عبر معظم التاريخ الحديث، سبقت العقوبات الاقتصادية الحرب أو رافقتها، وغالبًا كانت على شكل حصار بحري يهدف إلى إضعاف العدو. عندما حث الذعر من الحرب العالمية الأولى الرئيس وودرو ويلسون للدعوة إلى بديل للنزاع المسلح، اتُخِذت حينها العقوبات الاقتصادية بجدية، إذ ادعى ويلسون بأنه يمكن للعقوبات أن تكون سلاحًا فتاكًا وأداة دبلوماسية شديدة التأثير. ثم أضيفت العقوبات فيما بعد بوصفها أداة تنفيذ في كل من نظامي الأمان المشترك الذي تأسس في هذا القرن: عصبة الأمم بين الحربين العالميتين، والأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

كثيرًا ما سمح مجلس الأمن الدولي بالعقوبات لقمع الحروب الأهلية والصراعات الوطنية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وخصوصًا في أفريقيا ويوغسلافيا، ولكن بلغ أعلى مستوى للعقوبات في الأمم المتحدة ضد العراق في الفترة 1990-2003، المرحلة اللاحقة لحرب الخليج عام 1991. إضافةً إلى عقوبات الأمم المتحدة، تستمر القوى الكبرى -الولايات المتحدة في المقام الأول- بفرض عقوبات اقتصادية أحادية الجانب.

استهدفت العقوبات الموجهة منذ عام 1990 الزعماء السياسيين ورؤساء عصابات المخدرات والإرهابيين، واستخدمت بنحو متكرر في محاولة لتفادي التداعيات الإنسانية الناتجة من العقوبات واسعة النطاق.

الغرض من العقوبات الاقتصادية:

يشمل مصطلح «العقوبات الاقتصادية» الانسحاب المتعمد للحكومات أو التهديد بالانسحاب من التجارة المألوفة أو العلاقات المالية، أي مستويات التجارة أو النشاط المالي الذي يحدث طبيعيًا في غياب العقوبات. سنناقش في هذا المقال استخدام العقوبات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية، أي باستثناء قضايا استخدام العقوبات الاقتصادية لتحقيق أهداف تجارية، مثل الانسحاب من الحماية الجمركية.

تتوازى الدوافع خلف استخدام العقوبات مع الأغراض السياسية الثلاثة للقانون الجنائي الوطني: المعاقبة والردع وإعادة التأهيل.

تفرض الدول الكبرى -إلى جانب التحالفات العاجلة- العقوبات لتحقيق تغيير في الأهداف السياسية الخارجية، حتى عندما يكون احتمال التغيير في سياسة الدولة المستهدفة ضئيلًا. إضافةً إلى إظهار القوة والتلميح بالاستياء للاعتداء الفوري، قد يريد السياسيون أيضًا استهداف جماهير الناخبين المحليين. مثلًا، العقوبات الأمريكية والأوروبية والبريطانية ضد جنوب إفريقيا في الفترة 1991-1985، والعقوبات الأمريكية والأوروبية واليابانية ضد بورما منذ 1988، التي شكلت أساسًا لتهدئة جماهير الناخبين المحليين، لإصدار بيانات أخلاقية وتاريخية، ولإرسال تحذير للجناة المستقبليين.

التأثير في هدف محدد للدولة هو أمر ثانوي غالبًا، كان للعقوبات دور واضح في إنهاء التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، مع أن الظروف الاقتصادية والسياسية داخل جنوب أفريقيا كانت العامل الأهم. لم تدفع العقوبات الحزب الوطني مباشرةً إلى التخلي عن التفرقة العنصرية، لكن كان لا بد من إنهاء هذه السياسة بسبب التكاليف المتزايدة للفصل العنصري.

يقرر قادة العالم غالبًا أن البدائل الواضحة للعقوبات الاقتصادية غير مرضية، يمكن للعمل العسكري أن يكون جسيمًا جدًا، وأن يكون الاحتجاج الدبلوماسي محدود التأثير جدًا. تقدم العقوبات «عرضًا» ممتعًا، وتجنب التكاليف العالية للحرب. ليست العقوبات قليلة التكلفة، لكنها أقل تكلفة من البدائل الأخرى.

العقوبات الاقتصادية قبل 1990:

فرضت عصبة الأمم أو هددت بفرض عقوبات اقتصادية أربع مرات فقط في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وقد نجحت مرتين، وتلاشى وجود العصبة تاريخيًا عندما فشلت استجابتها غير الفعالة في قمع غزو موسوليني لإثيوبيا عام 1935.

بتحررها من قيود التنافس الهائل، لعبت الأمم المتحدة دورًا أكبر بكثير في الشؤون الدولية في التسعينيات. يوضح النشاط الجديد للأمم المتحدة حقيقة أن مجلس الأمن فرض عقوبات إجبارية 13 مرة، ردًا على النزاعات الأهلية والعدوان الإقليمي أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مقارنةً بمرتين فقط -ضد جنوب إفريقيا وروديسيا- في العقود السابقة. في كثير من الحالات، لم تكن التهديدات الجديدة تثير قلق الدول العظمى، وفُرض حظر الأسلحة بنحو ضعيف.

تمتعت عقوبات الأمم المتحدة بنجاح محدود. باستثناء العقوبات التي فُرضت ضد ليبيا ردًا على الهجوم الإرهابي عام 1988، والعقوبات ضد يوغسلافيا خلال حرب البوسنة، فشلت عقوبات الأمم المتحدة في تحقيق أهدافها. في واقع الأمر، خلقت العقوبات ضد النظام العراقي لعقود طويلة رد فعل سياسيًا كبيرًا.

أنواع العقوبات:

تحاول الدولة المطبقة للعقوبة إلحاق الضرر بهدفها المنشود بطريقتين أساسيتين:

  1.  العقوبات التجارية، التي تحد من قدرة الدولة المستهدفة على الاستيراد أو التصدير.
  2.  العقوبات المالية التي تعيق التمويل، متضمنةً تقليل المساعدات. تفرض الحكومات قيودًا على صادرات الدولة المستهدفة لتقليل مبيعاتها الأجنبية وحرمانها من التداولات الأجنبية. أو تفرض الحكومات قيودًا على صادراتها لحرمان البلد المستهدف من البضائع المهمة.

إذا كانت صادرات الدولة المصدرة تستحوذ على نسبة عالية من الناتج العالمي، فهذا يجعل الهدف يرفع الأسعار لتعويض الواردات، وذلك إذا كانت الدولة المرسلة –المطبقة للعقوبة- أيضًا قد قلصت ناتجها الإجمالي. عندما تفرض الحكومات عقوبات مالية بواسطة مقاطعة التمويل التجاري أو التخفيض الهائل للقروض لحكومة الدولة المستهدفة، فإن ذلك يجعل الدولة المستهدفة تدفع نسب فائدة أعلى، ويخيف الدائنين البديلين.

عندما تكون الدولة المستهدفة فقيرة، فبوسع الحكومة التي تفرض العقوبات استغلال عنصر الدعم المالي من التمويل الرسمي أو أي مساعدة إنمائية لكسب المزيد من السطوة.

أكثر عمليات الحصار التجارية نادرة. معظم العقوبات التجارية منتقاة، لتؤثر فقط في سلعة واحدة أو بضع سلع. لهذا، قد يكون تأثير العقوبات على الاقتصاد الرئيسي محدودًا نوعًا ما. غالبًا ما تكون العقوبات أحادية الجانب، لذا قد يجري تحويلها فقط عوضًا عن إنهائها. سواء كانت أسعار الاستيراد أو التصدير من الدولة المستهدفة تزداد أو تنقص بعد العقوبات المطبقة اعتمادًا على السوق المعني.

قد تكون التأثيرات في الأسعار معتدلة جدًا مع وجود العديد من الأسواق البديلة والموردين، ويكون تأثير العقوبات الاقتصادية ضئيلًا.

مثلًا، أوقفت أستراليا شحنات اليورانيوم إلى فرنسا في الفترة 1983 – 1986، لرفض فرنسا وقف اختبار الأسلحة النووية في جنوب المحيط الهادي عام 1984.

انخفض سعر أكسيد اليورانيوم نحو 50%. واستطاعت فرنسا تعويض نقص الإمدادات، وبسعر أقل من العقد الأسترالي، لأن أستراليا لم تستطع العثور على مشتر بديل. دفعت الحكومة الأسترالية 26 مليون دولار لمناجم كوينزلاند عامي 1985 و1986 مقابل اليورانيوم التي جرى التعاقد لبيعه إلى فرنسا.

يعد التهرب من العقوبات المالية أصعب، إذ تهدف العقوبات عمومًا إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وربما يصعب إيجاد بديل مالي، ومن المرجح أن يترافق بسعر فائدة أعلى. تخشى المصارف والمستثمرون من احتمالية مواجهة الدولة المستهدفة ضغوطًا ائتمانية في المستقبل. تشمل العديد من العقوبات تعطيل أو إلغاء الدعم الحكومي للدول الفقيرة -منح مالية كبيرة أو قروض ميسرة من حكومة إلى أخرى- ما لا يمكن تعويضه.

اختلاف آخر مهم بين العقوبات التجارية والعقوبات المالية يكمن في الأطراف المتضررة. عادة ما ينتشر الضرر من العقوبات التجارية، خصوصًا ضوابط التصدير بين سكان الدولة المستهدفة. قد تستفيد النخب السياسية في الدولة المستهدفة من العقوبات التجارية بواسطة التحكم في الأسواق السوداء المربحة.

من المحتمل أن تضرب العقوبات المالية المشاريع المفضلة أو الموظفين الحكوميين الذين يسنون السياسة المحلية. من جانب الدولة المطبقة للعقوبة، لا يمكن لإعاقة المساعدات الرسمية أو الدين خلق رد الفعل السياسي نفسه من الشركات التجارية المحلية والحلفاء الأجانب، مثل مقاطعة التجارة الخاصة.

يمكن للعقوبات المالية -خصوصًا المتضمنة للتجارة المالية- أن تتعطل حتى دون فرض عقوبات تجارية صريحة. عادةً ما تُستخدم العقوبات المالية والتجارية عمليًا ضمن حزمة من عناصر أخرى.

الشكل الأساسي للرقابة المالية والتجارية هو تجميد أصول الدول الأجنبية المستهدفة، مثل الحسابات البنكية الموجودة في البلد المرسل (المطبق للعقوبة). إضافةً إلى فرض تكلفة على البلد المستهدفة، فالهدف الرئيسي من تجميد الأصول هو منع الدولة الغازية من الحصول على مكاسب العدوان. مثلًا، في أزمة الشرق الأوسط عام 1990، جمدت حكومة الولايات المتحدة وحلفاؤها أصول الكويت وممتلكاتها لمنع صدام حسين من سلبها.

استُخدمت إجراءات مماثلة أيضًا ضد اليابان إبان الحرب العالمية الثانية. نتيجةً لتزايد القلق من العدوان العسكري لليابان في جنوب شرق آسيا، وضعت الولايات المتحدة تدريجيًا العقوبات الاقتصادية المفروضة على اليابان عامي 1940 و1941. تلا ذلك حظر تام لتصدير خردة الحديد والفولاذ، ثم تجميد الأصول اليابانية وتشديد متطلبات الترخيص، ما أنهى التجارة مع اليابان فعليًا، متضمنةً صادرات النفط.

لم تتخل اليابان عن سياستها التوسعية رغم التكاليف الكبيرة على اقتصادها، بل كثفت نشاطها العسكري في المحيط الهادي. ثم حدث الهجوم على ميناء بيرل هاربور في ديسمبر 1941. لم تردع العقوبات الاقتصادية اليابان، إلا إنهم حُرموا المصادر الحيوية لعدو محتمل.

تأثير العقوبات:

عادة ما تضع الدول المرسلة أهدافًا متعددة وغايات في الحسبان عندما يفرضون العقوبات. يتطلب تقييم تأثير العقوبات تصنيف الأهداف المرجوة المختلفة، وتحليل: هل نوع ونطاق العقوبة المختار ملائم للحالة المنشودة؟ وتحديد التأثيرات الاقتصادية والسياسية في الدولة المستهدفة.

إذا تبنت الدولة التي تفرض عقوبات أهدافًا متناقضة، تكون العقوبات عادةً ضعيفة وغير فعالة في نهاية الأمر. في مثل هذه الحالات، لن تبذل الدول أو المجموعة المطبقة للعقوبات جهودًا كبيرة للتأثير في الدولة المستهدفة، ويُعد ذلك إخفاقًا سياسيًا، وليس إخفاقًا ناتجًا من العقوبات بحد ذاتها.

مثلًا، بدأت إدارة ريغان ثم بوش العقوبات الاقتصادية ضد بنما عام 1987 سعيًا لزعزعة نظام نوريجا، ففرضوا عقوبات بنحو متزايد، أضعفوها تدريجيًا بالإعفاءات، لتلافي تدمير حلفائهم السياسيين في قطاعي الأعمال والتجارة في بنما. في آخر الأمر، أثبتت العقوبات عدم ملاءمتها، وغزت الولايات المتحدة بنما، وعزلت نوريجا بالقوة.

فرضت العقوبات أساسًا في كثير من الحالات لأغراض الإنذار، لمصلحة الحلفاء وأطراف أخرى وللجمهور المحلي، إذ لا تُستقبل التحذيرات المرجوة دائمًا.

قد تتأثر العقوبات بفعل تنافر أصوات المحتجين من الأحزاب المحلية المتضررة، ما قد يقود إلى تغيير مبكّر للسياسة. مثلًا، تعالت احتجاجات المزارعين الأمريكيين على حظر جيمي كارتر تصدير الحبوب إلى الاتحاد السوفييتي عقب الغزو السوفييتي لأفغانستان. ووعد المرشح رونالد ريغان برفع الحظر حال انتخابه، وهو ما حدث بالفعل بعد ثلاثة أشهر.

قد تثمر جهود توسيع العقوبات خارج الحدود الإقليمية آثارًا مماثلة في الخارج. أثارت العقوبات خارج الحدود الإقليمية ضد كوبا (عقوبات هيلمز-بورتون) استياءً عارمًا في أوروبا وكندا، وجرى التخلص منها لاحقًا في عهد كلينتون وجورج دبليو بوش. يجب أن تصاغ العقوبات المفروضة لأغراض محددة بعناية إذا هدفت لنقل تحذير مقصود.

سن العقوبات بهدف تغيير حكومة الدولة المستهدفة أصعب. في مثل هذه الحالات، يجب فرض العقوبات بسرعة وشمولية قدر المستطاع. تعطي سياسة ممارسة الضغوط القادة المستهدفين وقتًا للتأقلم، بالعثور على موردين أو أسواق بديلة، وإيجاد تحالفات جديدة وحشد الرأي المحلي لدعم سياستهم.

تبنت بريطانيا سياسة بطيئة ومدروسة ردًا على تصريح إيان سميث الاستقلال من جانب واحد في روديسيا عام 1965. نتيجةً للبطء، تمكنت حكومة سميث من إيجاد بدائل للاستيراد، بالتهريب وتقنيات تحايل أخرى، وتمكن من منع الغالبية من السود الوصول للحكم أكثر من عقد.

بتقييم نحو 200 ملاحظة على العقوبات الاقتصادية المطبقة منذ الحرب العالمية الثانية، نجد أن العقوبات الاقتصادية تكون أكثر فاعلية في تحقيق أهدافها إذا تحققت الشروط التالية:

  1.  اعتدال الهدف: الفوز بتحرير سجين سياسي بدلًا من الإطاحة بنظام صدام حسين، مثلًا. يمكن تحقيق أهداف أقل طموحًا بواسطة عقوبات أكثر اعتدالًا، ويقلل هذا أيضًا أهمية التعاون متعدد الأطراف، الذي يصعب الحصول عليه غالبًا.
  2.  أن تكون الدولة المستهدفة أضعف من الدولة المرسلة، سياسيًا أو اقتصاديًا: كان متوسط اقتصاد الدولة المرسلة في دراسة شملت 198 حالة 245 ضعف متوسط اقتصاد الدولة المستهدفة.
  3.  فرض العقوبات بسرعة وحسم: في الحالات الناجحة كان متوسط التكلفة إلى الهدف نسبةً مئوية من الناتج القومي الإجمالي 2.6%، وفي الحالات الفاشلة –باستثناء العراق- 1.5%. استمرت العقوبات الناجحة 3 سنوات وسطيًا، مقابل 8 سنوات للعقوبات الفاشلة.
  4.  تتجنب الدولة المرسلة التكاليف الاقتصادية والسياسية الباهظة.

يتضح من التشريعات أن العقوبات الفعالة، بمعنى الإجبار على تغيير سياسة الدولة المستهدفة، قلما ينجح. كانت العقوبات الاقتصادية أدوات فعالة نسبيًا للسياسة الخارجية في العقدين بعد الحرب العالمية الثانية، إذ حققت أهدافها المرجوة في نصف الحالات تقريبًا، 27 نجاحًا من أصل 61 حالة.

في حالة العقوبات متعددة الأطراف، تعد زيادة أعمال الاعتماد الاقتصادي المتبادل سلاحًا ذا حدين. إنها تزيد القوة الكامنة للعقوبات الاقتصادية، لأن الدول أكثر اعتمادًا على التجارة العالمية والتدفقات المالية، لكنها تعني أيضًا مصادر أوسع للإمداد ووصولًا أكبر للأسواق، لذا تزداد احتمالية تمكن عدد أكبر من الدول المحايدة من تقويض الأثر الاقتصادي لمسعى العقوبات. منذ 1970، كانت أكثر من ثلث العقوبات متعددة الأطراف التي شاركت بها الولايات المتحدة ناجحة، 20 نجاحًا من أصل 35 حالة.

اقرأ أيضًا:

المنفعة الاقتصادية والأشكال المختلفة التي تتخذها

ما هو الاقتصاد و كيف يؤثر على حياتنا؟

ترجمة: يوسف حمد

تدقيق: حسين جرود

المصدر