في كتابه الجديد «عوالم لا حصر لها: الحياة في الكون»، يأخذنا البروفيسور سليم زاروبي، الفيزيائي والباحث المعروف في علم الكون، في رحلة فكرية وعلمية تمتد من الذرة إلى المجرة، ومن الأرض إلى احتمالات الحياة في الأكوان الأخرى. إنه كتاب لا يكتفي فقط بطرح الأسئلة الكبرى، بل يعيد صياغتها ضمن سياق علمي معاصر، ليجعلها في متناول القارئ غير المتخصص دون أن يفقد عمقها وتعقيدها العلمي.
الطرح العلمي: بين التبسيط والدقة
يتميز زاروبي بقدرته على التوازن بين التبسيط والدقة، وهي مهارة نادرة بين الكتّاب العلميين. فهو لا يختزل العلم إلى مجرد سرد معلومات، بل يعرض خلفياته وتطوراته والمفاهيم الأساسية التي تقوم عليه. في فصول الكتاب، نتنقل من تعريفات الحياة البيولوجية إلى بيئات الكواكب الخارجية، مرورًا بتفاعلات الكيمياء الحيوية المحتملة في عوالم بعيدة، كل ذلك ضمن إطار علمي مستند إلى أحدث ما توصلت إليه الأبحاث في الفيزياء الفلكية وعلم الأحياء الفلكي (Astrobiology).
لكن بعض القضايا، خاصةً تلك المرتبطة بفرضيات الحياة خارج الأرض، تعتمد على قدر كبير من الاستدلال غير المباشر. وفي هذا السياق، رغم حرص الكاتب على توضيح أن الحديث يدور حول احتمالات، قد يُغرى القارئ بالتفكير في تلك الفرضيات بوصفها حقائق، وهنا تكمن حدود التبسيط عندما لا يُرافقه دائمًا تذكير بنطاق عدم اليقين.
المنظور الفلسفي والإنساني: تأملات في الوجود
واحدة من أبرز نقاط القوة في الكتاب هي الطريقة التي يدمج بها زاروبي التفكير الفلسفي مع العلم. لا يكتفي بالسرد العلمي البارد، بل يطرح تساؤلات عن الغاية، المعنى، وموقع الإنسان في كون ربما لا يكون فيه مركزًا لشيء. هل نحن وحيدون؟ وإذا لم نكن كذلك، ماذا يعني ذلك لأدياننا، لفلسفاتنا، لهويتنا؟
هذه الطروحات تضع الكتاب في منطقة وسطى بين العلم والفلسفة، دون أن يدّعي امتلاك أجوبة نهائية. زاروبي لا يسقط في فخ «اليقين العلمي» الذي يحوّل التساؤلات الكبرى إلى مجرد فرضيات هندسية، بل يترك مساحة للدهشة، وهذا ما يجعل الكتاب إنسانيًا بقدر ما هو علمي.
البنية والأسلوب: جسر بين الثقافتين
من الناحية الشكلية، يعتمد زاروبي على أسلوب سردي بسيط ولغة علمية واضحة بالعربية، ما يشكل تحديًا في حد ذاته نظرًا لندرة المصادر العلمية الدقيقة والمبسطة باللغة العربية. وقد نجح إلى حد بعيد في خلق جسر بين «الثقافتين» –العلمية والإنسانية– على حد تعبير سي. بي. سنو، ما يجعل هذا الكتاب مساهمة ثقافية بالغة الأهمية في المشهد الفكري العربي.
مع ذلك، قد يلاحظ بعض القراء أن التكرار النسبي في بعض الفصول يبطئ من وتيرة السرد، خاصةً في الأقسام المتعلقة بتاريخ الاكتشافات العلمية. وكان من الممكن ضغط بعض الأجزاء لصالح تعميق مناقشات أخرى، مثل فكرة الذكاء الكوني، أو حدود الإدراك البشري في استكشاف العوالم الأخرى.
قيمة الكتاب وسياقه العربي
يأتي هذا الكتاب في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى نشر العلوم بلغة عربية مبسطة دون التضحية بالدقة. قليلون هم من يجيدون هذه المعادلة، وزاروبي هو أحدهم. من خلال كتابه، لا يقدّم فقط محتوى علميًا عالي الجودة، بل يُذكّر القارئ العربي بأننا –رغم التحديات– جزء من الحراك العلمي العالمي، وأن أسئلتنا الكبرى ليست أقل وجاهة من أسئلة أي حضارة أخرى.
كما أن صدور الكتاب عن دار الفارابي، وتقديمه في أمسية ثقافية وسط حضور أكاديمي وثقافي متنوع، يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية ربط البحث العلمي بالمجال العام والثقافة العربية الأوسع.
خاتمة: كتاب ضروري لزمن ضروري
عوالم لا حصر لها ليس فقط كتابًا عن الحياة في الكون، بل هو دعوة للتفكير في موقعنا من هذا الكون، علميًا وأخلاقيًا وفلسفيًا. إنه كتاب يوسّع أفق التساؤل ويقوّي حس الدهشة في زمن بدأت فيه «المعرفة السريعة» تقتل العمق.
يستحق هذا العمل أن يُدرّس في المدارس والجامعات، وأن يُناقش في حلقات الثقافة والفكر، لأنه يعيد للعلم بُعده الإنساني، وللإنسان مكانه المتواضع والمذهل في آنٍ واحد.
بقلم: د. خالد خليل