رغم وجود الحضارات الحديثة في جميع القارات باستثناء القطبية الجنوبية، يرى معظم الباحثين أن أقدم مهد للحضارات- أو مكان ظهور الحضارات للمرة الأولى- يتركز في العراق ومصر والهند والصين والبيرو والمكسيك، منذ عام 4000 أو 3000 قبل الميلاد تقريبًا.

حققت هذه المجتمعات القديمة المعقدة، بدءًا من بلاد الرافدين تقدمًا ثقافيًا وتكنولوجيًا، لا يزال العديد منها موجودًا حتى يومنا هذا. تقول أماندا بوداني، أستاذة التاريخ في جامعة ولاية كاليفورنيا للفنون التطبيقية: «عدد كبير من تفاصيل الحياة الحديثة في جميع أنحاء العالم، ليس فقط في الشرق الأوسط والغرب، لها أصول تعود إلى آلاف السنين، إلى الثقافات القديمة في مواطنها».

أول 6 حضارات عرفتها البشرية والإرث الذي تركته للعالم:

1- بلاد الرافدين، 4000-3500 قبل الميلاد:

تُعد بلاد الرافدين -بلاد ما بين النهرين- مهد الحضارات، تقع حاليًا في العراق الحديث والكويت وسوريا. اشتهرت الثقافة النامية بين نهري دجلة والفرات بالتطورات المهمة التي قدمتها في تعلم القراءة والكتابة وعلم الفلك والزراعة والقانون والرياضيات والهندسة المعمارية وغيرها، رغم الحروب المستمرة. كانت بلاد الرافدين موطنًا لأول المدن الحضرية في العالم مثل بابل وآشور وأكاد.

يقول كينيث هارل، أستاذ التاريخ في جامعة تولين: «كانت بلاد الرافدين موطن أقدم الحضارات المتعلمة والمتحضرة على هذا الكوكب، والسومريون الذين أسسوا هذه الحضارة، وضعوا القواعد الأساسية. الذين عرفوا كيفية البحث والكتابة تولوا الأدوار المهمة، وتولى الباقون الأعمال الشاقة».

استُخدم نظام الكتابة المسمارية في صياغة تشريع حمورابي، أحد أشهر التطورات التي جاءت بها الحضارات في بلاد الرافدين. أنشؤوا نظام العد الستيني أيضًا، الذي أدى إلى تقسيم الدقيقة إلى 60 ثانية والساعة إلى 60 دقيقة وتقسيم الدائرة إلى 360 درجة. كان علم الفلك البابلي أول من قسم السنة إلى 12 فترة زمنية سُميت بأسماء النجوم، طورها اليونانيون إلى الأبراج التي نعرفها اليوم.

احتلت بلاد فارس في نهاية المطاف بلاد الرافدين عام 539 قبل الميلاد. تبع ذلك قرون من الفوضى والاضطرابات.

تقول بوداني مؤلفة كتاب (النساجون والناسخون والملوك: تاريخ جديد للشرق الأدنى القديم): «خلال 3000 عام من الازدهار لحضارات بلاد الرافدين القديمة، ظهر عدد كبير من الممالك الفردية واختفت، ونمت بعض الإمبراطوريات واندثرت لأسباب مختلفة. لكن في جوهرها، ظلت الحضارة ذاتها بوضوح منذ نحو 3500 قبل الميلاد إلى أواخر 323 قبل الميلاد. قد يجادل الكثيرون بأن تلك الفترة امتدت أكثر من ذلك. نادرًا ما كانت تلك المنطقة موحدة، لكن حضارتها كانت مستقرة للغاية».

2- مصر القديمة، 3100 قبل الميلاد:

تُعد مصر القديمة الحضارة الأشهر والأكثر تميزًا بين الحضارات السابقة، كانت مصر القديمة إحدى أقوى الإمبراطوريات لأكثر من 3000 عام. تمركزت على ضفاف نهر النيل وامتدت في بعض الفترات إلى سوريا والسودان، اشتهرت هذه الحضارة بالأهرام والمقابر والمعابد وممارسات التحنيط لتهيئة الجثث للحياة الآخرة.

