حينما كان صبيا أراد يورغن شميدهوبر Jürgen Schmidhuber أن يؤثر في العالم

* يورغن شميدهوبر : هو المطور الرئيسي لفكرة (الذاكرة الطويلة – قصيرة الأجل) ، في عام 2015 قام بتنفيذ تقنية جديدة لخاصية التمييز الصوتي في تطبيقات جوجل على أجهزة الجوال الذكية smartphones.

في عام 2014 أنشأ شركة باسم Nnaisense ، وظيفتها دمج الذكاء الصناعي بالمجالات التجارية ، مثل الاقتصاد والصناعات الثقيلة والسيارات ذاتية القيادة.

لذا قرر أن يبني أداة للذكاء الصناعي تتحسن ذاتيا بحيث تصبح أكثر ذكاءً من البشر.

هذا الأمر سيسمح للبشرية بالراحة بينما يقوم الذكاء الصناعي بحل كل المشكلات التي لا نستطيع حلها بأنفسنا – وأيضا استعمار الكون بطريقة تناسب الآلات التي ستكون على مقدرة أكبر من البشر ، وكذلك توسيع مجال ذكائها.

كانت دراسة الرياضيات والحوسبة البداية الطموحة لتقديم أطروحة واعدة عام 1987 وصفت بانها أول بحث ملموس عن برمجيات – ماوراء التعلم – الخاص بالذكاء الصناعي.

وفيها يقدم مفهوم التعلم باعتباره ليس فقط أداة لحل عدد قليل من المشاكل ولكن أيضًا لتحسين خوارزميات التعلم الخاصة بالذكاء الصناعي والتي بقيت محدودة فقط بقدرات الحوسبة للوصول إلى مستوى فائق من الذكاء عن طريق التحسين الذاتي المتكرر.

العمل لازال مستمرًا على هذا الجانب ومازال يجتذب العديد من الناس لأنه أصبح الشكل الأكثر رواجًا من الذكاء الصناعي في التكنولوجيا الحديثة والتي أصبحت متاحة الآن لنصف البشر والتي تستخدم مليارات المرات في اليوم الواحد.

بدأت الشركات الأغنى في العالم (آبل وجوجل ومايكروسوفت وفيسبوك وأمازون) منذ بدايات التسعينات وحتى الآن بالاعتماد على تقنية (الشبكات العصبية الصناعية عميقة-التعلم) deep-learning neural networks والتي تم تطويرها في ألمانيا وسويسرا منذ التسعينيات، كذلك ما يعرف بتقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) the Long Short-Term Memory network, LSTM.

قدم هذه التقنية يورغن شميدهوبر في عدد من الأوراق البحثية بصحبة زملائه سيب هوكريتر Sepp Hochreiter ، فيليكس جيرس Felix Gers ، أليكس غرافز Alex Graves وغيرهم من الطلاب الرائعين ودارسي الدكتوراه بتمويل من دافعي الضرائب الأوروبيين.

في البدء تظهر تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) فقيرة في الملعومات ، لأنها تكون بلا معلومات. لكنها تبدأ في التعلم من خلال الخبرة. تستوحي طريقة العمل من القشرة الدماغية للبشر.

حيث ترتبط 14 مليار عصبونة (وحدة إتصال الخلية العصبية في الدماغ البشري) مع 10 ألاف عصوبنة أخرى في المتوسط. عصبونات المدخلات تغذى بالمعلومات التي قد تكون (صوت أو رؤية أو ألم). وتقوم عصبونيات المخرجات بالتحكم وإعطاء الأوامر للعضلات.

تكون عصوبنات التفكير مخبئة بين عصوبنات المدخلات والمخرجات. كل خبرة تعلم تعمل على تقوية الإتصال بين الخلايا العصبية بعضها ببعض.

هناك تقنية أخرى تشبه تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) : تقنية (الشبكات العصبية الدورية الصناعية) artificial recurrent neural network (RNN) وهي التي تتفوق على التقنية السابقة في العديد من التطبيقات.

لكن لازالت تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) تتعلم كيف تتحكم في الروبوتات وتحلل الصور وتلخص الوثائق والتعرف على أشرطة الفيديو والكتابة اليدوية وتشغيل برامج الدردشة والتنبؤ بالأمراض ومعدلات التفاعل مع الإعلانات وأسهم الأوراق المالية وتأليف الموسيقى وما إلى ذلك.

لقد أصبحت تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) أساسا لما يعرف الآن باسم التعلم العميق deep learning ، وخاصة بالنسبة للبيانات المتسلسلة (لاحظ أن معظم البيانات في العالم الحقيقي متسلسلة).

في العام 2015 حسنت تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) التعرف على الكلام المنطوق الخاصة بجوجل، الآن هذا التطبيق موجود على أكثر من ملياري هاتف أندرويد.

وتلعب تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) دورا هاما في تطوير أداء خدمات الترجمة المستخدمة من جوجل منذ العام 2016.

تستخدم هواتف آبل تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) في خاصية الكتابة السريعة والمساعد الشخصي الذكي (سيري – Siri) في أكثر من مليار هاتف. تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) هي المسؤولة أيضا عن تقديم الإجابات المنطوقة من الناطق الذكي لموقع أمازون (أليكسا – Alexa).

إعتبارًا من 2016 تستهلك تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) ما يقرب من 30% من القوة الحاسوبية لمراكز بيانات جوجل.

في 2017 بدأ الفيسبوك في استخدام تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) في ترجمة 4.5 مليار جملة كل يوم أي ما يعادل 50000 في الثانية الواحدة. تقريبا أنت كمستخدم عادي تستخدم تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) طوال الوقت. لكن خوارزميات التعلم العميق الأخرى لدينا متاحة أيضا الآن لمليارات المستخدمين.

ينبغي هنا التفريق بين (الشبكات العصبية الدورية الصناعية) المستخدمة في «تقنيات التعلم العميق»، عن تقنيات التعلم العميقة التقليدية المستخدمة في نوع آخر من الشبكات العصبية متعددة الطبقات ذات التغذية الأمامية (نمط رياضي يستخدم في حساب المحاولة والخطأ في الشبكات العصبية المتعددة الطبقات ) feed-forward neural networks (FNNs) والتي كان رائداها إيفاخنينكو & لابا (1965) Ivakhnenko & Lapa (1965) منذ أكثر من نصف قرن في أوكرانيا والتي كانت جزءً من الاتحاد السوفيتي السابق في ذلك الوقت.

لا تشبه (الشبكات العصبية ذات التغذية الأمامية) نوع (الشبكات العصبية الدورية الصناعية) والتي من ضمنها تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) لأن الأخيرة تضمن في بنيتها الهندسية نمطا متسلسلا متوازيا parallel-sequential (أي انه يقوم بالحسابات على عدد من العصبونات في نفس الوقت).

في بداية التسعينات كانت (الشبكات العصبية الدورية الصناعية) العميقة غير خاضعة للتحكم وكان بمقدورها حل الكثير من المشاكل المستعصية والتي لم تكن قابلة للتعلم سابقا. هذه فقط كانت البداية فمع التطور السريع في تقنيات الحواسب – يمكن حساب التطور بمقياس أنه كل 5 سنوات تزيد سرعة الحواسب 10 مرات لكل ما قيمته دولار واحد من خامات الحاسوب.

هذا الإتجاه أقدم من قانون مورMoore’s Law. ظل هذا المبدأ مستقرًا منذ صناعة أول حاسوب مدعم بلغة برمجة عن طريق كونراد زوس Konrad Zuse خلال الفترة من 1935 – 1941 وهو الجهاز الذي كان بمقدوره أن يقدم عملية واحدة كل ثانية.

الآن و بعد 75 عاما العمليات الحسابية أصبحت أرخص حوالي مليون مليار مرة (لنفس سعر الجهاز الأول يمكن الحصول على جهاز أسرع ب مليون مليار مرة) و لقد استفادت تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) ماديا من هذا التسارع.

أكبر تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) لديها اليوم ما يقارب مليار إتصال. إذا استمر التقدم بنفس السرعة سنتمكن من تصنيع شبكة تضاهي القشرة المخية مع حوالي 100 ألف مليار وصلة إليكترونية بتكلفة أقل من الحالية خلال 25 سنة وستكون أسرع من العصبونات الطبيعية.

ربما في خلال العقود التالية ربما يصبح لدينا حواسب رخيصة مع قدرات حسابية تكافيء 10 مليار عقل بشري معا، والتي لو تم تجميعها ربما لا تستطيع تنفيذ أكثر من 10 مرفوعة للأس 30 (أي رقم 1 وأمامه 30 صفر) من العمليات البدائية في الثانية الواحدة.

ويعتبر الحد الفيزيائي لبريمرمان Bremermann’s limit (1982) لكل كيلوجرام من المكونات الحسابية أكبر من القدرة المذكورة آنفا 10 مرفوعة للأس 20 مرة.

((حد بريمرمان هو الحد الأقصى للسرعة الحسابية لنظام قائم بذاته في الكون المادي، ويستند إلى قانون آينشتين لكتلة الطاقة مقابل قيود من مبدأ عدم اليقين الكمي لهايزنبرج.))

هذا الإتجاه لن يقترب من هذا الحد قبل القرن المقبل، وهذا يوحي باقتراب الأمر خاصة أن القرن هو 1% من تاريخ الحضارة الإنسانية البالغة 10000 سنة.

لازالت تقنية (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) تخضع للتحكم و بالتالي لا تحقق الغرض الحقيقي من الذكاء الصناعي للتعلم بدون معلم لحل كل المشكلات التي تتعرض لها والتي تبدو مبدأيًا أنها بلا حل.وهذه هي المشكلة التي يعمل عليها شميدهوبر منذ ثلاثة عقود.

لقد ركز يورغن وفريق عمله منذ التسعينيات على الذكاء الصناعي بدون إشراف – تحكم بشري- وهي ما يظهر تحت مسمى «الفضول الإصطناعي» artificial curiosity و الإبداع. يسمح هذا للآلة باختراع أهدافها وتجربتها لفهم كيفية عمل العالم وما يمكنها أن تقدمه.

هذه النوعية من آلات الذكاء الصناعي يمكنها أن تستخدم (الذاكرة الطويلة قصيرة – الأجل) كنموذج أولي لتعلم التنبؤ بعواقب أفعالها.

إنهم لا يقومون بمحاكاة المعلم البشري، لكنهم يقدمون لأنفسهم دوافعهم عن طريق خلق وحل مشاكلهم الخاصة والجديدة التي لم تحل من قبل، بالشكل الذي يفعله الأطفال حين يلعبون حتى يصبح لديهم ملكات حل المشكلات العملية. إستنادًا لهذا ، لقد بدأنا بالفعل في بناء «علماء صناعيين» بشكل بسيط.

إعتمادا على ذلك يعتقد شميدهوبر من خلال هذا التطور أنه في غضون سنوات قليلة سيكون لدى الذكاء الصناعي القدرة على التعلم الذاتي لتصبح في مثل ذكاء قليل من الحيوانات – سيكون لديها الفضول و الإبداع و القدرة المستمرة على التعلم لكي تضع الخطط وتستنبط الأسباب وتكون قادرة على تحليل مجموعة متنوعة من المشاكل إلى مشاكل أبسط قابل للحل أو حتى إمكانية حلها.

من يدري ربما لو وصلنا بمستوى الذكاء الصناعي إلى مستوى ذكاء القردة من الممكن أن نصل إلى مستوى ذكاء الإنسان.

لن يتوقف فضول الذكاء الصناعي عند هذا الحد طالما سمحت بذلك حدود تكنولوجيا الحواسب والفيزياء فهي ستظل تخترع أهدافها الخاصة وسوف تحسن من قدراتها فسيكون بمقدورها أن تغزوا الفضاء لأن الظروف ومصادر بقاء الآلات أفضل بكثير من ظروف بقاء البشر التي يرتبط بقائهم بالقشرة الرفيعة للغلاف الجوي في حين يمكن لشريحة صغيرة أن تستقبل الطاقة بسهولة من أشعة الشمس.

ستكون فرص الذكاء الصناعي أكبر في اقتحام الفضاء من خلال إنشاء مصانعها في حزام الكويكبات وما بعده وربما تغزو كل المجموعة الشمسية ثم المجرة وربما خلال بضع مئات من السنين ستغزو الكون برمته خلال مليارات السنين وستكون مشكلتها الوحيدة في الحاجز المقترن بسرعة الضوء (ربما ستتمكن برمجيات الذكاء الصناعي من الانتقال عبر موجات اللاسلكي لكنها تبقى محدودة بسرعة الضوء كما أن تثبيتها سيحتاج لكثير من الوقت).

يختلف هذا السيناريو عن ما تقترحه روايات الخيال العلمي في القرن العشرين و التي تحكي عن إمبراطوريات بحجم المجرة وكذلك الذكاء الصناعي. معظم الدراما في هذه الروايات يكون لها محور إنساني وهذا ما يجعلها غير واقعية.

فالمؤلفون لكي يتغلبوا على حاجز المسافات الكبيرة بين المجرات وحياة الإنسان القصيرة اخترعوا تقنيات مستحيلة جسديا مثل محركات الإعوجاج warp drives.

لكن الذكاء الصناعي لن يكون لديه مشكلة مع وجود الضوء كحد للسفر. حيث أن الكون سيظل موجودا لمثل عمره الذي يبلغ 13.8 مليار سنة مرات عديدة هذا يزيد من احتمالات الذكاء الصناعي ليمر عبر الكون كله.

أظهرت الكثير من روايات الخيال العلمي ذكاءً صناعيًّا وحيدًا قويًّا كالوحش يسيطر على كل شيء.

في حين أن الأكثر واقعية أن يتواجد مجموعة متنوعة من الذكاء الصناعي تحاول تحسين جميع أنواع وظائف المرافق الحيوية المتطورة سريعا والمتضاربة جزئيا والتي تظهر بشكل آلي، مع محاولة الذكاء الصناعي للبقاء على قيد الحياة والتكيف مع الحياة المتغيرة بسرعة مدفوعة بالتنافس الشديد والتعاون وراء خيال البشر والباحثين.

بعض البشر يأملون في أن تساعدهم الآلة على البقاء خالدين في الوجود من خلال تحميل عقولهم على آلات إفتراضية أو روبوتات وهي الفكرة التي يقترحها كتاب الخيال العلمي منذ الستينات وهي فكرة قابلة للتنفيذ على الأقل نظريًا.

ومع ذلك سيحتاج الدماغ البشري الذي تم تحميله على الذكاء الصناعي أن يتأقلم ويتطور لينافس البرامج الأخرى مما سيجعله يتحول لشيء مختلف تمامًا (لن تصبح نفس الانسان الذي بدأت العملية بتحميل عقله).

لن يلعب البشر دورا هاما في نشر الذكاء عبر الكون. لكن لا مشكلة، لا تفكر في البشرية على أساس أنها تاج الخلق. بدلا من ذلك اعتبر الحضارة الإنسانية كجزء من مخطط أكبر بكثير، هي خطوة هامة (ولكن ليست الأخيرة) على طريق الكون نحو التعقيد العالي.

الآن يبدو أننا على استعداد لاتخاذ الخطوة التالية، وهي خطوة مماثلة لظهور الحياة نفسها منذ أكثر من 3.5 مليار سنة مضت.

هذا أكثر من مجرد ثورة صناعية أخرى. هذا شيء جديد يتجاوز البشرية وحتى البيولوجيا. ومن دواعي الشرف أن نشهد بداياتها، وأن نسهم بشيء في ذلك.


  • ترجمة : مصطفى العدوي.
  • تدقيق: بدر الفراك.
  • تحرير: رؤى درخباني.

المصدر