التعامل مع الوباء يحتاج عقلية جديدة، سريعًا. يستهدف هذا المقال الجزء الصعب من اقتصاديات كوفيد-19 (Covid-19). ربما ندرك جميعًا أن كل ما حدث ويحدث حتى الآن ليس نزهة، لكن النظرة الواقعية الجافة تقول إن تحديات جمة ما تزال في الطريق. تحديان على وجه التحديد: 1ـ نحتاج إلى احتواء ضرر الجائحة قصير المدى (العام الحالي) 2- احتواء الضرر متوسط المدى (ما بعد هذا العام).

ليس مفاجئًا التناقض بين النقطتين، وفي هذا المقال سأشرح كيف أن المخيلة العامة تفضل الاتجاه إلى إعلان الحرب، خاصة الحكومات، كما رأينا في تعامل الصين مع التحدي رقم 1 (قصير المدى)، مع استمرار حاجتنا إلى التعامل مع التحدي رقم 2.

دك المنحنى ليس كافيًا، ومكلف جدًا

مؤكد أنك قد سمعت برد الفعل الأشهر في مواجهة الجائحة، وهو دك المنحنى، Flatten The Curve (في الشكل أدناه من Vox تجد وصفًا جيدًا)، الفكرة هي تقليل معدل العدوى وسط السكان ما يطيل مدة الجائحة، مستهدفًا تقليل عدد المصابين في المرة الواحدة، وهو أمر باهظ التكلفة. تساعد هذه السياسة على توفير الخدمات الاقتصادية الأساسية لكن الهدف الرئيسي منها، كما بالشكل، هو الحفاظ على سعة النظام الصحي.

فكما رأينا في إيطاليا، كان السبب الأساسي للوفاة هو غياب الرعاية الصحية التي توفرها المستشفيات، فعندما تزيد معدلات العدوى، تتهاوى قدرة النظام الصحي الاستيعابية، ويضطر الأطباء إلى الاختيار: من يموت ومن يعيش.

كورونا: دك المنحنى لا يكفي - التعامل مع الوباء - اقتصاديات كوفيد-19 (Covid-19) - عدد الأسرة في المشافي لكل ألف شخص - السعة الاستيعابية لنظم الرعاية الصحية

في الوقت الحالي، باتت هذه الرسالة مسموعة، وأصبحت معظم السياسات تركز على دك المنحنى، مثلما يصف زميلي كيفين بريان (Kevin Bryan)، أنشطة مثل غسل اليدين والحد من السفر والتباعد الاجتماعي تهدف جميعها إلى الهدف ذاته. ندرك جميعًا أنه ربما كان يفترض بنا البدء مبكرًا بأسبوع أو أكثر، لكنها تتم بأي حال.

برغم ذلك، هناك ثمن لتلك السياسة علينا دفعه في المقابل: أولًا، دك المنحنى سيطيل فترة التعطل قصير المدى، التي تعني المدى الزمني الذي نحافظ فيه على التباعد الاجتماعي وما يتبعه ذلك من تعطل الحياة والأعمال، ومن ثم ركود (انخفاض في النشاط الاقتصادي) ليس ناتجًا عن عوامل مالية غامضة كالمعتاد؛ ولكن بسبب أننا اخترنا خفض هذا النشاط.

في الظروف المعتادة قد يكون هذا خبرًا جيدًا، فهو ركود يفهمه الاقتصاديون ويوافقون بعضهم الرأي في كيفية التعامل معه والمسألة ليست محل جدل، لكن الصعب -كالعادة- هو إقناع السياسيين بتبني السياسات.

الأمر الثاني، دك المنحنى يفترض أن الأمر لن يتمادى كثيرًا وأن معظم البشر سيصابون بالعدوى ثم يكتسبون المناعة. المناعة من كوفيد 19 لا تزال محل شك، لكن دعنا نفترض أن هذا سيناريو محتمل.

إذا خفضت معدل العدوى أكثر من اللازم فإن معظم السكان لن يصابوا بالفيروس، ما يعني أنه حين تتوقف سياسات التباعد الاجتماعي سيتمكن الفيروس من الانتشار مرة أخرى وسيكون علينا التعامل مع الأمر مجددًا.

البديهي أننا لا نريد أن نقوم بهذه الإجراءات مرتين، والمقلق أن تكون الصين واليابان وكوريا الجنوبية قد طبقوا هذا التباعد الاجتماعي أكثر من اللازم! إسرائيل ومن بعدها إيطاليا تنتهجان الآن النهج ذاته لإبعاد الفيروس كليًا.

السبب في وجود تكلفة لهذا هي أنك في الواقع ستكون مفيدًا أكثر إذا أصبت بالفيروس ولم تعد حاملًا له ومركزًا للعدوى، ما يعني أن المجتمع لا ينبغي أن يخاف من التعامل معك، أو بعبارة أخرى فتحقيق مناعة القطيع (Herd Immunity) هو استثمار للمستقبل مثل التطعيم، لكنك -مع الأسف- يجب أن تصاب بالفيروس وليس مجرد حقنة.

في هذه اللحظات، كما أفهم، يركز رد الفعل البريطاني في مواجهة الجائحة على أن يضحي البعض من أجل الكل، بالطبع تجدر الإشارة إلى أن قضاء أسبوع في الفراش ليس كالموت، وتطبيق هذه السياسة دون الدفع بعدد كبير من الناس إلى الموت هو أمر يصعب تخيله.

الخبر السيئ هو أن الرسم البياني لدك المنحنى مضلل وليس حقيقًا، ربما يبدو بالأحرى مثل هذا:

المرجح أن استيعاب النظام الصحي أقل بكثير مما يصفه الرسم، وأقل مما قد ينجح دك المنحنى في تحقيقه. يختلف الأمر بالطبع من دولة إلى أخرى.

فيما يلي توزيع أسرة المستشفيات لتعطيك فكرة عن حجم المشكلة:

عدد الأسرة لكل ألف شخص ـ المصدر Shuhei Nomura, Researchgate

يعطيك هذا فكرة عن المشكلة، بعض الدول لديها أربعة أو خمسة أضعاف عدد الأسرة مما لدى مثيلاتها، والمرجح أن التباين داخل الدولة الواحدة قد يضاهي ذلك، كما ستظهر تباينات أشد إذا وضعنا في الحسبان عدد وحدات العناية المركزة وأجهزة تنفس اصطناعي إلخ. لكن المعيار الأساسي هو أنه حتى في السيناريو المتفائل لدك المنحنى، لا يمكن للمنحنى أن ينبطح بما يكفي، وهو أمر واقع سرعان ما سنصطدم به.

قمت ببعض الحسابات عن كندا وأفادت أكثر حساباتي تفاؤلًا أن السعة الحالية ستنهار في وقت ما بين منتصف إلى نهاية أبريل القادم، ما سيتركنا مع أحد اختيارين: 2- تجاوز السعة ووفاة نسبة كبيرة من كبار السن، 2- كسر المنحنى وإعادة الكرة مرة أخرى في وقت متأخر من العام، وهو اختيار لم يعد مطروحًا في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا.

البديل: زيادة حادة وعاجلة لاستيعاب المستشفيات

عند طرح الأمور بهذا الشكل، فالاختيار يبدو واضحًا، إذا لم ننجح في دك المنحنى بما يكفي فعلينا أن نرفع من استيعاب النظام الصحي.

عندما أنشأت الصين مستشفيات جديدة في ووهان في أقل من أسبوع، كانت هذه سياستها، بدأ هذا منذ حوالي شهر، وبالأخذ في الاعتبار مقدرتها على كبح معدلات العدوى، ربما يمكن القول إنها بالغت في هذه السياسة، لكن التوقعات تشير للأسف أنها قد تحتاج هذه الطاقة الاستيعابية مجددًا في الجولة الثانية.

على جانب آخر، من الواضح أن زيادة الطاقة الاستيعابية يجب أن تكون الأولوية الآن، لم يأخذ الأمر الأهمية الكافية من الحكومات كما يبدو، والأدهى -دعنا نعترف- أن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا. فعلت الصين ذلك بشكل مدهش في بضعة أسابيع، سيكون من الصعب التغلب على ذلك، لكن على سبيل المثال، كم تود إيطاليا الآن أن تكون قد فعلت الأمر ذاته منذ أسابيع؟

إعلان الحرب

بناء هذه الطاقة الاستيعابية يحتاج عقلية جديدة، ويحتاجها سريعًا، والخبر الجيد أننا (وضمير الجمع هنا أقصد به الجيل الذي عاصر الحرب العالمية الثانية) قد فعلنا ذلك من قبل: اقتصاديات كاملة تحولت إلى الإنتاج العسكري، حدث هذا من خلال التخلي عن آليات السوق في توزيع الموارد ليحل محلها الاقتصاد المخطط. هذه المرة، سيتوجه الاقتصاد مؤقتًا وبشكل عاجل إلى زيادة السعة الاستيعابية لنظم الرعاية الصحية.

في النهاية، أظن أن كل الحكومات عليها أن تضع السياسات التالية في الحسبان:

  •  أن يكون الجيش مسؤولًا عن توسع الرعاية الصحية.
  •  التحكم في كل الأسرّة والأجهزة الطبية والقدرات الصناعية، ليس بالضرورة بشكل مباشر، لكن بشكل يسمح بإدارتها.
  •  اتخاذ إجراءات تسمح بتجنيد الأفراد الذين قد يكونون مفيدين للمهمة. التجنيد الإجباري كلمة قبيحة، لكنك لن ترسل أحدًا للحرب أو الموت وإنما للعمل. يمكن أيضًا إغلاق الجامعات، أدرك ما يقال عن التعليم عن بعد لكن دعنا نكون صريحين: يمكن للطلبة أن يقوموا بعمل آخر بقية العام وسنتمكن من تعويض ذلك، هذا العمل الآخر قد يكون العناية بالمعولين، وإفساح المجال للأفراد المؤهلين لتأدية عملهم.

ـ هذه النقطة قيد العمل بالفعل، لكننا نحتاج إلى مشروع يشابه مشروع مانهاتن للعثور على التطعيم، فالعالم سيحتاجه.

في النهاية، هذا هو ما نحتاج إلى تحقيقه:

كورونا: دك المنحنى لا يكفي - التعامل مع الوباء - اقتصاديات كوفيد-19 (Covid-19) - عدد الأسرة في المشافي لكل ألف شخص - السعة الاستيعابية لنظم الرعاية الصحية

الكاتب: جوشوا جانز (Joshua Gans) أستاذ الإدارة الاستراتيجية، يشغل كرسي جيفري س كول للإبداع التقني وريادة الأعمال في كلية الإدارة بجامعة تورنتو. وهو مؤلف ومؤلف مشارك لعدد من الكتب بينها: معضلة التعطل (The Disruption Dilemma)، ماكينات التنبؤ (Prediction Machines)، الإبداع + المساواة (Innovation + Equality).

اقرأ أيضًا:

نصائح عملية للوقاية من فيروس كورونا.. الوقاية بسيطة ولسنا بحاجة إلى الهلع

ما المدة التي يعيش فيها فيروس كورونا في الهواء وعلى الأسطح؟

ترجمة: إبراهيم صيام

تدقيق: دانه أبو فرحة

المصدر