عندما وصلتني قائمة بالمشاركين في هذه السلسلة من المحاضرات، وأدركتُ أنّ حديثي سيكون موجّهًا إلى زملاء لي في الفلسفة، ارتأيتُ، مع قليل من التردّد والحيرة، أنّكم ربّما قد تفضّلون لو أنّي تحدّثتُ عن المشكلات الفلسفيّة التي تثير اهتمامي أكثر من أيّ شيء آخر، بالإضافة إلى التطوّرات الفكريّة التي أشعر أنّي على اطّلاع وثيق بتفاصيلها.

ولهذا قرّرتُ القيام بأمر لم يسبق لي أن فعلتُ قبل الآن: أن أعطيكم تقريرًا عن أعمالي الشخصيّة في فلسفة العلوم منذ خريف العام 1919، عندما بدأتُ أصارع المشكلة الآتية: “متى تكتسب نظريّة ما مقامًا أو مكانة علميّة؟”، أو بكلمات أخرى: “هل هنالك مقوّمات أو معيار موضوعيّ لتحديد الطابع العلميّ أو الوضعيّة العلميّة لنظريّة ما؟”.

المشكلة التي أقلقتني في ذلك الوقت لم تكن مشكلة “متى تكون النظريّة صحيحة؟”، كما أنّها لم تكن مشكلة “متى تكون النظريّة مقبولة؟”، مشكلتي كانت مختلفة تمامًا.

جلّ ما أردتُ تحصيله هو أن أفرّق أو أميّز بين العلوم الحقيقيّة وأشباه العلوم، أو العلوم الزائفة، مع أنّي أعلم جيّدًا أنّ العلوم كثيرًا ما تخطئ، كما أنّ العلوم الزائفة قد تتعثّر بالحقيقة أحيانًا.

لقد علمتُ، بالطبع، أنّ الجواب الأكثر قبولًا لمشكلتي كان أنّ العلم يتميّز عن العلوم الزائفة – أو الميتافيزيقيا بشكل عام – بمنهجيّته التجريبيّة، أو جوهريًّا بمنهجه الاستقرائيّ الذي ينطلق من المشاهدة أو التجربة.

ولكنّ هذه الإجابة لم تَرُق لي.

على العكس، لقد وجدتُ نفسي في كثير من الأحيان أحاول صياغة مشكلتي على أنّها مشكلة التفريق بين المنهج التجريبيّ الحقيقيّ والمنهج غير التجريبيّ أو حتّى المنهج شبه التجريبيّ – وهو المنهج الذي بالرغم من اعتماده على المشاهدة والتجربة، إلاّ أنّه لا يرقى إلى المعايير العلميّة المعتبرة.

وكمثال على المنهج الأخير، بإمكاننا الإشارة إلى علم التنجيم، وإلى اعتماده على كمّ هائل من الأدلّة التجريبيّة المرتكزة على الرصد والمشاهدة – على الأبراج الفلكيّة والسِّيَر الذاتيّة.

ولكن بما أنّ مثال علم التنجيم لم يكن الدافع الذي قادني لمشكلتي الفلسفيّة، ربّما من الأفضل لو وصفتُ باختصار الجوّ الذي اصطدمتُ في ظلاله بمشكلتي، والأمثلة التي حفّزَتْ أهميّتها.

يعدما انهارت الإمبراطوريّة النمساويّة، كان هنالك ثورة في النمسا: الهواء كان مليئًا بالهتافات، الشعارات، والأفكار الثوريّة، كما أنّنا شهدنا نظريّات جديدة وفي أحيان كثيرة غريبة.

من بين النظريّات التي أثارت اهتمامي كانت النظريّة النسبيّة لأينشتاين، بدون شك، أكثر هذه النظرّيّات أهميّة حتّى الآن.

كما أنّني كنت مهتمًّا بثلاث نظريّات أخرى، ألا وهي: النظريّة الماركسيّة في تفسير التاريخ، نظريّة التحليل النفسي لفرويد، وما يسمّى بنظريّة “علم النفس الفرديّ” لألفرد أدلر.

في ذلك الوقت، كان هناك الكثير من الهراء والأفكار المغلوطة المنتشرة حول هذه النظريّات، وخصوصًا حول النظريّة النسبيّة (كما يحدث حتّى في هذه الأيّام)، ولكنّي كنت محظوظًا لوجود أولائك الذين أرشدوني في دراسة هذه النظريّة.

كلّنا – وهنا أعني الحلقة الصغيرة من الطلّاب التي أنتمي لها – شعرنا بسعادة غامرة عندما أُعْلِن عن نتيجة مشاهدات الكسوف التي أجراها إدينجتون في سنة 1919، والتي كانت بمثابة أوّل تأكيد مهمّ لصحّة نظريّة الجاذبيّة لأينشتاين.

لقد كانت في تلك اللحظات تجربة رائعة لنا جميعًا، كما أنّها حملت تأثيرًا دائمًا على تطوّري الفكريّ.

أمّا النظريّات الثلاث الأخرى التي ذكرتُ، فلقد كانت تناقش على نطاق واسع بين الطلاّب في تلك الفترة.

كما أنّه حدث وكنت في تواصل شخصيّ مع ألفرد أدلر، حتّى أنّني تعاونت معه في عمله الاجتماعيّ بين الأطفال والشباب في أحياء الطبقة العاملة في فيينا، حيث أنشأ عيادات للتوجيه الاجتماعيّ.

في صيف العام 1919، بدأت أشعر أكثر فأكثر بالاستياء من هذه النظريّات الثلاث – النظريّة الماركسيّة للتاريخ، التحليل النفسيّ، وعلم النفس الفرديّ.

كما أنّني بدأت أشكّ في دعوى مكانتها العلميّة.

مشكلتي في البداية، ربّما، اتّخذَتْ طابع البساطة، إذ أردت أن أعرف “ما هو الخلل في الماركسيّة، التحليل النفسيّ، وعلم النفس الفرديّ؟ لماذا تختلف هذه النظريّات عن النظريّات الفيزيائية، عن نظريّة نيوتن، وخصوصًا عن النظريّة النسبيّة؟”.

وحتّى نوضّح هذا التباين بين النظريّات، لا بدّ لي من أن أذْكُر أنّ قلّة منّا في ذلك الوقت كانوا على استعداد للبوح باعتقادهم بصحّة نظريّة الجاذبيّة لأينشتاين.

وهذا يشير إلى أنّ انزعاجي لم يكن لينسب لشكّي في صحّة هذه النظريّات الثلاث، ولكن لأمر آخر.

وفوق ذلك، فإنّ انزعاجي لم يكن لينسب أيضًا لمقاربتي الشعوريّة بأنّ الرياضيّات الفيزيائيّة أدقّ من نظريّات علوم الاجتماع أوعلوم النفس.

ولذلك فإنّ ما أقلقني لم يكن مشكلة الحقيقة، على الأقلّ في هذه المرحلة، ولا مشكلة الدقّة أو القابليّة للقياس.

الأمر الذي أقلقني، بالأحرى، كان شعوري بأنّ هذه النظريّات الثلاث، على الرغم من تقمّصها مكانة النظريّة العلميّة، إلّا أنّها في الواقع أقرب إلى الخرافات والأساطير البدائيّة منها للعلم – أنّها أشبه بعلم التنجيم من علم الفلك.

لقد وجدت أنّ أصدقائي المعجبين بماركس، فرويد، وأدلر كانوا متأثّرين بعدد من النقاط المشترَكة بين هذه النظريّات، وخصوصًا بظاهر قوّتها التفسيريّة.

هذه النظريّات تبدو وكأنّها قادرة فعليًّا على شرح كلّ شيء حدث في المجال الذي تتناوله.

ولذلك بدا لي أنّ دراسة أيّ منها كان له أثر التحوّل الفكريّ أو الإلهام، ممّا يفتح عينيك على حقيقة جديدة، مخبّأة عن أولائك الذين لم يشرعوا بدراستها حتّى الآن.

وعندما تتفتّح عيناك، فإنّك ستجد في كلّ ما يحيط بك برهانًا وتأكيدًا على صحّة النظريّة: العالم – بالنسبة إليك – مليء بإثباتات تؤكّد حقيقتها.

كلّ ما حدث وكلّ حادث يؤكّد صحّة النظريّة.

ولذلك فإنّ حقيقة هذه النظريّة ظاهرة للعيان، والأشخاص الذين لا يؤمنون بصحّتها فلا بدّ أنّهم مُعْرِضون عن الحقيقة الواضحة.

وأمّا رفضهم لقبولها فلا بدّ أن يُفَسَّر إمّا بكون النظريّة لا تخدم مصالحهم الطبقيّة أو أن يعزى إلى الكبت أو القمع الذاتيّ الذي لم يخضع بعد للتحليل النفسيّ، ويستنجد طلبًا للعلاج.

لقد بدا لي أنّ أكثر ما يميّز هذه الحالة هو التيّار غير المنقطع من التوكيدات والبراهين، من المشاهدات التي أكّدت صحّة النظريّات المعنيّة.

ولطالما حاول أتباع هذه النظريّات التركيز على هذه النقطة.

فمثلًا، قد تجد الماركسيّ عاجزًا عن مطالعة الجريدة من غير أن يعثر، في كلّ صفحة، على أدلّة تؤكّد صحّة تفسيره للتاريخ.

ولا تنحصر التوكيدات في مضمون الأخبار نفسها، ولكنّها قد تمتدّ لتشمل كيفيّة عرضها – الأمر الذي يكشف عن الانحياز الطبقيّ للجريدة – وخصوصًا، بالطبع، ما لم يذكر في الجريدة أصلًا.

أمّا المحلّلون النفسيّون التابعون لمدرسة فرويد، فيشدّدون على أنّ نظريّاتهم تتأكّد باستمرار عن طريق مشاهداتهم السريريّة.

أمّا بالنسبة لأدلر، فلقد تأثّرتُ بتجربتي الشخصيّة معه.

ذات مرّة في عام 1919، أعلمتُه عن حالة بدا لي أنّها لا تتماشى مع رؤيته، ولكنّه لم يجد أيّ صعوبة في تفسيرها اعتمادًا على نظريّة “الشعور بالدونيّة”، على الرغم من أنّه لم يَرَ الطفل ابتداءً.

صُدِمْتُ قليلًا، وسألتُه كيف بإمكانه أن يكون واثقًا إلى هذا الحدّ.

“نظرًا لخبرتي التي تمتدّ إلى ألف حالة”، أجابني.

عندها ما كان منّي إلاّ أن قلت: “مع هذه الحالة الجديدة، سأفترض أنّ خبرتك ستمتدّ إلى ألف وواحد”.

ما كان يدور في ذهني في ذلك الوقت هو أنّ مشاهداته السابقة قد لا تكون أفضل من هذه الحالة الجديدة، أنّ كلّ واحدة من هذه الحالات بدورها فُسِّرَتْ على ضوء “التجربة السابقة”، وفي الوقت ذاته اُحْتُسِبَتْ على أنّها تأكيد إضافيّ لصحّة النظريّة.

ولذلك سألتُ نفسي، ماذا أكّدت هذه الحالة الجديدة؟ لا شيء أكثر من أنّها حالة بالإمكان تفسيرها على ضوء النظريّة.

ولكنّي تنبّهتُ إلى أنّ هذا لا يعني الكثير، إذ أنّ أيّ حالة بالإمكان تصوّرها من الممكن أيضًا أن تُفَسَّر على ضوء نظريّة أدلر، أو بحسب نظريّة فرويد على حدّ السواء.

سأوضّح هذا الإشكال بطرح مثالين مختلفين للسلوك البشري: الأوّل هو مثال رجل يدفع طفلًا إلى الماء بنيّة إغراقه، والثاني هو مثال رجل يضحّي بحياته محاولًا إنقاذ حياة الطفل.

بالإمكان تفسير كلتا الحالتين بسهولة مماثلة في سياق نظريّة فرويد وفي سياق نظريّة أدلر أيضًا.

وفقًا لفرويد، الرجل الأوّل عانى من الكبت أو القمع (فلنقل مثلًا، أنّه كبت عنصرًا معيّنًا من عقدة أوديب)، بينما الرجل الثاني قد حقّق التَعْلِيَة النفسيّة.

وفقًا لأدلر، الرجل الأوّل عانى من عقدة النقص أو الشعور بالدونيّة (ممّا أنتج الحاجة ليثبت لنفسه أنّه يتمتّع بالجرأة الكافية ليرتكب جريمة ما)، والأمر سيّان في حالة الرجل الثاني (الذي شعر بالحاجة ليثبت لنفسه أنّه يتمتّع بالجرأة الكافية لينقذ الطفل).

لم أستطع أن أتخيّل أيّ سلوك بشريّ ممّا لا يمكن تفسيره في سياق أيّ من النظريّتين.

لقد كانت هذه الحقيقة على وجه التحديد – أنّ الحالات دائمًا ما كانت متلائمةً مع النظريّات، وأنّها دائمًا ما أكّدَتْ صحّتها – التي شكّلَتْ، في أعين المعجبين بهذه النظريّات، أقوى حجّة في صالحها.

أمّا أنا فلقد بدأتُ أرى أنّ ظاهر قوّة هذه النظريّات ما هو في حقيقة الأمر إلاّ ضعفها.

أمّا في حالة نظريّة أينشتاين، فالوضع كان مختلفًا بشكل ملفت للنظر.

فلنأخذ مثالًا نموذجيًّا – تنبّؤ أينشتاين، والذي تأكّد، بعد ذلك، بنتائج حملة إدينغتون.

نظريّة الجاذبيّة لأينشتاين أدّت إلى النتيجة بأنّ الضوء من المفروض أن يُجْتَذَب من قبل الأجسام الثقيلة (كالشمس مثلًا)، كما تُجْتَذَب الأجسام المادّيّة بالضبط.

وكتبعة لهذه النتيجة، من الممكن أن نحسب أنّ الضوء القادم من نجم بعيد، ثابت، وظاهر موقعه قريب من الشمس سيصل إلى الكرة الأرضيّة من اتّجاه قد يوحي بأنّ النجم قد تحوّل بعيدًا بعض الشيء عن الشمس.

أو، بكلمات أخرى، النجوم القريبة من الشمس ستبدو وكأنّها قد تحرّكت بعيدًا بعض الشيء عن الشمس، وعن بعضها البعض.

من غير الممكن رصد مثل هذه الظاهرة في العادة لأنّ هذه النوعيّة من النجوم تصير محجوبة عنّا في أثناء النهار بسبب سطوع ضوء الشمس الغامر.

ولكن من الممكن التقاط صور لهذه النجوم أثناء كسوف الشمس.

وإذا قمنا بتصوير نفس كوكبة النجوم في أثناء الليل، بإمكاننا قياس البعد في كلّ من الصورتين، والتحقّق من صحّة التأثير المتوقّع.

الآن، الأمر المثير للإعجاب في هذه الحالة هو المخاطرة التي ينطوي عليها تنبّؤ من هذا القبيل.

إذا أظهرت المشاهدة أنّ التأثير المتوقّع غائب قطعًا، فالنظريّة ستُدْحَض بكلّ بساطة.

النظريّة غير متوافقة مع بعض النتائج الممكنة للمشاهدات – في الواقع النظريّة في هذه الحالة كانت غير متوافقة مع النتائج التي كان يتوقّعها الجميع قبل أينشتاين.

هذا مختلف تمامًا عن الحالة التي وُصِفَتْ سابقًا، فلقد تبيّن أنّ النظريّات المعنيّة كانت متوافقة حتّى مع التصرّفات البشريّة الأكثر غرابة، بحيث أنّه من المستحيل فعليًّا توصيف أيّ سلوك إنسانيّ ممّا يستحيل أن يُزْعَم أنّه يحقّق صحّة هذه النظريّات.

هذه الاعتبارات قادتني في شتاء العام 1919-1920 إلى خلاصات سأعيد صياغتها كالآتي:

1. من السهل أن نتحصّل على توكيدات، أو إثباتات، لكلّ نظريّة تقريبًا اذا كنّا نبحث عن توكيدات.

2. التوكيدات تُحْتَسَب فقط إذا كانت نتيجة لتوقّعات أو تنبّؤات خطرة. أو بكلمات أخرى، التوكيدات تُحْتَسَب فقط إذا توقّعنا، قبل اطّلاعنا على تفاصيل النظريّة المعنيّة، حدثًا غير متوافق مع النظريّة – حدثًا من شأنه أن يدحض النظريّة.

3. كلّ نظريّة علميّة “جيّدة” هي أداة حظر: تمنع حدوث بعض الأمور أو السيناريوهات. كلّما منعت النظريّة أكثر كلّما كانت أفضل.

4. أيّ نظريّة لا يمكن تفنيدها أو دحضها من قبل أي حدث بالإمكان تصوّره هي نظريّة غير علميّة. عدم قابليّة الدحض أو التفنيد لا تعبّر عن قوة أو فضل النظريّة (كما يعتقد الناس في غالب الأحيان)، ولكنّها دليل على رداءتها.

5. كلّ اختبار حقيقيّ للنظريّة هو محاولة لدحضها أو تفنيدها. ولذلك قابليّة النظريّة للاختبار هي بالضبط قابليّتها للتفنيد. ولكن هناك درجات لقياس قابليّة النظريّة للاختبار: بعض النظريّات تتمتّع بقابليّة أكبر للاختبار من غيرها، أي أنّها أكثر عرضة للدحض والتفنيد. كما لو أنّ هذه النظريّات تخاطر أكثر من غيرها.

6. أيّ دليل يُطْرَح على أنّه توكيد لصحّة النظريّة لن يأخذ بعين الاعتبار إلاّ إذا كان نتيجةً لاختبار حقيقيّ لصحّة النظريّة. هذا يعني أنّ الدليل من الممكن أن يُقَدَّم على أنّه محاولة جادّة ولكن غير ناجحة لدحض النظريّة. (المقصود بالأدلّة هنا هو الأدلّة المؤيّدة، على عكس البراهين).

7. بعض النظريّات القابلة لاختبار حقيقيّ، عندما يتبيّن أنّها خاطئة، يستمرّ المعجبون بها بتأييدها – مثلًا عن طريق اقتراح افتراض إضافيّ، أو من خلال إعادة تفسير النظريّة بصورة تعفيها من التفنيد. هذا الإجراء دائمًا ما كان وسيبقى في متناول اليد، ولكنّ إجراءً كهذا سينقذ النظريّة من التفنيد على حساب تدمير أو خفض مكانتها العلميّة. (لاحقًا، وصفتُ مهمّة إنقاذ كهذه بأنّها “التواء عرفيّ” أو “حيلة عرفيّة”).

بإمكاننا تلخيص كلّ هذه النقاط بالقول أنّ المعيار لتحديد الوضعيّة العلميّة لنظريّة ما هو قابليّتها للخطأ، أو للتفنيد، أو قابليّتها للاختبار.

الجزء الثاني

ربّما باستطاعتي أن أوضّح هذه الفكرة أكثر بمساعدة النظريّات المختلفة التي تعرّضنا لها حتّى الآن.

من الواضح أنّ نظريّة الجاذبيّة لأينشتاين تخضع لمعيار قابليّة الخطأ.

فحتّى لو لم تؤهّلنا أدوات القياس التي كانت بحوزتنا في ذلك الوقت لتحديد نتائج الاختبارات بثقة كاملة، من الواضح أنّ هناك إمكانيّة لتفنيد النظريّة.

علم التنجيم، على الجهة الأخرى، لم ينجح في الاختبار.

لقد ضُلِّل وأُعْجِب المنجّمون كثيرًا بما اعتبروه أدلّة مؤيّدة لنظريّتهم – لدرجة أنّهم لم يلتفتوا إلى الأدلّة المعارضة والتي لا تتماشى مع روح النظريّة.

علاوة على ذلك، من خلال جعل تفسيراتهم وتنبّؤاتهم غامضة بالقدر الكافي كانوا قادرين على تبرير أيّ حدث بإمكانه دحض النظريّة فيما لو كانت أكثر دقّة.

وحتّى يتفادوا إشكال قابليّة نظريّتهم للخطأ، قاموا بتدمير قابليّة النظريّة للاختبار.

وهذه فعليًّا هي الخدعة النموذجيّة للعرّافين، والتي تتمثّل بالتنبّؤ بأمور غامضة لدرجة أنّ التنبّؤات من الصعب أن تفشل، مما يجعلها غير قابلة للدحض.

أمّا النظريّة الماركسيّة للتاريخ، فعلى الرغم من الجهود الجادّة من قبل مؤسّسيها وأتباعها، فقد انتهجت في نهاية المطاف ممارسة العرافة تلك التي تعرّضنا لها.

في بعض صياغاتها المبكّرة (مثلًا في تحليل ماركس لملامح “الثورة الاجتماعيّة القادمة”) كانت توقّعاتهم قابلة للاختبار، وفي واقع الأمر تمّ تفنيدها.

لكن بدلًا من قبول التفنيدات قام أتباع ماركس بإعادة تفسير كلّ من النظريّة والأدلّة، وذلك لجعلها تتوافق معًا.

بهذه الطريقة أنقذوا النظريّة من الدحض، لكنّ ذلك جاء على حساب تبنّي منظومة جعلت من النظريّة غير قابلة للتفنيد.

وبذلك فإنّهم أضفوا “التواءً عرفيًّا” على النظريّة، وبهذه الحيلة دمّروا الادّعاء المسوّق له حول مكانتها العلميّة.

أمّا نظريّتا التحليل النفسيّ فلقد كانتا في طبقة مختلفة تمامًا.

هاتان النظريّتان كانتا ببساطة غير قابلتين للاختبار أو التفنيد.

ليس بالإمكان تصوّر أيّ سلوك إنسانيّ مناقض لهما.

هذا لا يعني أنّ فرويد وأدلر لم يفسّرا أمورًا معيّنة بصورة صحيحة، وأنا شخصيًا لا أشكّ بأنّ كثيرًا ممّا جاءا به يتمتّع بأهميّة عالية، ومن الممكن أن يلعب دوره يومًا ما في علم النفس القابل للاختبار.

ولكنّه يعني أنّ تلك “المشاهدات السريريّة” والتي يعتقد المحلّلون بسذاجة أنّها تؤكّد نظريّاتهم ليس بإمكانها أن تحقّق ذلك أكثر من التوكيدات اليوميّة التي يجدها المنجّمون في ممارساتهم.

وأمّا بخصوص كتابات فرويد عن الأنا، الأنا العليا، والهو، فدعوى مكانتها العلميّة ليست أقوى بكثير من دعوى المكانة العلميّة لقصص هوميروس التي جمعها من أوليمبوس.

تصف هذه النظريّات بعض الحقائق، ولكن بأسلوب الأساطير.

كما أنّها تحتوي على أكثر الاقتراحات النفسيّة إثارةً للاهتمام، ولكن بصورة غير قابلة للاختبار.

في نفس الوقت أدركتُ أنّه من الممكن تطوير مثل هذه الأساطير حتّى تصبح قابلة للاختبار، وأنّه من المنظور التاريخيّ كلّ (أو تقريبًا كلّ) النظريات العلميّة نبعت من الأساطير، وأنّ الأساطير قد تحتوي على استباقات مهمّة لنظريّات علميّة.

وكمثال على ذلك، من الجدير أن نذكر نظريّة التطوّر عن طريق التجربة والخطأ للفيلسوف الإغريقي إيمبيدوكليس، أو أسطورة بارميندس عن الكون ككتلة واحدة لا تتغيّر، والتي إذا أضفنا لها بعدًا آخر فستماثل نظرة أينشتاين للكون (والتي فيها أيضا لا يوجد حوادث ولا متغيّرات، لأنّ وضعيّة كلّ ما في الكون، إذا تحدّثنا عن أربعة أبعاد، قد تحدّدت منذ البداية).

ولذلك شعرتُ أنه إذا وُجِدَ أنّ نظريّة ما هي نظريّة غير علميّة أو ميتافيزيقيّة (كما من الممكن أن نقول)، فهذا لا يعني أنّها غير مهمة، عديمة المعنى، أو هرائيّة.

ولكن بنفس الوقت لا يصحّ الادّعاء بأنّها مدعومة بأدلّة تجريبيّة بالمعنى العلميّ – رغم أنّها من الممكن أن تكون بسهولة، في بعض المعاني التأصيليّة، “نتيجة للمشاهدة”.

(هناك كمّ هائل من النظريّات الأخرى ذات الطابع العلميّ البدائيّ أو شبه العلميّ.

بعضها للأسف حاز على شهرة وتأثير كما كان لنظريّة تفسير التاريخ الماركسيّة، مثل النظريّة العرقيّة لتفسير التاريخ – وهي واحدة من تلك النظريّات المثيرة للإعجاب والقادرة على تفسير كلّ الظواهر الواردة في الباب والتي تترك أثرها على العقول الضعيفة مثل الوحي.)

لذلك فالمشكلة التي حاولت حلّها عن طريق اقتراح معيار القابليّة للخطأ لم تكن مشكلة معنى أو أهميّة، كما أنّها لم تكن مشكلة الحقيقة أو التقبّل.

لقد كانت مشكلة رسم خطّ فاصل (بأفضل صورة يمكننا فعل ذلك) بين التصريحات أو نظم التصريحات التابعة للعلوم التجريبيّة وبين جميع التصريحات الأخرى، سواء كانت ذات طابع دينيّ أو ميتافيزيقيّ، أو ببساطة طابع شبه علميّ.

بعد عدة سنوات- لا بدّ أنّها كانت سنة 1928 أو 1929 – أطلقتُ على مشكلتي الفلسفيّة الأولى هذه اسم “مشكلة ترسيم الحدود”.

معيار القابليّة للخطأ هو أحد الحلول لمشكلة ترسيم الحدود، وهذا المعيار يصرّح بأنّ التصريحات أو نُظَم التصريحات، حتّى تُصَنَّف على أنّها علميّة، يجب أن يكون بمقدورها أن تتعارض مع مشاهدات ممكنة أو قابلة للتصوّر.

بقلم: كارل بوبر
Science as Falsification By: Karl Popper, 1963


  • ترجمة: أنسام زيدان
  • مراجعة: غسّان حوش
  • تحرير: يمام اليوسف