تتمتع الصين بأسرع نمو اقتصادي في العالم منذ بداية الثمانينات وحتى يومنا هذا. يعود الفضل الأول في النمو السريع إلى نظام البلاد العملي الذي يحفز الابتكار من جهة ويوافق بين توجيهات الحكومة ورؤية رجال الأعمال الموجودين في السوق من جهة أخرى. في الوقت الحالي، يخضع هذا النظام لتغييرات قد تكون لها آثار عميقة في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.

تسعى الحكومة الصينية إلى تحسين عمليات البحث والتطوير وبناء منشآت التصنيع الذكية للوصول إلى اقتصاد رقمي أكثر حداثة، إلا أن التوترات المتزايدة بين الصين والغرب تؤدي إلى الحد من التعاون الدولي في مختلف الصناعات مثل صناعات أنصاف النواقل الإلكترونية والمستحضرات الطبية الحيوية، دون إغفال الآثار المدمرة لجائحة كورونا، لا سيما بعد قرارات الإغلاق التام والالتزام بالحجر الصحي على نطاق واسع في الصين، والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى فصل نظام الابتكار الصناعي الصيني عن بقية العالم.

الموازنة بين الإجراءات الحكومية ومتطلبات السوق

بدأت ثورة الابتكار الصينية الحالية بالازدهار في أثناء الإصلاحات الاقتصادية في أواخر السبعينيات، حينما خُفف دور ملكية الدولة والتخطيط المركزي واستُعيض عنها بتوفير مساحات أكبر لرواد الأعمال في السوق بهدف تجربة أفكار جديدة والتعلم من الأخطاء السابقة.

تقر الحكومة عادةً أنظمة ولوائح تتماشى مع أهداف الدولة، تتضمن بعض البنود الموجهة للمستثمرين ورواد الأعمال، متمثلةً باستثماراتها وسياساتها في السوق. عندئذٍ يبحث المستثمرون عمومًا عما يناسبهم من الفرص المتاحة ضمن استثمارات الحكومة بما يحقق مصالحهم الشخصية أيضًا.

قد تؤدي قرارات الحكومة ولوائحها إلى تقييد حرية عالم المال والأعمال في البلاد، إذ رأينا في العام الماضي أن الحكومة كانت قد اتخذت إجراءات صارمة فيما يتعلق بقطاعي التكنولوجيا المالية وندوات التعليم الخاصة بسبب عدم توافقهما مع أهداف الحكومة.

التركيز على الجودة إلى جانب الكمية

تحقق الصين نتائج جيدة في العديد من مقاييس جودة الابتكار، منها مقياس نفقات البحث والتطوير وعدد الأبحاث العلمية والتكنولوجية المنشورة وعدد خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات وعدد براءات الاختراع المسجلة وتصنيف الجامعات المتقدم.

تقيس معظم المؤشرات السابقة الكمية دون النظر إلى الجودة، فمثلًا:

  •  نشرت الصين عددًا هائلًا من الأبحاث العليمة والتكنولوجية، لكن عادةً ما يُستشهد بالأبحاث المنشورة في الولايات المتحدة عوضًا عنها، ما يؤكد أهمية قيمة البحث وجودته.
  •  أنفقت الصين كثيرًا في البحث والتطوير. مع ذلك، ما تزال نسبة إنفاقها في مجالات البحث والتطوير التي تخص الأبحاث الأساسية أقل بكثير مما هي عليه في البلدان الصناعية الأخرى.
  •  خرّجت الصين العديد من طلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، أكثر من أي دولة أخرى في العقود الأخيرة، لكنهم ما يزالون غير حاضرين ضمن قوائم المواهب العليا في المجالات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي وصناعات أنصاف النواقل الإلكترونية.
  •  تعد الصين أكثر البلدان طلبًا لتسجيل براءات الاختراع، إلا أن جودة هذه البراءات التي تقاس بتأثيرها العلمي والتجاري لا ترقى لجودة براءات الاختراع الصادرة عن منافسي الصين الدوليين.

لا شك أن الجمع بين الجودة والكمية سيمنح الصين نقطة فارقة في طموحاتها الابتكارية.

اعتمدت سياسة الصين سابقًا على تقليد التقنيات المعروفة والمنتشرة في كل مكان، لكن عليها الآن تحويل تركيزها إلى تطوير تقنيات جديدة غير معروفة، ما سيتطلب منها تغيير سياساتها البحثية والسعي في طريق الأبحاث الرئيسية طويلة المدى.

تطوير الصناعات الذكية

تتميز الشركات الصينية بقدرتها على تحويل التصميمات المعقدة إلى منتجات عالية الدقة بسرعة وتكلفة لا مثيل لهما، ما جعلها تجذب شركات التكنولوجيا الفائقة للتعاون معها مثل آبل وتسلا.

تتمثل خطوة الصين التالية في الترقية لمستوى الثورة الصناعية الرابعة المعنية بالصناعات الذكية، جنبًا إلى جنب مع الصناعات الأساسية المدرجة ضمن مخطط (صنع في الصين) الحكومي لعام 2025.

بحلول عام 2020، انتهت الصين من بناء أحد عشر «مصنع منارة»، تتبع هذه المصانع الثورة الصناعية الرابعة التي تُعنى بالصناعات الذكية، لتتفوق الصين على أي بلد آخر في شبكة مصانع المنارات العالمية التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي.

تأسيس اقتصاد رقمي متقدم

لجأت شركات التكنولوجيا العملاقة في الصين مثل علي بابا وتنسنت وهواوي إلى التعلم الآلي وتحليل البيانات بهدف الابتكار في مجالات أخرى، بما في ذلك الأبحاث الصيدلانية الحيوية ومركبات القيادة الذاتية.

مؤخرًا، خُففت القيود المفروضة في اللوائح التنظيمية التي تستهدف قطاعات التكنولوجيا الحيوية والهندسة الحيوية والمستحضرات الصيدلانية الحيوية نسبيًا، ما أدى إلى جذب الباحثين والمستثمرين وتشجيعهم على توسيع نشاطاتهم في مجالات التكنولوجيا الحيوية الرائدة.

يبلغ تعداد سكان الصين نحو 1.4 مليار نسمة، أي أنه حتى فيما يتعلق بالأمراض النادرة، توجد في الصين أعداد لا بأس بها من المرضى المصابين بها، ما يوفر قاعدة بيانات ضخمة بإمكان الشركات الاستفادة منها في سبيل تحقيق التقدم في الطب الدقيق، مثل علاجات مخصصة للفرد بحسب جيناته وبيئته ونمط حياته.

أدت القوة المتزايدة لشركات التكنولوجيا العملاقة في الصين إلى تدخل الحكومة للحفاظ على المنافسة العادلة في السوق، عبر لوائح تجبر الشركات الرقمية على مشاركة بيانات مستخدميها ودعم الخدمات التي توفرها منصاتها المهمة، مثل خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول.

التعاون الدولي هو الحل

أثبتت النجاحات الأخيرة للقاحات كوفيد-19 أهمية وقيمة التعاون العالمي في البحث والتطوير، مع إمكانية أن يكون هذا التعاون بين الصين والغرب قد أُبرم تحت التهديد حسب بعض التقارير.

تعد صناعة أنصاف النواقل المسؤولة عن تصنيع الرقائق والدوائر المشغلة للأجهزة الإلكترونية الحديثة صناعة قائمة على التعاون العالمي حاليًا، لكنها معرضة لخطر انهيار التعاون في أي لحظة.

يتطلب صنع الرقائق الإلكترونية قدرًا هائلًا من المعرفة والاستثمار الرأسمالي. تعد الصين أكبر مستهلك لأنصاف النواقل في العالم، ما يجعلها تعتمد على الواردات بكثرة، لكن العقوبات الأمريكية منعت العديد من الشركات المصنعة لأنصاف النواقل من بيع منتجاتها للصين، فأجبر هذا الإجراء الصين على استثمار مبالغ طائلة في محاولة منها لتصنيع جميع أنصاف النواقل التي تحتاجها. إذا نجحت الصين في ذلك، فقد تستخدم في تصنيعها على الأرجح معايير تقنية مختلفة عن المعايير العالمية الحالية المتبعة في تصنيع أنصاف النواقل.

اختلاف المعايير

قد يبدو اختلاف المعايير الفنية مشكلة ثانوية، لكنه سيعقّد التعاون والعمل بين تقنيي ومنتجي الصين ونظرائهم الغربيين، وهذا بدوره سيضعف التجارة والاستثمار العالميين، ما سيعود على المستهلكين بآثار سلبية.

سيؤدي اختلاف المعايير إلى اتساع الهوة بين الصين والغرب في مجال الابتكار الرقمي، ومن المرجح أن تمتد آثاره السلبية لتشمل قطاعات أخرى مثل التمويل والتجارة وقواعد البيانات. عليه، وبما أن التوترات الدولية مستمرة بالتصاعد، يتعين على كل من الصين والغرب أن يعوا أهمية التعاون الدولي في مجال الابتكار وغيره.

اقرأ أيضًا:

كيف تدير الصين معروضها النقدي؟

ما المقصود بمصطلح القوة الاقتصادية للدول؟

ترجمة: ذوالفقار مقديد

تدقيق: أسعد الأسعد

مراجعة: نغم رابي

المصدر