يقول هارل، مؤلف كتاب (كيف صاغ بدو السهوب العالم الحديث): «استخدام مصر للعمالة في المشاريع المعمارية مثل الأهرام، كان منقطع النظير. القدرة على حشد مئة ألف رجل لتجميع الهرم الأكبر عام 2600 قبل الميلاد، لا يمكن إيجاد مثيل لذلك في أي مكان آخر». يضيف هارل: أثبت المصريون مهاراتهم الفائقة في الزراعة والطب، وطوروا تقاليد مدهشة في النحت والرسم.

ترك المصريون أيضًا إرثًا كبيرًا من أنظمة الرياضيات والكتابة. كان الذراع -مقياس للطول يمتد تقريبًا بطول الساعد- مفتاحًا لتصميم الأهرام والمعابد. أوجد المصريون القدماء نظامًا لتقسيم اليوم إلى 24 ساعة والسنة إلى 365 يومًا. وأنشؤوا نظام الكتابة الهيروغليفية التصويرية، والكتابة الهيروغليفية بالحبر على ورق البردي. انتهت الحضارة عام 332 قبل الميلاد، بعد احتلالها على يد جيش الإسكندر المقدوني.

3- الهند القديمة، 3300 قبل الميلاد:

كان للدين أهمية كبرى في الهند القديمة حيث تأسست الهندوسية، بجانب التراث الأدبي والفن المعماري الرائع. تتضمن الأوبانيشاد أو النصوص الهندوسية المقدسة، أفكار التناسخ والنظام الطبقي القائم، التي عُدت حقوقًا تُكتسب بالولادة واستمرت إلى يومنا هذا.

لم تتأثر حضارة وادي السند -الهند وأفغانستان وباكستان حاليًا- كثيرًا بالحروب، على عكس الحضارات القديمة الأخرى. يشير المؤرخون وعلماء الآثار إلى التخطيط المنظم والمتطور للمدينة مع منازل متماثلة من الطوب الأحمر وهيكل شبكي وصرف صحي ونظام لإمدادات المياه.

يُعزى انهيار الحضارات في وادي السند، نحو 1700 قبل الميلاد، غالبًا إلى الهجرة الناتجة من تغير المناخ أو حركة تكتونية محتملة تسببت في جفاف نهر ساراسواتي. ويستشهد آخرون بفيضان كبير.

4- الصين القديمة، 2000 قبل الميلاد:

محصنةً بجبال الهيمالايا والمحيط الهادي وصحراء غوبي، إضافةً إلى موقعها بين نهر اليانغتسي والنهر الأصفر، ازدهرت أقدم الحضارات الصينية بمعزل عن الغزاة والغرباء عدة قرون. بنوا الأسوار لمنع غزوات المغول من الشمال، في نسخة مبكرة من سور الصين العظيم، الذي بُني لاحقًا عام 220 قبل الميلاد.

تُقسم الصين القديمة عمومًا إلى 4 سلالات: شيا وشانغ وزو وتشين، وحكمها سلسلة من الأباطرة. يعود إلى هذه الحضارة الفضل في تطوير النظام العشري والعداد والمزولة -الساعة الشمسية- والمطبعة التي ساهمت في انتشار كتاب فن الحرب لسن تزو، والتي لا تزال صالحة حتى بعد أكثر من 2500 عام.

كان الصينيون القدماء مثل المصريين، قادرين على حشد السكان لبناء مشاريع البنى التحتية الضخمة. سمح بناء القناة الكبرى التي تربط بين النهرين الأصفر ويانغتسي في القرن الخامس، لأعداد كبيرة من القوات العسكرية والسلع بالانتقال بين أنحاء البلاد.

يقول هارل: «ربما كانت الصين أنجح دولة مركزية في التاريخ، وكانت أعظم الحضارات الباقية في العالم لفترات زمنية طويلة من التاريخ البشري».

5- بيرو القديمة، 1200 قبل الميلاد:

كانت بيرو مهدًا لعدد من الثقافات مثل تشافين وباراكس ونازكا وواري وموتشي والإنكا. وجد العلماء آثارًا لعلم المعادن والسيراميك المنقوش والممارسات الطبية والزراعية المتقدمة ضمن هذه الجماعات.

بلغت الحضارة أوجها مع إمبراطورية إنكا العظيمة الممتدة بين ما يعرف اليوم بكولومبيا وتشيلي، واشتهرت بمدينة ماتشو بيتشو وشبكتها الحضرية المتقنة.

لم يطور شعب الإنكا نظامًا للكتابة، بل استخدموا عوضًا عن ذلك الرسوم والرموز. استخدموا أيضًا نظامًا للمحاسبة يعتمد على العقد، وبنوا طرقًا معبدة على الأراضي الوعرة تربط المدن والمستعمرات، وقدموا ابتكارات زراعية ومعمارية متطورة.

يرى هارل أن الجدري وغيره من الأمراض التي جلبها الإسبان إلى أمريكا الجنوبية، دمرت شعب الإنكا ما أدى إلى ضعف ساهم في نجاح الغزو بقيادة فرانسيسكو بيزارو عام 1532. ويقول: «الكثير من الناس قضوا نحبهم بسبب المرض، إذ لم يكن لديهم أي مناعة، لذلك لم تنهر هذه حضارة الإنكا بسبب ضعف داخلي، بل بسبب مرض أتاها من الخارج».

6- أمريكا الوسطى القديمة، 1200 قبل الميلاد:

كانت بعض أجزاء المكسيك وأمريكا الوسطى اليوم، موطنًا لعدد من ثقافات الشعوب الأصلية، بدءًا من الأولمك نحو 1200 قبل الميلاد، ثم زابوتيك والمايا وتولتيك وأخيرًا الآزتك.

نتج عن الأراضي الزراعية الخصبة تقدم زراعي، وأصبحت الذرة والفاصولياء والفانيلا والأفوكادو والفلفل والقرع والقطن محاصيل مهمة. اكتشفت المعابد على الطراز الهرمي والفخار المفصل والآثار الحجرية والمجوهرات الفيروزية وغيرها من الفنون الجميلة. يعتقد العلماء أن شعب الزابوتيك طور أول تقويم مكتوب ونظام كتابة في أمريكا الوسطى، أما شعوب المايا فهم معروفون بتقدمهم في الرياضيات والكتابة والعمارة وعلم الفلك.

أسس الأزتيك الرُحل تينوشتيتلان -مدينة مكسيكو اليوم- عام 1325 على جزر صغيرة في ضفاف بحيرة تيكسكوكو، وأصبحت المدينة سوقًا مزدهرًا للتجارة.

استخدم الأزتيك تقويمًا شمسيًا من 365 يومًا إلى جانب تقويم شعائري مدته 260 يومًا. مارسوا التضحية بالبشر وسفك الدماء. استخدموا شكلًا من أشكال الكتابة بالصور وأنشؤوا أعمالًا فنية باستخدام الطين والريش والفسيفساء والحجر.

أدى الغزو الإسباني بقيادة هيرنان كورتيز عام 1519، بمساعدة أعداء شعوب الأزتيك من أمريكا الوسطى إلى إسقاط حضارة الأزتيك عام 1521.

يقول هارل: «عندما ظهر كورتيز، كان شعب الأزتيك يواجه صعوبة كبيرة في الحفاظ على السيطرة على القبائل التابعة لهم. كانوا مكروهين للغاية، وأعطى كورتيز مزايا كافية لهؤلاء الرعايا المحرومين للإطاحة بإمبراطورية الأزتيك».

اقرأ أيضًا:

كيف بدأت الحضارات البشرية؟ فرضية جديدة مثيرة

سبع حضارات مفقودة نسيها التاريخ دون آثار

ترجمة: نيفين الشلي

تدقيق: سماح عبد اللطيف

المصدر