هل يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تفهم العالم الحقيقي؟

4 ديسمبر 2025
5 مشاهدة
0 اعجاب

هل يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تفهم العالم الحقيقي؟

 

 

في القرن السابع عشر، وضع عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر قوانين حركة الكواكب، التي جعلت من الممكن التنبؤ بدقة بمواقع كواكب المجموعة الشمسية في السماء في أثناء دورانها حول الشمس.

 

لكن لم تُفهم المبادئ الأساسية الكامنة وراء تلك القوانين إلا بعد عدة عقود، عندما صاغ إسحاق نيوتن قانون الجاذبية العام.

 

مع أن نيوتن استلهم أفكاره من قوانين كيبلر، لكنه جعل من الممكن تطبيق المعادلات نفسها على كل شيء، بدءًا من حساب مسار قذيفة مدفع، مرورًا بتأثير جاذبية القمر في حدوث المد والجزر على الأرض، وصولًا إلى كيفية إطلاق قمر صناعي من كوكب الأرض إلى سطح القمر أو الكواكب الأخرى.

 

لقد أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة اليوم بارعةً للغاية في تقديم تنبؤات دقيقة، إلى حدٍّ يشبه تنبؤات قوانين كيبلر الخاصة بمدارات الكواكب.

 

لكن يبقى السؤال: هل تستطيع هذه الأنظمة أن تدرك لماذا تعمل تنبؤاتها بالطريقة التي تعمل بها أو كيف تعمل، بمقدار الفهم العميق نفسه القائم على المبادئ الأساسية الفيزيائية مثل قوانين نيوتن؟

 

مع ازدياد اعتماد العالم على هذا النوع من أنظمة الذكاء الاصطناعي يسعى الباحثون إلى قياس كيفية عمل بها هذه الأنظمة فعلًا، ومدى عُمق فهمها الحقيقي للعالم من حولنا.

 

ابتكر الباحثون حاليًا في مختبر أنظمة المعلومات واتخاذ القرار التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في جامعة هارفارد، نهجًا جديدًا لقياس مدى ما تتمتع به هذه الأنظمة التنبؤية من فهم عميق لموضوعاتها، وما إذا كان بإمكانها تطبيق المعرفة المُكتسبة في مجال ما على مجال آخر قريب أو مختلف قليلًا. فكانت النتيجة في معظم الأمثلة التي درسوها حتى الآن هي أنها لا تستطيع الفهم بالقدر الكافي.

 

عُرضت نتائج البحث في المؤتمر الدولي للتعلّم الآلي (ICML 2025) الذي انعقد الشهر الماضي في فانكوفر بمقاطعة كولومبيا البريطانية. قدّم نتائج البحث كلّ من الباحث ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد كيون فافا، وطالب الدراسات العليا في قسم الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب بمعهد ماساتشوستس بيتر جي تشانغ، والأستاذ المساعد والباحث الرئيسي في مختبر أنظمة المعلومات واتخاذ القرار التابع لمعهد ماساتشوستس أشيش رامباتشان، والأستاذ في معهد ماساتشوستس والمؤلف الرئيسي للدراسة سيندهيل موليناثان.

 

قال فافا، المؤلف الرئيسي للدراسة: «طالما استطاع البشر الانتقال من مرحلة صنع تنبؤات حقيقية إلى بناء نماذج فعلية للعالم بناءً على فهمنا لتلك التنبؤات، والسؤال الذي طرحناه هو: هل تَمكنت النماذج الأساسية للذكاء الصناعي من القيام بهذه النقلة من مجرد التنبؤات إلى تكوين نماذج فعلية عن العالم؟ ولسنا نسأل عمّا إذا كانت قادرةً أو إذا كانت ستصبح قادرةً في المستقبل، بل نريد أن نعرف هل حققت ذلك بالفعل حتى الآن؟».

 

وأضاف موليناثان المؤلف الرئيسي المشارك في الدراسة: «نحن نعرف كيف نختبر صحة تنبؤ الخوارزمية ودقتها بسهولة، لكن ما نحتاج إليه هو طريقة لاختبار هل يفهم بعمق، وهذا يصعب تحقيقه. بل حتى مجرد تعريف معنى كلمة فهم عميق كان تحديًا في حدّ ذاته».

 

وأضاف فافا موضحًا في تشبيه بين كيبلر ونيوتن: «كلاهما قدّم نماذج عملت بكفاءة عالية في التنبؤ بمهمة معينة، وبالطريقة نفسها تقريبًا. لكن ما قدّمه نيوتن كان أفكارًا قابلةً للتعميم على الكثير من الأشياء».

وأردف: «عند تطبيق ذلك على أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإن القدرة المطلوبة تعني أن تطوّر هذه الأنظمة نموذجًا عن العالم بحيث تتمكن من تجاوز المهمة الحالية والتعميم على أنواع جديدة من المشكلات والنماذج المعرفية».

 

ولِإيضاح الفكرة بمثال آخر، أشار الباحثون إلى الفارق بين القرون الطويلة من المعرفة المتراكمة عن كيفية تحسين السلالات الزراعية والحيوانية بالانتخاب فطريًا وتجريبيًا، حتى جاء عالم الوراثة جريجور مندل ببصيرته السابقة لأوانها وكشف عن القوانين الجوهرية خلف الوراثة الجينية.

 

يقول موليناثان: «هناك قدر كبير من الحماس في هذا المجال بشأن استخدام النماذج الأساسية للذكاء الاصطناعي ليس فقط في أداء المهام بل أيضًا في التعلّم عن حقيقة وواقع العالم، مثل العلوم الطبيعية. وهذا يتطلب أن تكون هذه النماذج قادرةً على التكيّف، عبر نموذج واقعي للعالم يُمَكّنها من التعامل مع أية مهمة محتملة».

 

إذن، هل تمتلك أنظمة الذكاء الاصطناعي القدرة على الوصول إلى مثل هذه التعميمات عن العالم؟

 

من أجل اختبار هذا السؤال، درس فريق البحث أمثلة مختلفة من أنظمة الذكاء الاصطناعي التنبؤية على مستويات متعددة من التعقيد. في أبسط هذه الأمثلة، نجحت الأنظمة في بناء نموذج واقعي للنظام المُحاكى، لكن مع ازدياد التعقيد سرعان ما تلاشت هذه القدرة.

 

ثم طور الفريق مقياسًا جديدًا، وهي وسيلة كمية لقياس مدى قدرة النظام على تقريب الشروط الواقعية للعالم الحقيقي. وأطلقوا على هذا المقياس اسم التحيز الاستقرائي، وهو الميل أو النزعة إلى إنتاج استجابات أقرب إلى الواقع، استنادًا إلى استنتاجات مستخلصة عن طريق تحليل كمٍّ هائل من البيانات المرتبطة بحالات محددة.

 

أبسط هذه الأمثلة التي جرى اختبارها عُرف باسم النموذج الشبكي، وهو شبكة أحادية البُعد، إذ يمكن لشيء ما أن يتحرك فقط على طول خط واحد. شبّه فافا ذلك بضفدع يقفز بين أوراق زنبق مصطفة في خط مستقيم، كل حركة يفعلها هي مثل أن يتحرك يمينًا أو يسارًا أو يبقى ساكنًا مكانه. وإذا وصل إلى آخر زهرة في الصف، فإنه لن يتمكن إلا من البقاء مكانه أو العودة للخلف.

 

والسؤال هنا: إذا كان شخص ما أو نظام ذكاء اصطناعي، يسمع ما يقوله الضفدع من دون أن يعرف عدد أوراق الزنبق، هل يمكنه استنتاج شكل النموذج الشبكي؟

 

الجواب هو نعم. ففي مثل هذا الطرح البسيط، تنجح النماذج التنبؤية في إعادة بناء نموذج العالم بدقة جيدة. ولكن حتى مع الشبكات، كلما زادت الأبعاد، فشلت أنظمة الذكاء الاصطناعي في القيام بهذا.

 

يقول تشانغ: «على سبيل المثال، في شبكة ذات شرطين (مثل موجود أو غير موجود) أو ثلاثة شروط، تبين أن نماذج الذكاء الاصطناعي يمتلك تحيزًا استقرائيًا جيدًا نحو الحالة الفعلية الواقعية، لكن مع زيادة عدد الشروط يبدأ النموذج في الانحراف عن النموذج الواقعي للعالم».

 

أما في المشكلات الأكثر تعقيدًا، مثل لعبة أوثيللو، التي تتطلب من اللاعبين وضع أقراص سوداء أو بيضاء على اللوح الشبكي، فقد أثبتت النماذج قدرتها على التنبؤ بالحركات المسموح بها في كل لحظة، لكنها فشلت في استنتاج التوزيع العام للأقراص على اللوح، بما في ذلك الأقراص غير المسموح بلعبها.

 

إضافةً إلى ذلك، درس الفريق خمسة أنواع مختلفة من النماذج التنبؤية المستخدَمة فعليًا، ووجدوا مرةً أخرى أنه كلما زاد تعقيد النظام، ساء أداء الذكاء الاصطناعي في محاكاة النموذج الحقيقي للعالم.

 

يقول فافا: «نأمل أن نوفر منصة اختبار يمكن عن طريقها تقييم النماذج المختلفة وأساليب التدريب المتنوعة على مشكلات نعرف مسبقًا ماهية نموذجها الحقيقي للعالم. فإذا نجح النموذج في هذه الحالات التي نعرف حقيقتها، فسنكون أكثر ثقةً بأن تنبؤاته قد تكون مفيدةً حتى في الحالات التي لا نعرف فيها ما هي الحقيقة».

 

ويضيف أن محاولات كثيرةً تُبذل لاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي التنبؤية في الاكتشاف العلمي، مثل التنبؤ بخصائص مركبات كيميائية لم تصنّع بعد أو مركبات دوائية محتملة أو حتى التنبؤ بسلوكيات بروتينات مجهولة وخصائصها.

 

لكنه يوضح: «في المشكلات الأكثر واقعيةً، حتى في مجالات أساسية مثل الميكانيكا، وجدنا أن الطريق ما يزال طويلًا أمام نماذج الذكاء الاصطناعي».

 

يقول تشانغ: «هناك ضجة كبيرة حول النماذج الأساسية للعالم، إذ يحاول العلماء بناء نماذج أساسية خاصة بمجالات معينة، مثل نماذج أساسية لعلم الأحياء ونماذج أساسية للفيزياء ونماذج أساسية للروبوتات أو لمجالات أخرى. إذ يجري جمع كميات هائلة من البيانات وتدريب النماذج عليها لإجراء التنبؤات، على أمل أن تكتسب هذه النماذج معرفةً ضمنيةً في المجال نفسه بحيث يمكن استخدامها لاحقًا في مهام أخرى».

 

وأردف: «مع أن عملنا يُظهر أن أمامنا شوطًا طويلًا لنقطعه لكنه يمهّد لنا معالم الطريق للمستقبل. فبحثنا يقترح إمكانية استخدام مقاييسنا لتقييم مدى تعلم نماذج الذكاء الاصطناعي لتمثيل العالم الواقعي، ومن ثم ابتكار طرق أفضل لتدريب النماذج الرئيسية أو على الأقل تقييم النماذج الحالية. وكما اعتدنا في المجالات الهندسية، ما إن يتوفر لدينا مقياس مُحددّ لشيء ما، يصبح العلماء بارعين للغاية في تحسين الأداء وفقًا لهذا المقياس».

 



المصادر:


الكاتب

محمد اسماعيل

محمد اسماعيل
مراجعة

باسل حميدي

باسل حميدي
تدقيق

منال توفيق الضللي

منال توفيق الضللي



مقالات مختارة

إقرأ المزيد

لا يوجد مقالات مرتبطة