هل سرق واتسون وكريك جائزة نوبل من روزاليند فرانكلين ؟ يُفصِحُ سباق الكشف عن بنية الحَمْضُ الرِّيْبِيُّ النَّوَوِي المَنْزُوع الأوكسِجين ‎ DNA، عن البصيرة الرائعة لفرانكلين حيث كانت بياناتها مفتاحًا لنموذج الحلزون المزدوج (المضاعف)، لكن أسطورة ’السرقة‘ تتجذر من مذكرات واتسون وسلوكه تجاهها وليس من الحقائق.

فهمت روزاليند فرانكلين عام 1950، مثل كريك، أنّ للحمض النووي DNA بنية حلزون مزدوجة. تصوير: فيتوريا لوزاتي/إن بي جي.

فهمت روزاليند فرانكلين عام 1950، مثل كريك، أنّ للحمض النووي DNA بنية حلزون مزدوجة. تصوير: فيتوريا لوزاتي/إن بي جي.

سلّطت موجة الاعتراضات التي تلت تصريحات السير تيم هانت الفارغة عنفتياتالمخابر، الضوء على العديد من الأمثلة عن التمييز أو التحيّز على أساس الجنس في مجال العِلْم. أحد هذه الادعاءات كان خلال سباق الكشف عن بنية الحمض النووي DNA، إذ يُعتقَد أنّ جيمس ديوي واتسون وفرانسيس كريك سرقا بيانات روزاليند فرانكلين، أو ’نَسَيَا (تغاضيا)‘ عن نَسْب الاكتشاف لها. لكن لا هذا ولا ذلك الادعاء صحيح.

في أبريل/نيسان من عام 1953، نشرت مجلة نيتشر العلميّة ثلاث مقالات مُسنَدَة عن بنية الحمض النووي DNA، المادة الخام لجيناتنا. وكان ذلك واحد من أهم الاكتشافات العلمية على مرِّ التاريخ.

المقالة الأولى التي كُتِبَت من قبل واتسون وكريك من جامعة كامبريدج كانت نظريةً ببساطة ولا تحوي أية تجارب عمليّة. تبعتها فورًا مقالة بصفحتين مدعومةً ببيانات كثيرة من كلية الملك في لندن كُتِبَت من قبل موريس ويلكنز واثنين من زملائه، أما المقالة الثالثة كتبتها  فرانكلين وطالب الدكتوراه حينها ريموند غوسلين.

طَرَحَ ثنائي كامبريدج نموذجهم لكنّهم لم يَصِفُوا تمامًا بنية الحمض النووي DNA على أنّها حلزون مزدوج (مضاعف). كان ذلك دقيقًا للغاية، اعتمادًا على القياسات المعقّدة للزوايا التي شكلتها روابط كيميائية مختلفة، مدعومةً ببعض الرياضيات المُحكمَة للغاية، واستنادًا إلى التفسيرات التي طوّرها كريك مؤخرًا كجزء من أطروحته للدكتوراه. كانت القصة البوليسية التاريخية وادعاءات سرقة البيانات السبب في إثارة هذه التساؤلات حول أصل تلك القياسات.

سيصنع أبطال القصة الأربعة شخصياتٍ جيدة في رواية واتسون الشاب المتهور والمهووس باكتشاف بنية الحمض النووي، بينما كان كريك ذكيًا بدماغ كثير الثرثرة، وأقام صداقة مع ويلكنز، الخجول وغير الواثق بنفسه. كما تمّ تعيين فرانكلين، وهي خبيرة في دراسة البلورات بالأشعة السينية X، في كلية الملك أواخر عام 1950. توقّع حينها ويلكنز أنّها ستعمل معه، لكن رئيس المجموعة جون راندال جعلها تعتقد أنّها ستكون مستقلة.

منذ البداية، لم يتقدّم فرانكلين وويلكنز في بحثهم ببساطة. كان ويلكنز منعزلًا ومناقشته مكروهة، بينما كانت فرانكلين قويةً وناجحةً في النقاشات والمجادلات. تقول صديقتها نورما ساذرلاند: «لقد كان أسلوبها فظًا، وفي بعض الأحيان تميل إلى التسبب بمواجهة، فقد أثارت الكثير من العداءات والخصومات بين الذين تحدثت إليهم، وكانت تبدو غير حساسة تجاه هذا الأمر».

كانت أول محاولة لواتسون وكريك في اكتشاف بنية الحمض النووي في عام 1952 كارثيةً. كان نموذجهم ثلاثي الطاق المعكوس خاطئًا وميؤوسًا منه، وقد رفضته فرانكلين بعد أن ألقت نظرةً سريعةً عليه. وبعد شكاوى من مجموعة كلية الملك التي كان واتسون وكريك يقلّلون من قيمة نفسهم بالتدخّل فيها بين حين وآخر، طلب السير لورنس براغ رئيس مختبرهم في كامبريدج أن يوقفوا كل العمل على الحمض النووي DNA.

غير أنّه في بداية عام 1953، أصبح المنافس الأمريكي لينوس باولنغ مهتمًا ببنية الحمض النووي، لذلك حثّ براغ واتسون وكريك لمتابعة البحث مرةً أخرى.

في نهاية يناير/كانون الثاني 1953، زار واتسون كلية الملك، إذ عرض عليه ويلكنز صورة الأشعة السينية التي استخدمت فيما بعد في مقالة فرانكلين لمجلة نيتشر. هذه الصورة، التي غالبًا ما يطلق عليها ’الصورة 51‘، التقطها ريموند غوسلين، طالب الدكتوراه الذي كان يعمل في الأصل مع ويلكنز، ثمّ تم نقله إلى مجموعة فرانكلين (دون علم ويلكنز)، وأصبح الآن تحت إشراف ويلكنز مرةً أخرى، أما فرانكلين فكانت على استعداد لترك الجو الرهيب في كلية الملك والتخليّ عن عملها على الحمض النووي DNA.

صورة 51 التقطت من قبل روزاليند فرانكلين وريموند غوسلين

صورة 51 التقطت من قبل روزاليند فرانكلين وريموند غوسلين

يقول واتسون أنّه عندما شاهد الصورة -التي كانت أكثر وضوحًا من أي شيء آخر كان قد شاهده-: «فغرت فمي وبدأ نبضي بالتسارع». ووفقًا لواتسون، فإنّ الصورة 51 قدّمت الدليل الحيوي على بنية الحلزون المزدوج. لكن على الرغم من الإثارة التي شعر بها واتسون، فإنّ جميع القضايا الرئيسية، مثل عدد الطِيقَان، وقبل كل شيء التنظيم الكيميائي الدقيق للجزيء، ظلّت غامضةً؛ فإلقاء نظرة على الصورة 51 لا يمكن أن يسلّط الضوء على تلك التفاصيل.
ما كان بحاجته واتسون وكريك أكثر بكثير من فكرة اللولب، فقد احتاجا إلى ملاحظات دقيقة من دراسة البلورات بالأشعة السينية. وقد تمّ تقديم هذه الأرقام بعفوية وعن غير قصد من قبل فرانكلين نفسها، والتي تمّ تضمينها في تقرير مُقتضَب غير رسمي أعطته لماكس بيروتس من جامعة كامبريدج.
في فبراير/شباط 1953، مرر بيروتس التقرير إلى براغ، ومن ثم إلى واتسون وكريك.

الآن أصبح لدى كريك المادة التي يحتاجها للقيام بحساباته. تلك الأرقام -التي شملت المسافات النسبيّة للعناصر المتكرّرة في جزيء الحمض النووي، وأبعاد ما يسمى بوحدة الخلية أحادية الميل monoclinic unit cell ، والتي أظهرت أنّ الجزيء مكون من جزأين متطابقين يسيران في اتجاهين متعاكسين- كانت حاسمةً!.

لم يكن التقرير سريًا، وليس هناك شك في أن ثنائي كامبريدج حصلا على البيانات بطريقة مضلّلة نوعًا ما. ومع ذلك، لم يخبروا أي شخص في كلية الملك بما كانوا يعملون عليه، ولم يطلبوا من فرانكلين الحصول على إذن لتفسير أرقام بياناتها (وهو أمر مزعج بشكلٍ خاص).
لنقل الحقيقة، لقد كان سلوكهم متعجرفًا، لكن لا يوجد دليلٌ يقودنا لتفسيره كازدراء أو تحيّز جنسيٍّ، إذ كان الرباعيّ بيروتس، براغ، واتسون، وكريك سيتصرّف ودون أدنى شك بالطّريقة ذاتها لو حصلوا على البيانات من موريس وويلكنز.

كانت البيانات التي قدّمتها فرانكلين ل(مجلس البحث الطبي Medical Research Council) MRC في الواقع مطابقةً لما قدّمته في سيمنارٍ بسيطٍ في كلية الملك في خريف عام 1951، والمثير للسُخرية أكثر من ذلك هو أن جيمس واتسون كان من الحضور حينها، ولكن لو كلّف واتسون نفسه بكتابة الملاحظات أثناء العرض التقديمي بدلًا من بقائة مكتوف اليدين يتأمل لباسها ونظراتها، لكان قد زود كريك بالأرقام المهمّة التي احتاجوها قبل 15 شهرٍ من انتظارهم هذا الحدث العظيم.

لقد توافقت بينات فرانكلين مع ما كان يعمل عليه كريك لشهور: إذ أنّ نمط وحدة الخليّة أحاديّة الميل الموجودة في الـ DNA وُجدت نفسها في خضاب الدم (هيموغلوبين) الحصان الذي كان يدرسه في مرحلة الدكتوراه، وهذا يعني أن الـ DNA موجود في سلسلتين متوافقتين. نستنتج من خبرة كريك لمَ استغرقت روزاليند فرانكلين وقتًا طويلًا لتصل إلى النقطة ذاتها والحقائق التي توصل إليها فرانسيس كريك بسرعةٍ.

بينما كان واتسون وكريك يعملان في كامبريدج محمومين خائفين من أن يكشفهم باولينغ، كانت فرانكلين تنهي عملها على ال DNA قبل مغادرة المختبر، وقد كان التقدم والإنجاز الذي قدمته وحدَها مذهلًا؛ إذ عزلت نفسها تمامًا ورفضت الاستفادة أو تبادل الأفكار مع أيّ أحد.
نستدلّ من دفاتر ملاحظات فرانكلين في المختبر أنّها واجهت صعوبةً في تفسير النّتائج الّتي احتاجت إلى ريّاضيّاتٍ معقدّةٍ، علمًا أنها استخدمت نفس الأدوات الّتي استخدمها كريك، ليس أكثر من قلمٍ ومسطرةٍ منزلقةٍ (المسطرة الحاسبة)، ولكن تمكّنت في 24 شباط/فبراير أن تستنتج أن بنية ال DNA حلزونٌ مزدوجٌ وأنّ النكليوتيدات أو الأسس المكوّنة لكلّ طاقٍ كانت تبيّن أن الطاقين مُتتامّين وهذا ما يسمح للجزيئة بالتّضاعف.

كما لاحظت فرانكلين بالإضافة لكل ما سبق، أن التنوع غير المحدود لتسلسلات النكليوتيدات يمكن أن يفسر ويوضح النوعية البيولوجية لل DNA (اختلاف الـ DNA حسب النوع) وهذا يعني أنها كانت تُلمّح إلى السّرّ الحاسم لتلك الجزيئة: تسلسل الأسس هو الّذي يشكل الشّفرة الجينيّة.
ولإثبات ذلك توجّب عليها أن تُقدّم تلك الرّؤية بصيغةٍ كيميائيّةٍ ورياضيّةٍ دقيقةٍ، لكنّها لم تمتلك الفرصة للقيام بذلك، إذ سبقها إليه ثنائيّ كامبردج، فقدم واتسون وكريك تفسيرًا لبنية الحلزون المزدوج بعلاقاتٍ فراغيّةٍ وروابطَ كيميائيةٍ دقيقةٍ عبر بناء نموذج ٍفيزيائيٍ لتلك البنية.

في منتصف مارس عام 1953، دُعي ويلكنز وفرانكلين إلى كامبردج لرؤية النّموذج، وأكّدوا على صحّته وتمّ الاتفاق على نشره باسم واتسون وكريك بينما يتم نشر البيانات الدّاعمة باسم ويلكينز وفرانكلين وبشكلٍ منفصلٍ طبعًا. أُقيم في كينغ في 25 نيسان/أبريل حفلٌ للاحتفال بنشر المقالات الثلاثة في مجلة نيتشر، لكنّ فرانكلين لم تحضُر وكانت حينها في بيركبيك وقد توقّفت عن العمل على الـ DNA.

تُوفّيت فرانكلن بسرطان المَبِيض عام 1958، أي قبل أربع سنوات من تكريم واتسون، كريك، وويلكنز بجائزة نوبّل لعملهم على بنية ال DNA، لم تُدرك فرانكلين كَم اعتمد واتسون وكريك على ما قدمته أثناء عملها لبناء نموذجهم، وإن كانت تشكّ بذلك فإنها لم تُبد مرارةً أو إحباطًا، كما أصبحت في سنواتٍ لاحقةٍ ودودةً جدًا مع كريك وزوجته أوديل.

1959 بوسطن، ماساتشوستس، الولايات المتحدة، جيمس واتسون (على اليسار)، فرنسيس كريك (على اليمين)، صورةٌ التُقِطت أثناء محاضرات مستشفى ماساشوستس العامة، المصور:كوربيس.

1959 بوسطن، ماساتشوستس، الولايات المتحدة، جيمس واتسون (على اليسار)، فرنسيس كريك (على اليمين)، صورةٌ التُقِطت أثناء محاضرات مستشفى ماساشوستس العامة، المصور:كوربيس.

لقد كَوّنّا تلك الصّورة عن اكتشاف بنية ال DNA والخرافة القائلة أن واتسون وكريك سرقوا بيانات روزاليند فرانكلين من مذكّرة (الحلزون المزدوج) القوية والمؤثّرة لواتسون، لقد شملت تلك المذكّرة وصفًا حقيقيًّا لموقفه المروّع تجاه فرانكلين محاولًا نبذها واستبعادها لدرجة أنه كان يطلق عليها اسم روزي (لقب لم تكن تستخدمه) في صفحات مذكّرته مع العلم أنّ اسمها كان يُلفظ (روز-ليند).

تشمل خاتمة الكتاب التي غفل منتقدو موقف واتسون تجاه فرانكلين عنها، إذ كانت وصفًا كريمًا ومخلصًا كتبه واتسون عن فرانكلين مبيّنًا العرفان ومساهمتها الرائعة بالإضافة إلى فشله في احترامها ومن ذلك استخدام لقبها روزي.

ومن الواضح أنه لو كانت فرانكلين على قيد الحياة لدى التكريم بجائزة نوبل كان يتوجّب على اللجنة أن تمنحها الجائزة أيضًا؛ إذ إن فهمها التصويري لبنية ال DNA وأهمية هذه البنية كان مساويًا لفهم واتسون وكريك كما أنّ نتائج البلورة التي قدمتها فرانكلين تماثل إن لم تكن أفضل من نتائج ويلكنز. وكانت الطريقة الأبسط لتكريمهم هي منح واتسون وكريك جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا بينما منح فرانكلين وويلكنز جائزة نوبّل في الكيمياء.
ولكن ما إذا كانت اللجنة ستعترف بمساهمة فرانكلين هذا أمرٌ آخرُ، إذ بيّنت قضيّة تيم هانت التحيّز الجنسيّ المتأصّل في العلم كما هو الحال في باقي أجزاء ثقافتنا.


مصدر

ترجمة: رهف السيّد وألبير سعود – تدقيق: أحلام مرشد