الجينز هو قطعة ملابس أمريكية بامتياز، وله أصول غير متوقعة، قبل قرنين من ولادة ليفي شتراوس. من الصعب أن نتخيل أي شيء أمريكي أكثر أصالة من زوج من الجينز الأزرق البالي. روجت الولايات المتحدة الأميركية للسراويل الخشنة، إلا أن تاريخها يعود إلى ما قبل تأسيس البلاد، وإلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.

نشأة الدنيم في أوروبا:

تبدأ قصة أصل الجينز الأزرق في فرنسا، في معظم الروايات التاريخية، وتحديدًا في مدينة نيم الجنوبية، في القرن السابع عشر أو قبل ذلك. إذ تقول الأسطورة، طور النساجون شكلًا متينًا من القماش يُعرف باسم سيرج دي نيم. كما يقال أن كلمة الدنيم مشتقة من كلمة de Nîmes.

ولكن القصة صارت متشابكة هنا بعض الشيئ، لأن قماش سيرج دو نيم حيك من الصوف والحرير، في حين يُحاك الدنيم الذي نعرفه اليوم من القطن بالكامل.

كتبت مؤرخة الموضة والمسؤولة عن المعرض إيما ماكليندون في كتابها (الدنيم: حدود الموضة -2016): «تشير الأبحاث الحالية أن الدنيم قد يكون في الأصل قماشًا انكليزيًا، ولكن أُطلق عليه اسم فرنسي لمنحه هيبة».

يشير ماكليندون إلى أن ذلك قد يكون منطقيًا، نظرًا إلى التطورات التكنولوجية في صناعة الغزل القطني في إنجلترا آنذاك، وكذلك الكميات الكبيرة من القطن والأنديجو المتاحة للبلاد من مستعمراتها في الهند وأمريكا. الأنديجو –النيلة- هي صبغة طبيعية تُستخرج من النباتات، تعطي الملابس الجينز لونها الأزرق.

أينما كانت بداية القماش، فقد وصل إلى المستعمرات الأمريكية قبل الثورة الأمريكية بسنوات طويلة. فقد ظهرت العبارة سروال من قماش الدنيم في صحيفة فيلادلفيا عام 1723، لوصف ملابس أحد العمال الهاربين من سفينة. أما ليفي شتراوس، المهاجر البافاري الذي يُنسب إليه أحيانًا انتشار سروال الدنيم في أمريكا، فلم يولد حتى عام 1829.

أدخل ليفي شتراوس المسامير:

يعود الفضل في انتشار الجينز الأزرق المعروف اليوم إلى شتراوس، إذ يعلنه موقع شركة (ليفي شتراوس أند كو) مخترع الزي الأميركي المميز.

وصل شتراوس إلى الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر لينضم إلى اثنين من إخوته في شركة تجارة جملة للبضائع الجافة مقرها نيويورك. آنذاك، كان مصطلح البضائع الجافة يشير إلى مجموعة واسعة من السلع، لكنه كان يشمل الأقمشة خصوصًا، التي كانت أحد التخصصات الرئيسية للإخوة. عام 1853، غادر شتراوس بالقارب إلى سان فرانسيسكو، آملًا الاستفادة من حمى الذهب في كاليفورنيا التي بدأت قبل أربع سنوات، بإنشاء فرع لعمل العائلة هناك.

مضت 20 عامًا أخرى قبل اختراع بنطاله الجينز الشهير، لم يكن شتراوس هو المخترع الوحيد. نصف الشرف في هذا الاختراع يعود إلى جاكوب ديفيس، خياط من رينو في نيفادا، كان قد اكتشف أنه قد تكون السراويل العملية أمتن بإضافة دبابيس معدنية في أماكن محددة.

تقدم الرجلان بطلب براءة اختراع عام 1872 في الولايات المتحدة لـتحسين إغلاق جيوب البنطلون، ومُنحا إياها عام 1873.

كتب داوني أن شتراوس بدأ إنتاج الجينز تجاريًا، وتولى ديفيس منصب مدير المصنع. عام 1906، أي بعد عامين من وفاة شتراوس، وعامين قبل وفاة ديفيس، تنازل الأخير عن حقوقه في براءة الاختراع الشهيرة لشركة ليڤي شتراوس آند كو، الشركة التي استمرت بعد رحيلهما وظلت قائمة حتى يومنا هذا.

ازدياد شعبية الجينز بفضل هوليود:

بقيت سراويل الجينز تُباع باستمرار خلال أوائل القرن العشرين، لكنها ظلت تُعد ملابس عمل، وليس اللباس متعدد الأغراض الذي صار لاحقًا. وفقًا للمؤرخة كارولين بورنيل، مؤلفة كتاب الجينز الأزرق الصادر عام 2023.

بدأ هذا التغيير مع الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين. وقالت كارولين بورنيل: «قبل الكساد، كان الجينز الأزرق ملابس الطبقة العاملة. لكن شركات قماش الجينز أدركت بسرعة أن العمال والمزارعين الذين يكافحون لتوفير الطعام لأسرهم لم يكونوا من العملاء المحتملين لشراء جينز جديد. لذلك حولت اهتمامها إلى الأمريكيين المنتمين إلى الطبقة الوسطى».

تلاحظ بورنيل أن هذه الاستراتيجية التسويقية تلقت دعمًا من شعبية أفلام الويسترن في هوليوود، التي ظهر فيها الأبطال راكبو الخيل غالبًا مرتدين الجينز، مع أن الرعاة الحقيقيين كانوا يفضلون عادةً بنطلونات أخف وأكثر راحة. ضاعفت شركات صناعة الجينز سوقها المحتمل بإدخال تصاميم مخصصة للنساء، مثل ليدي ليفيس التي أطلقتها شركة ليفي شتراوس عام 1934.

حاز الجينز شهرة أكبر عندما جعله نجوم السينما لاحقًا مثل مارلون براندو وجيمس دين رمزًا للتمرد الشبابي في أفلام الخمسينيات. من ناحية أخرى، أدت هذه الصورة العفوية إلى رد فعل عكسي ضد الجينز، غالبًا ما كان يُفرض خلال قواعد اللباس. تقول برونيل: «في حين اعتاد الشباب ارتداء الجينز في كل مكان، فإن الآباء المتمسكين بالتقاليد رأوا أن ارتداءه غير مناسب في الأماكن الرسمية مثل المدرسة أو العمل».

الجينز المصمم وجمعة اللباس غير الرسمي:

في النهاية، تخلى كثير من الآباء عن محاولة التحكم في اختيارات أبنائهم للملابس، بل بدؤوا هم أنفسهم ارتداء الجينز، على الأقل في العطلات. في سبعينيات القرن العشرين، عرض مصمما الأزياء كالفين كلاين وغلوريا فاندربيلت وآخرون الجينز على منصات عروض الأزياء، ما منح هذه القطعة -التي كانت ذات طابع عملي بحت- بريقًا في عالم الموضة، مع أسعار مناسبة. عام 1980، زاد كالفين كلاين من جاذبية الجينز الأزرق عندما قدم بشكل مثير للجدل الممثلة والعارضة بروك شيلدز البالغة من العمر 15 عامًا في إعلان تلفزيوني جريء.

ظل مكان العمل في الوظائف المكتبية مغلقًا إلى حد بعيد أمام ارتداء الجينز. تقول بورنيل: لم يبدأ التغيير في هذا المجال قبل التسعينيات، مع ظهور فكرة جمعة اللباس غير الرسمي وسيلةً لرفع معنويات الموظفين دون زيادة رواتبهم.

في الوقت نفسه، أصبح الجينز ظاهرة عالمية ورمزًا للنفوذ الثقافي الأمريكي سواء للخير أم للشر. تُقدر قيمة سوق الجينز عالميًا اليوم بـ 75 مليار دولار.

اقرأ أيضًا:

بين الماضي والحاضر: كيف غيّرت الابتكارات عالم الإطفاء؟

اكتشاف خندق ماريانا : بعثة إلى أعمق نقطة في محيطات الأرض!

ترجمة: أميمة الهلو

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر