فور أن يلقي شخص ما نظرة على صفحة نصية أو خريطة، فإنه يتذكر كل التفاصيل الموجودة فيها على الفور. ادعى العديد من المشاهير من ليوناردو دافنشي إلى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، أن لديهم تلك القدرة التي تسمى الذاكرة التصويرية.
لكن هل الذاكرة التصويرية حقيقية أم مجرد خرافة؟
الذاكرة التصويرية هي القدرة على تذكر صورة أو مشهد أو نص تمامًا كما لو كان صورة فوتوغرافية، لكن عند سؤال البروفيسور جون سيمونز، عالم الأعصاب في جامعة كامبريدج، عما إذا كانت حقيقية، أوضح سيمونز أن الذاكرة التصويرية غير مدعومة بالأدلة العلمية.
يتحدث علماء الأعصاب عن الذاكرة التخيلية، وهي القدرة على تذكر الصور أو الأصوات أو الأشياء بوضوح وبتفصيل كبير، كما لو كانت ما تزال موجودة أمامنا.
يمتلك بعض الأطفال هذا النوع من الذاكرة أحيانًا، لكنه نادر نسبيًا عند البالغين.
مع ذلك، إنه غير شائع بين الأطفال، إذ تشير إحصائية أن 2-10% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6-12 عامًا قد يكون لديهم ذاكرة تصويرية.
في ورقة بحثية أجريت عام 1979، شرح عالم النفس رالف نورمان هابر نتائج مشروع استمر عقدًا من الزمن أجري لدراسة الذاكرة التصويرية، ووجد أن المفهوم غير موجود فعليًا لدى البالغين.
في أحد الأمثلة، عُرض على صبي يبلغ من العمر 10 سنوات، صورة للشخصية الخيالية المشهورة أليس في بلاد العجائب وهي تتحدث إلى قطة تجلس على شجرة. طُلب من الطفل النظر إلى الصورة فترةً وجيزة من الزمن ثم أُبعدت الصورة ليسُأل الطفل بعدها عما رآه، فأجاب الطفل: رأيت شجرة رمادية بثلاثة أطراف، وقطة مخططة الذيل.
بعد ذلك سُأل الطفل إذا كان يستطيع تذكر عدد الخطوط على الذيل، فأجاب بعد تفكير قليل: هناك نحو 16 خطًا.
يوضح ما سبق أنه في الوقت الذي استغرقت نظرة الطفل إلى الصورة ثلاثين ثانية فقط، استطاع تذكر كل هذه التفاصيل.
إن معظم الأطفال الذين يملكون هذه القدرة يفقدونها مع التقدم في العمر، لكن تقرير حالة نُشر في عام 2023، أثار احتمال وجود ذاكرة تصويرية لدى امرأة تبلغ من العمر 27 عامًا مصابة بالصرع، إذ طورت أنواعًا مختلفة من النوبات في سن السادسة، وبينما كانت المرأة تخضع لبعض الاختبارات قبل الجراحة، أصبحت لديها قدرة رائعة على حفظ أزواج من الكلمات بوضوح، وافترض العلماء أنه في هذه الحالة النادرة، قد تكون نوبات المرأة التي نشأت في جزء الدماغ المسؤول عن اللغة قد عززت ذاكرتها بالفعل.
لماذا يندر امتلاك البالغين ذاكرة تصويرية؟
اقترحت بعض النظريات أن الأمر يتعلق بالتغيرات التنموية في الدماغ ، أو أن الأطفال الأصغر سنًا يعتمدون أكثر على ذاكرتهم البصرية قبل أن تتقدم مهاراتهم اللفظية إلى الحد الذي يمكنهم من التفكير بشكل أكثر تجريدًا.
لم يقتنع هابر بهذا التفسير، إذ كتب أنه لا يوجد دليل يدعم أي نسخة من فرضية تنموية، ودعا في استنتاجاته إلى مزيد من البحث لإلغاء تحديد طبيعة الذاكرة التصويرية، مع أنها ما تزال غير مفهومة حتى يومنا هذا.
لكن ماذا عن كل هؤلاء المشاهير الذين يزعمون امتلاكهم ذاكرة تصويرية؟
إن لم يكن هناك دليل على وجود ذاكرة تصويرية، لماذا يقتنع الكثيرون بأنهم يمتلكونها؟ هل كل الأمثلة الموجودة في السينما والتلفزيون مجرد خيال؟
غالبًا ما يكون عرض الذاكرة التصويرية في وسائل الإعلام أمرًا مبالغًا فيه، وقد يكون مضللًا في بعض الأحيان، إذ تُظهر الشخصيات ذات الذاكرة التصويرية قدرتها على تذكر كميات هائلة من المعلومات بدقة تامة، مثل قراءة صفحة مرة واحدة وتذكر كل كلمة إلى الأبد.
في الواقع، لا يوجد دليل علمي يدعم هذا المستوى من الاستدعاء الكامل والمفصل لدى البشر.
يوضح البروفيسور سيمونز أنه لحسن الحظ، من الممكن تحسين الذاكرة البصرية إلى مستوى جيد عبر تدريب الذاكرة وتعزيز القدرة على تذكر المعلومات المرئية بشكل أوضح وأدق، بالممارسة المتعمدة واستخدام تقنيات محددة.
مثلًا، طريقة تقنية المواضع، أو قصر الذاكرة، هي استراتيجية مساعدة على التذكر تتضمن وضع المعلومات التي نريد تذكرها في موقع مألوف لنا -موقع مادي تخيلي- مثل الغرف في المنزل.
أظهرت الدراسات أن التدريب على هذه التقنية بضعة أسابيع يعزز الذاكرة التصويرية بشكل كبير.
لماذا يمتلك بعض الناس قدرة على التذكر أفضل من غيرهم؟
قد لا يكون لدى البعض ذاكرة تصويرية، ولكن قد توجد لدى شخص موهبة في استدعاء المعلومات.
لدى بعض البالغين ما يسمى بذاكرة السيرة الذاتية الفائقة التي تسمح لهم بتذكر التجارب والأحداث الشخصية بتفصيل كبير. ومع ذلك، فإن هذا لا يعادل الذاكرة التصويرية الحقيقية لأنه لا يتضمن استرجاعًا مثاليًا للتفاصيل المرئية مثل الصور أو النصوص، بل يتضمن استدعاء لأحداث الحياة.
يمتلك بعض الناس أيضًا ذاكرة ممتازة لأنواع معينة من المعلومات مثل الأرقام، وقد يكون هذا بسبب حسن استخدامهم لتقنيات الحفظ.
لما كانت الذاكرة التصويرية لا تمتلك أي دليل علمي لوجودها، فإن فهم الأساس العصبي لقدرات الذاكرة الاستثنائية ربما يوفر نظرة ثاقبة عن سبب قدرة بعض الأفراد على تذكر المعلومات بتفاصيل رائعة.
مثلًا، توجد منطقة في منتصف الدماغ تعرف باسم الحصين، تعد مركزًا بالغ الأهمية لتخزين الذكريات الحديثة واسترجاعها، خاصةً الذكريات المكانية والعرضية.
قد تكون منطقة الحصين ذات بنية تشريحية مميزة أو نشطة للغاية عند الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات استثنائية على التذكر، ما يسمح لهم بتشكيل ذكريات أقوى وأكثر تفصيل.
المثال التقليدي على ذلك هو سائقو سيارات الأجرة في لندن، إذ تعرف شوارع عاصمة المملكة المتحدة بأنها أشبه بالمتاهة، ويجب على سائقي سيارات الأجرة السوداء الشهيرة أن يكونوا قادرين على التنقل عبر هذه الفوضى بثقة.
للقيام بذلك يجب اجتياز اختبار يسمى اختبار المعرفة، الذي عادة ما يستغرق نحو ثلاث إلى أربع سنوات.
بعدها يصبحون قادرين على بدء حياتهم المهنية كسائقي سيارات أجرة، وأظهرت الدراسات أن السائقين الناجحين قد أعيدت هيكلة أدمغتهم حرفيًا. وفقًا لسيمونز، تبين أن سائقي سيارات الأجرة في لندن لديهم منطقة حصين أكبر مقارنةً بالأشخاص العاديين.
يجري الباحثون حاليًا دراسة بحثية لمعرفة المزيد عن الأساس المعرفي والدماغي لقدرات الذاكرة الاستثنائية، لفهم ما إذا كان الأشخاص أصحاب الذاكرة الفائقة يستخدمون إستراتيجيات معينة لتحقيق مآثرهم الرائعة في التذكر، وما إذا كانت أدمغتهم تظهر اختلافات في هيكلتها أو كيفية عملها.
هناك العديد من الدراسات المثيرة الأخرى حول الذاكرة وكيفية عملها في الدماغ، مع ما يترتب على ذلك من عواقب مهمة وارتباطها مع قضايا صحية كبرى مثل مرض ألزهايمر.
خلاصة القول، ما تزال دراسة الذاكرة واحدة من أكثر الدراسات الرائعة في علم الأعصاب. قد لا تكون الذاكرة التصويرية حقيقية، ولكن ما زال هناك الكثير لاكتشافه.
اقرأ أيضًا:
تدريب للذاكرة قد يُقلل من حدة أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة!
كيف يمكن تحسين مشكلات الذاكرة قصيرة المدى باستخدام بالليزر؟
ترجمة: تيماء القلعاني
تدقيق: نور حمود