في ظل تصاعد التوترات التجارية، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام سياسات جمركية مثيرة للجدل. في خطوة يُفترض أن تُساهم في إنعاش الاقتصاد الأمريكي، أعلن ترامب عن سياسات جمركية جديدة على مجموعة من الدول، ومن ضمنها كندا والمكسيك. لكن، هل ستؤتي هذه السياسات ثمارها فعلًا؟

من الصعب متابعة جميع تصريحات ترامب بشأن السياسات الجمركية الصادرة من واشنطن. ففي الأول من فبراير، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على معظم السلع المستوردة من كندا والمكسيك، بالإضافة إلى رسوم إضافية بنسبة 10% على معظم السلع القادمة من الصين. وأجل فرض الرسوم الجمركية ضد كندا والمكسيك مدة شهر، عقب تقديم بعض الإيماءات الرمزية.

بعد أسبوع واحد، وقع ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألمنيوم. ومن المقرر أن تدخل هذه الرسوم حيز التنفيذ في 12 مارس، بعد أيام قليلة من فرض الرسوم الشاملة على كندا والمكسيك. وقد تعهد ترامب الآن بفرض رسوم جمركية (انتقامية) على الدول التي تستهدف المنتجات الأمريكية.

قد يبدو كل هذا مألوفًا. إذ فرض ترامب خلال رئاسته الأولى عام 2018 رسوما جمركية على واردات الصلب والألمنيوم. وتشير دراسات تناولت هذه السياسات الى أنها أدت إلى زيادة تكاليف المواد الخام وضعف قدرة الشركات الأمريكية على التنافس.

ومن الصحيح أيضًا أن الرسوم الجمركية التي فرضت خلال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في عامي 2018 و2019 لم تتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي أو الاقتصاد العالمي. ولكن الرسوم هذه المرة أكثر شمولًا وتطال عددًا أكبر من المنتجات والشركاء التجاريين الرئيسيين. وعلى عكس الرسوم السابقة على الصين التي فُرضت تدريجيًا، فإن القيود الحالية ستُفرض دفعة واحدة.

المبرر المشكوك فيه

برر ترامب فرض الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك بأنها إجراء لمواجهة التهديد الكبير الذي تطرحه الهجرة غير القانونية وتدفق المخدرات -ومن ضمنها الفنتانيل- عبر الحدود الأمريكية. وهو مبرر يثير العديد من التساؤلات.

فلا تعد مشكلة الفنتانيل ظاهرة جديدة، فهي موجودة أساسًا على الحدود الجنوبية. وفي عام 2024، صادرت الجمارك الأمريكية حوالي 19 كيلوغرام من الفنتانيل عند الحدود مع كندا، مقارنة بحوالي 9600 كيلوغرام عند الحدود المكسيكية. وينطبق الأمر ذاته على أعداد المهاجرين. لذا فإن فرض رسوم جمركية على كندا يبدو غير منطقي.

ويعد الدافع الأرجح لجميع السياسات الجمركية التي فرضها ترامب هو رغبته في حماية المنتجين المحليين من المنافسة الأجنبية. وغالبًا ما يشير ترامب ومستشاروه إلى الحاجة لتقليص العجز التجاري للولايات المتحدة مع بقية دول العالم.

معضلة في العولمة

تكمن المشكلة الأساسية في أن العالم اليوم، القائم على سلاسل التوريد العالمية، يتطلب استيراد العديد من المكونات. وغالبًا ما تعبر السلع الحدود عدة مرات قبل الوصول إلى المستهلكين في شكلها النهائي. ويعد مجمع الإنتاج الصناعي للسيارات بالقرب من ديترويت مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تعبر السيارات شبه الجاهزة الحدود الكندية الأمريكية مرارًا خلال مراحل التصنيع المختلفة.

من الصعب التنبؤ بتأثير السياسات الجمركية التي قد تفرضها الولايات المتحدة على هذا النوع من الإنتاج المنظم. ولكن من المحتمل أن تؤدي إلى إعادة تنظيم غير فعالة ومكلفة لعمليات الإنتاج. وإذا ما فرضت الرسوم الجمركية على كندا، فإن الشركات الكندية والأمريكية، بالإضافة إلى موظفيها، سيكونون من أبرز المتضررين.

صحيح أن جميع مجالات الإنتاج لن تتأثر بالقدر نفسه، لكن بالنسبة لكثير من المكونات المستوردة إلى الولايات المتحدة، فإن ارتفاع أسعارها سيؤدي إلى زيادة في تكاليف الإنتاج. وقد تترتب على ذلك آثار سلبية مثل الضغوط المالية على الشركات الأمريكية، أو تسريح العمال، أو ارتفاع أسعار السلع النهائية للمستهلكين.

تناقض اقتصادي

من المفارقات أن الرسوم الجمركية قد تقلل من قدرة الإنتاج الأمريكي على التنافس، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالمبيعات في الأسواق الثالثة. ستؤثر ضغوط التكاليف الناجمة عن المكونات الأكثر تكلفة على الشركات الأمريكية، ولكنها لن تؤثر على الشركات المنافسة في الصين أو أوروبا على الأقل حتى ترد تلك الشركات بحرب تجارية.

سبب آخر يقلل احتمال أن تعمل الأمور وفق منطق ترامب هو الارتفاع الأخير في سعر صرف الدولار. فقد ارتفع الدولار في الأشهر الأخيرة، خاصة عندما تحدث ترامب عن الرسوم الجمركية، إذ زاد أكثر من 5% مقابل اليورو منذ الانتخابات. هذه التحركات تضعف قدرة الشركات الأمريكية على التنافس في الأسواق العالمية.

لكن ترامب عبّر كثيرًا عن رغبته في ضعف الدولار، وبعد تأجيل تنفيذ الرسوم الجمركية، انخفضت قيمته.

ومع ذلك، فإن الشركات الأمريكية ليست مسرورة على الإطلاق. فقد انتقدت مجموعات مثل غرفة التجارة الأمريكية الرسوم المفروضة على كندا والمكسيك والصين. وقد وصفت صحيفة وول ستريت جورنال هذه الخطوة بأنها أغبى حرب تجارية في التاريخ.

آثار التضخم

يتمثل التأثير الأساسي للرسوم الجمركية في زيادة أسعار السلع المستوردة. وبارتفاع الأسعار، يقل حماس المستهلكين. إذ كانت مستويات الأسعار المرتفعة جزءًا أساسيًا من سبب فوز ترامب في انتخابات نوفمبر.

وإلى حد الساعة لا يُعد التأثير التضخمي للرسوم الجمركية المعلنة كارثيًا مع إن الآثار التضخمية للرسوم أمر مفروغ منه، بينما يخشى كثير من الاقتصاديين أن تؤدي إلى آلية زيادة توقعات التضخم. وقد يحدث ذلك، خاصة بالنظر إلى احتمالية رد فعل من الدول المتأثرة.

قبل أن يوقف ترامب الرسوم الجمركية، أعلن رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، عن فرض رسوم انتقامية بنسبة 25% على السلع الأمريكية بقيمة إجمالية تبلغ 107 مليارات دولار أمريكي، وتدرس كندا فرض قيود على صادرات المعادن الحيوية لصناعة التكنولوجيا الأمريكية.

من جانبها، أعلنت الصين عن فرض رسوم انتقامية وإجراءات ضد الشركات الأمريكية ومن ضمنها جوجل. وأصر الاتحاد الأوروبي على خطط الرد إذا نفذ ترامب الرسوم ضد الكتلة الأوروبية.

إذا ظهرت هذه الرسوم، قد تدفع توقعات التضخم المرتفعة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة. وفقًا لأبحاث حديثة، فإن زيادة تكلفة الائتمان هي سبب رئيسي لعدم رضا الشركات والمستهلكين الأمريكيين.

خفض العجز التجاري

إذا كانت الرسوم الجمركية لا تساعد المستهلكين وتضر بعدد كبير من المنتجين المحليين، ربما بوسعها على الأقل سد العجز التجاري الأمريكي؟ للأسف، فإنها تفشل في تحقيق ذلك أيضًا.

يتفق الاقتصاديون على أن العجز التجاري يعود إلى الظروف الاقتصادية الكلية وتحديدًا التوازن بين الاستثمار الوطني والادخار. فالدولار الأمريكي يعاني من فائض في الاستثمار مقارنة بالادخار، لذا يقترض المال من الخارج.

ببساطة، ذلك لأن الاقتصاد الأمريكي لا ينتج بقدر ما يستهلك. ومع زيادة صافي الدين المحلي، يتفاقم العجز التجاري، لأن الأموال المقترَضة تُنفق في نهاية المطاف على استيراد السلع والخدمات من الخارج.

وبالنتيجة يتطلب تقليص الفجوة التجارية سياسات تقلل من حجم الدين المحلي، مثل تعزيز معدلات الادخار لدى الأسر والشركات، أو خفض العجز الحكومي. وفي هذا السياق، تُعد الرسوم الجمركية أداة ضعيفة وغير فعالة لتحقيق هذا الهدف.

النتيجة

من المؤكد أن استراتيجية ترامب الجمركية ستؤدي الى حالة من الفوضى في النظام التجاري العالمي. ولكنها ستجلب أيضًا فرصًا وتحديات جديدة. وعليه يجب على كل من أوروبا والدول المتأثرة أن تتكاتف في مواجهة هذه السياسات برد حازم، مع السعي في الوقت نفسه الى تعزيز تحرير التجارة عبر الصعيد العالمي.

اقرأ أيضًا:

كيف ستؤثر رئاسة ترامب في الأسواق؟

أسواق المال والفيدرالي الأمريكي: كيف سيؤثر عام 2025 في الاستثمار والتضخم؟

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: وسام صايفي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر