موحّد لا يستبعد إمكانيّة كونِ مكانٍ ما أكثر كثافة وحرارة، يمكننا تسميته المركز، ولكن أكدّت الّدراسات الدّقيقة لتوزيع وحركة المجرّات أنّ الكون متجانس على أعلى المستويات، مع عدم وجود أيّ إشارة لنقطةٍ مميّزة يمكن تسميتها بـ المركز.

المبدأ الكوني

الفكرة الّتي توجِب أن يكون الكونُ موحّدًا “متجانس ومتماثل” على أعلى المستويات قُدمَت على أنها «المبدأ الكوني» من قبل آرثر ميلن في عام 1933.

وقبل وقتٍ ليس ببعيد، ناقش بعض علماء الفلك فكرة أنّ الكونَ محصورٌ في مجرّتنا فقط، ومركزُ مجرّة دربِ التبانة هو مركز الكون.

ولكن إدوين هابل وضع حدًّا لهذه المجادلات عندما أثبتَ وجود مجرّات أخرى غير دربِ التبانة.

على الرّغم اكتشاف البنية الرائعة لتوزيع المجرّات، فالعديد من علماء الكون التزموا بالمبدأ الكوني إما لأسبابٍ فلسفية، أو لأنّه من المفيد العمل على نظريّاتٍ لم تتناقض مع أيّ ملاحظات حتّى الآن.

ومع ذلك، نظرتنا للكون محدودة بسرعة الضّوء والوقت الّذي ينتهي بالانفجار الكبير.

الجزء المرئي كبيرٌ جدًّا ولكنّه على الأغلب ضئيلٌ إذا ما قورِن بالكون كلّه، والّذي قد يكون بدوره لانهائيّ.

لا نملك طريقةً لمعرفة شكل الكون الموجود وراء الأفق المُدرك، ولا طريقة لمعرفة إن كان المبدأ الكونيّ ساري الصّلاحية بشكلٍ مطلق أم لا.

في عام 1927 وجد جورجس ليمااتر حلولًا لمعادلات آينشتاين في النّسبية العامة حول كيفيّة توسّع الفضاء.

ولقد قدّم وفقًا لنظريّة الانفجار الكبير مع هذه الحلول نماذجَ للكون الآخذ في الاتساع. وكانت أشهر فئة من الحلول الّتي اطلع عليها ليمااتر مجموعة الحلول المتجانسة، والمعروفة الآن بـ نماذج «FLRW», “فريدمان-ليمااتر-روبرتسون-ووكر”.

«فريدمان وجد الحلول أوّلًا ولكنّه ظنّ أنّها نماذج غير معقولة فيزيائيًّا».

والأمر الأقلّ شهرة أن ليمااتر وجد فئة أكثر شموليّة من الحلول تصوّر كونًا كرويًا ومتماثلًا، آخٌذًا في الاتساع.

هذه الحلول، معروفة الآن بـ نماذج «LTB»، “ليمااتر-تولمَن-بوندي”، وتصوّر كونًا من المحتمل أن يحوي مركزًا.

طالما أنّ نماذج «FLRW» هي في الحقيقة حالة خاصّة ومحدّدة من نماذج «LTB»، فنحن لا نملك طريقةً مؤكّدةً لمعرفة ما إذا كانت نماذج «LTB» غير صحيحة.

قد تكون نماذج «FLRW» مجرّد تقريبات جيّدة تصلح لتصف الجزء المدرَك من الكون لكن ليس ما وراءه.

بالطّبع هناك العديد من الأشكال الّتي قد تكون أقل تنظيمًا للكون، مع أو بدون مركز معروف.

وإذا تبيّن وجود مركز على مستوى أعلى من الكون المرصود، فإنّه سيكون مجرّد واحدٍ من عدّة مراكز على مستويات أعلى.

تمامًا كمان كان مركز مجرّتنا من قبل.

بعبارةٍ أخرى، على الرّغم من أنّ نماذج الانفجار الكبير القياسيّة تصوّر الكون المتمدّد بدون مركز، وهذا يتفّق مع جميع الملاحظات، لا يزال هناك احتمال أن هذه النماذج ليست دقيقة على مستوياتٍ أعلى ممّا يمكننا أن نرصده.

ما زلنا لا نملك إجابةً فعليّة على السّؤال: “أين مركزُ الكون؟”..


  • ترجمة: صلاح أيمن عثمان
  • تدقيق: بيان أبو ركبة
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر