بدأ تسليط الضوء على الصحة النفسية في السنوات الأخيرة بعد قرون من تهميشها، إذ بدأت بتلقي الاهتمام الذي تستحقه تدريجيًا، ولكن تبقى بعض الخرافات عالقة بأذهان الناس، هنا نستعرض بعضها لتوضيح بعض المفاهيم الخاطئة المتداولة احتفالًا باليوم العالمي للصحة النفسية في العاشر من أكتوبر.

ازداد البحث المتعلق بالصحة النفسية حديثًا، لكن ما تزال الوصمة المتعلقة الناتجة عن أساليب التفكير القديمة والافتراضات الخاطئة باقية، فكما هو الحال مع أمور الحياة جميعها، كلما ازدادت معرفتنا بالموضوع قل تأثرنا بالخرافات حوله.

كان المجتمع ينبذ المصابين بالأمراض النفسية في القرون الماضية، إذ كان بعض أفراده يعتقدون أن الأرواح الشريرة أو الانتقام الإلهي ما يسبب الأمراض النفسية، ومع أن هذه الأفكار أصبحت بالية فإنها لا تزال تلقي بظلالها على واقع الصحة النفسية. وفي سنة 2020 ومع انتشار جائحة كورونا تعرضت الصحة النفسية حول العالم للكثير من الصعوبات وأصبح تصحيح الأفكار المغلوطة ضرورة ملحة، ومنها:

1. مشكلات الصحة النفسية غير شائعة:

هذه الجملة خاطئة حتى قبل انتشار جائحة كورونا، وفي وقتنا هذا هي أكثر خطأً من أي وقت مضى. إذ قدرت منظمة الصحة العالمية عام 2001 أن واحدًا من كل أربعة أشخاص سيكون عرضة لاضطرابات عصبية أو نفسية في مرحلة ما من حياته، ويعاني 450 مليونًا حالاتٍ مشابهةً في الوقت الحالي، ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن «الاضطرابات النفسية هي من الأسباب الرئيسية لمشكلات الصحة العامة والإعاقات حول العالم».

أشيع المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالصحة النفسية - الوصمة المتعلقة الناتجة عن أساليب التفكير القديمة والافتراضات الخاطئة باقية - الاضطرابات النفسية

الاكتئاب هو أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا، وكان يعانيه أكثر من 264 مليون شخص حول العالم سنة 2017، وبينت دراسة ركزت على الولايات المتحدة أن أعداد المصابين بالاكتئاب قد زادت ثلاثة أضعاف في أثناء انتشار جائحة كورونا. يعاني اضطراب القلق المعمم -وهو اضطراب شائع آخر- 6.8 مليون راشد في الولايات المتحدة، أي ما يقارب 3 من كل 100 شخص.

2. نوبات الهلع قد تكون مميتة:

إن نوبات الهلع تجربة مريرة لكل من مرّ بها، لكنها ليست مميتة بحد ذاتها وهي تسبب تسرعًا في القلب وشعورًا بالخوف الشديد. لكن من يتعرضون لنوبات الهلع معرضون أكثر للحوادث، لذا يجب على من يمر بنوبة هلع أو يشعر بإمكانية حدوثها أن يجد مكانًا آمنًا لتقليل هذا الخطر.

3. من يعانون اضطرابات نفسية لا يمكنهم العمل:

إن التصور الشائع بأن من يعانون مشكلات نفسية لا يمكنهم العمل أو لا يمكنهم أن يكونوا أفرادًا مفيدين في المجتمع فكرة قديمة ومستمرة لكنها خاطئة كليًا. قد يكون من يعانون حالات شديدة من الاضطرابات النفسية عاجزين عن أداء الأعمال الاعتيادية، لكن الغالبية العظمى من المصابين بإمكانهم أن يكونوا أفرادًا منتجين كغيرهم من الأصحاء.

وجدت دراسة استقصائية أجريت عام 2014 تبحث في الوضع الوظيفي لمرضى الاضطرابات النفسية أن مستويات التوظيف تنخفض مع ازدياد شدة هذه الاضطرابات. لكن كان 54.5% من المرضى ذوي الحالات الشديدة موظفين، وكذلك نسبة 62.7% من ذوي الحالات معتدلة الشدة ونسبة 68.8% من ذوي الحالات الخفيفة مقابل نسبة 75.9% من الأصحاء.

وعندما درس الباحثون تأثير العمر وجدوا أن الفرق بين معدل التوظيف لدى مرضى الاضطرابات النفسية والأصحاء قد اتسع مع تقدم العمر، إذ وجدوا أن فرق معدل التوظيف بين المرضى والأصحاء ممن تقع أعمارهم بين 18 و25 سنة بلغ نسبة 1% فقط، بينما كان الفرق بينهم لدى من تقع أعمارهم بين 50 و64 سنة قد بلغ نسبة 21%.

4. مشكلات الصحة النفسية دليل على الضعف:

إن خطأ هذه الفكرة يشبه قولنا إن القدم المكسورة هي علامة ضعف، فالاضطرابات النفسية أمراض وليست دليلًا على ضعف الشخصية. لذلك من الخطأ أن نطلب ممن يعانون الاكتئاب أن يتجاوزوا حالتهم هذه، مثلما لا يمكننا أن نطالب مرضى السكري أو الصدفية أن يشفوا فورًا من أمراضهم. بل إن العكس هو الصحيح تمامًا، فالتعامل مع الاضطرابات النفسية يتطلب قدرًا كبيرًا من القوة.

5. من لا أصدقاء لهم فقط هم من يحتاجون إلى العلاج:

يوجد فرق كبير بين التحدث إلى معالج نفسي والتحدث إلى الأصدقاء، كلاهما قد يساعد مرضى الاضطرابات النفسية بطرائق مختلفة، لكن المعالج النفسي يستطيع مناقشة المشكلات بطريقة بناءة لا يستطيع أقرب الأصدقاء أن يتّبعها. إضافةً إلى أنه ليس بمقدور الجميع التحدث بانفتاح تام مع المقربين إليهم. العلاج النفسي يكون بشروط محددة وموضوعيًا ومركزًا على المريض تمامًا، والتحدث إلى الأصدقاء ليس كذلك دومًا. لا يملك جميع الناس أصدقاء مقربين ولذلك الكثير من الأسباب، وهذا ليس مسوغًا للتقليل من أحد.

6. مشكلات الصحة النفسية مشكلات دائمة:

تشخيص الاضطراب النفسي ليس بالضرورة حكمًا مؤبدًا، فتجربة كل شخص مع المرض النفسي مختلفة، فبعض الأشخاص يعانون نوبات متكررة يعودون في الفترات بينها إلى ذواتهم «الطبيعية»، وآخرون يجدون علاجات -دوائية أو استشارات نفسية- تعيد التوازن إلى حيواتهم. بعض الأشخاص لا يشعرون بأنهم قد تعافوا تمامًا من الأمراض النفسية وبعضهم يعانون أعراضًا تزداد سوءًا تدريجيًا. الخلاصة أن الكثير من الأشخاص يتعافون بدرجات متفاوتة.

تذكر المؤسسة الأمريكية للصحة النفسية: «التعافي من الأمراض النفسية لا يعني التحسن فقط بل يشمل كذلك الوصول إلى حياة مُرضية كليًا، يؤكد الكثير من الأشخاص أن طريقهم نحو التعافي لم يكن سهلًا وثابتًا بل مليئًا بالتحسن والإخفاق والاكتشافات الجديدة والانتكاسات».

7. الإدمان يعني ضعف الإرادة:

يعد الخبراء اضطرابات تعاطي المخدرات أمراضًا مزمنة، إذ ذكر تقرير في صحيفة «تقارير السلوكيات الإدمانية» يعرض دراسة نوعية طويلة الأمد تبحث العلاقة بين قوة الإرادة والتعافي من الإدمان، ذكر أن قوة الإرادة لم تكن عاملًا رئيسيًا في التعافي من الإدمان: «ليس ضعفاء الإرادة من يعانون الإدمان، لكن الطريق نحو التعافي يعتمد على تطوير استراتيجيات للإبقاء على قوة الإرادة بالتحكم في البيئة المحيطة».

8. الفصام هو تعدد في الشخصيات:

كلمة الفصام تعني انقسامًا للعقل وهذا ما قد يوضح منشأ هذه الفكرة المغلوطة. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن الفصام «يتصف باختلال في التفكير والإدراك والشعور واللغة والسلوك وإدراك الذات» وهذا الاختلال قد يتضمن هلوسات وأوهامًا. الفصام ليس اضطراب الهوية الانفصالي الذي كان يسمى فيما سبق اضطراب تعدد الشخصيات.

9. اضطرابات الأكل تصيب الإناث فقط:

يوجد تصور خاطئ بأن اضطرابات الأكل تصيب الشابات البيض الثريات فقط، لكنها قد تصيب أي أحد. إذ وجدت دراسة استقصائية تبحث الخصائص السكانية للمصابين باضطرابات الأكل على مدى عشر سنين أن هذه الخصائص متغيرة، والتغير الأكبر كان لدى الذكور من العائلات محدودة الدخل، ومن تبلغ أعمارهم 45 سنة فأكثر. ووجدت دراسة أخرى أن الذكور يشكلون نسبة 10-25% من مصابي فقدان الشهية والنهام العصابي، ونسبة 25% من مصابي اضطرابات نهم الطعام.

10. اضطرابات الأكل هي اختيار لأسلوب الحياة:

تلك فكرة مغلوطة مؤذية، إذ إن اضطرابات الأكل حالات نفسية خطيرة قد تكون مميتة في الحالات الشديدة.

11. جميع مرضى الاضطرابات النفسية يتسمون بالعنف:

تلك خرافة اندثرت لحسن الحظ مع ازدياد الوعي حول مشكلات الصحة النفسية، فمعظم الأشخاص غير عنيفين حتى من يعانون حالات شديدة من الفصام. قد يكون مرضى بعض الحالات المحددة عنيفين ولا يمكن توقع تصرفاتهم لكنهم يشكلون نسبة قليلة جدًا. إذ ذكرت مراجعة عن العلاقة بين العنف والأمراض النفسية أن «العنف يجذب الانتباه في وسائل الإعلام، وهو مثير خصوصًا في سياق الأمراض النفسية، ما يزيد من عمق الوصمة التي تخترق حياة المريض.

إن الأفراد المصابين باضطرابات نفسية لا يمثلون خطرًا على عامة الناس عندما يعاملون بطريقة ملائمة، إن التأثير الكلي للمرض النفسي في العنف في المجتمع عامة مبالَغ في تقديره»، ورغم وجود علاقة بين العنف والأمراض النفسية فإن العامة يبالغون في تقدير قوة الارتباط بينهما.

يناقش البروفيسور غراهام ثورنيكروفت من جامعة الملك في لندن تعقيدات الصحة العامة المتعلقة بهذه القضية الشائكة، موضحًا التبسيط المتوارث الذي توحي به هذه الخرافة قائلًا: «إن مرضى الاضطرابات النفسية هم غالبًا ضحايا للعنف أكثر من كونهم جناة، لكن قد يكون المصابون ببعض الاضطرابات المحددة أكثر ميلًا إلى العنف مقارنةً بسواهم، وهي حقيقة غير مريحة للعاملين في مجال الصحة النفسية.

ورغم وجود أدلة غير كافية على أن المصابين باضطرابات نفسية عمومًا -المصابين بالاكتئاب أو القلق عادةً- أكثر ميلًا إلى العنف من سواهم من الأصحاء، فتوجد معدلات أعلى للعنف لدى المصابين ببعض الحالات الشديدة من اضطرابات محددة، كالفصام واضطراب ثنائي القطب». يوضح البروفيسور أيضًا أن هذا الارتفاع في المعدلات طفيف مقارنة بسائر السكان. ويشير إلى أن الخطر يزداد كثيرًا في حال اجتماع عدة عوامل، كالحالات الشديدة من الاضطرابات النفسية مع تعاطي المخدرات مع اضطراب الشخصية المعادي للمجتمع.

الخلاصة:

الاضطرابات النفسية شائعة لكن العلاج متاح، ويجب العمل على القضاء على هذه الخرافات والوصمة المتعلقة بها، ومع أن فهم المجتمع للاضطرابات قد تحسن كثيرًا خلال العقود الماضية فإن الطريق أمامنا ما زال طويلًا.

اقرأ أيضًا:

كيف تؤثر العزلة في الصحة النفسية؟

جيل الألفية: مشاكل العمل والزواج والصحة النفسية

ترجمة: ليلان عمر

تدقيق: عون حدّاد

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر