غالبًا ما يرتبط فجر الحضارة الإنسانية بظهور الزراعة، فمع نمو إنتاج الغذاء، نما عدد السكان والتجارة والضرائب، أو هذا ما تقوله القصة السائدة. وضع الاقتصاديون الآن فرضية منافسة تقول إن فائض الطعام لم يكن كافيًا بمفرده لدفع الانتقال من مجتمعات الصيد وجمع الثمار إلى الدول الهرمية، التي أدت في النهاية إلى الحضارة كما نعرفها.

إذ تُظهر مجموعات البيانات المتعددة التي تغطي عدة آلاف من السنين أن هذه النظرية السائدة معيبة تجريبيًا. وحتى عندما تبنّى بعض أجزاء العالم الزراعة، وبدأ بإنتاج كمية فائضة من الغذاء، لم يؤد ذلك بالضرورة إلى تسلسلات هرمية معقدة أو دول تفرض الضرائب.

فقط عندما بدأ البشر بزراعة الطعام الذي يمكن تخزينه وتقسيمه وتجارته وفرض الضرائب عليه، بدأت البنى الاجتماعية بالتشكل.

ربما هذا هو السبب أن الحبوب مثل القمح والشعير والأرز -بدلًا من القلقاس واليام والبطاطا- هي تقريبًا أصل كل الحضارات الكلاسيكية. إذا كانت الأرض قادرة على زراعة الحبوب، تكون على الأرجح مضيفًا للبنى المجتمعية المعقدة، كما تظهر الأدلة.

كتب مؤلفو الفرضية: «إن السهولة النسبية لمصادرة الحبوب المخزنة، وكثافة طاقتها العالية، ومتانتها… تعزز من ملاءمتها، وبالتالي تسهِّل ظهور النخب الذين يفرضون الضرائب».

في المقابل، عادة ما تكون الجذور والدرنات مُعمّرة ولا يجب حصادها في فترة معينة، ولكن فور حصادها تكون قابلة للتلف إلى حد ما.

«مثلًا، في أجزاء من أمريكا الجنوبية، يمكن حصاد المحاصيل الجذرية المعمّرة مثل الكسافا (المَنِيْهُوت) على مدار العالم. لكن ولسوء الحظ، فإن الكسافا تتعفن بسهولة ويصعب نقلها».

يقترح الباحثون أن هذا سبب عدم ظهور نظام الهياكل الهرمية في أي من المجتمعات التي تعتمد على الكسافا، حتى ولو توفرت جذور أكثر من الحاجة إلى إطعام الجميع.

من جهة أخرى، كانت حضارة المايا واحدة من أكثر الحضارات البشرية سيطرة وتطورًا في مركز أمريكا، وعلى الرغم من ذلك لم يعتمد هذا المجتمع القديم فقط على المحاصيل الجذرية. بدلًا من ذلك، اعتمدت هذه الحضارة إلى حد كبير على الذرة.

ينطبق الأمر نفسه على قبائل الإنكا في جبال الأنديز. من الواضح أن نوع الطعام المزروع أكثر أهمية للمجتمع من الكمية المنتجة.

يُمكن أن يساعد اختلاف التأثيرات الاجتماعية للمحاصيل الجذرية مقابل محاصيل الحبوب في تفسير سبب أن بعض الحضارات البشرية أصبحت أكثر تعقيدًا، بينما بقيت المجتمعات الأخرى مجتمعات محلية أو نظام مشيخة. وهذا يمكن أن يوضح لما لا يؤدي فائض الطعام في مجتمع الصيادين وقاطفي الثمار بالضرورة إلى تطور الحضارات أيضًا.

كان من الواضح أن الزراعة خطوة ضرورية لتحسين إنتاج الغذاء، ولكن الباحثين يشكون بأن هذه المحاصيل التي يمكن مصادرتها بسهولة هي التي أدت إلى ظهور جماعة النخبة.

إذا بدأت شريحة قوية من المجتمع بجباية الضرائب من المزارعين على شكل حبوب ودون طعام إضافي في متناول يدهم، فإن المجتمعات الزراعية لن تستطيع دعم أكبر عدد من السكان. نتيجة لذلك، من المرجح أن تتناقص أعدادهم، وهذا سيؤدي إلى خلق فائض من الطعام لمنحه للمزيد من مجموعات النخبة.

إذا لم يحم هؤلاء المزارعين النخبة، فإن النخبة لن تحمي مخزوناتهم الغذائية من قطاع الطرق. في نهاية الأمر، سرقة الحبوب أكثر قيمة من سرقة الأطعمة القابلة للتلف.

لهذا، يكتب مؤلفو الفرضية: «نحن نتفق مع النظرية الإنتاجية التقليدية التي تفترض أن الفلاحين في المجتمعات الهرمية ينتجون كمية طعام فائضة، ولكن خلافنا أنه بدلًا من أن الفائض يولد النخبة، فإن النخبة تولد الطعام الفائض الذي تزدهر فيه، بمجرد أن تتاح الفرصة لارتفاع مناسب».

مثلًا، يظهر أطلس الحضارات البشرية أنه يمكن العثور على أكبر عدد من الأقارب البرية لمحاصيل الحبوب في الهلال الخصيب، التي غالبًا ما يقال إنها مهد الحضارات البشرية.

في الوقت ذاته، توجد المجتمعات التاريخية التي لم تمارس أي نوع من أنواع الزراعة في شمال غربي أمريكا وآسيا الوسطى وأستراليا وجنوب غرب أفريقيا. وقد افتقرت هذه المجتمعات إلى هياكل هرمية معقدة.

تُضيف قاعدة بيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة دليلًا آخر على هذه النظرية الجديدة. إذ تقترح أن المناطق التي تنتج الحبوب أكثر من الجذور والدرنات، من المرجح أن يجري تنظيمها بوصفها دولًا ذات معدلات أعلى من الضرائب.

في الوقت ذاته، لا ترتبط الجذور والدرنات بالتسلسلات الهرمية الأكثر تعقيدًا، حتى عندما تُزرع على أرض زراعية عالية الإنتاجية.

«باستخدام هذه البيانات الجديدة، استطعنا إظهار أن التسلسلات الهرمية المعقدة، مثل نظام المشيخة والدول المعقدة، نشأت في مناطق حيث محاصيل الحبوب التي يسهل فرض الضرائب عليها ومصادرتها، كانت في الواقع المحاصيل الوحيدة المتاحة»، هكذا يشرح لويجي باسكالي من جامعة بومبيو فابرا في إسبانيا.

«من المفارقات، أن الأراضي الأكثر إنتاجية التي لم تكن الحبوب فقط متوفرة فيها، بل أيضًا الجذور والدرنات، لم تشهد التطورات السياسية نفسها».

ويطلق المؤلف المشارك لباسكال، الاقتصادي جورام مايشر، عليها اسم «لعنة الوفرة». دون نوع الطعام الذي يمكن تخزينه وحمايته من قبل أفراد النخبة، لن يوجد مجتمع مصنّف من المانحين والآخذين يتحكم فيه القانون والنظام.

في النهاية، يقول مايشر، يبدو أن هذا الاعتماد على محاصيل الجذور قد منع ظهور الدولة والتنمية الاقتصادية في بعض أجزاء العالم، مثل جزر جنوب المحيط الهادئ.

لا يمكن لأي من التحقيقات التجريبية الموجودة في الدراسة الأخيرة أن تثبت أو تدحض بالكامل الفرضية الجديدة، ولكن المؤلفين يجادلون بأن نتائجهم قوية بما يكفي «لإلقاء ظلال الشك على التفسير السائد لدور الإنتاجية والفائض في ظهور التسلسل الهرمي»، إذ لم يجدوا أي دليل لهذه الفرضية التي غالبًا ما يُستشهد بها.

«فقط أينما فضّل المناخ والجغرافيا الحبوب، من المرجح أن يتطور التسلسل الهرمي»، يقول مايشر من جامعة هربو القدس.

«تظهر بياناتنا، أنه كلما زادت ميزة الإنتاجية للحبوب على الدرنات، زادت احتمالية ظهور التسلسل الهرمي».

قد يحمل القول المأثور «نحن ما نأكله» حقيقة أكثر مما كنا نعتقد.

اقرأ أيضًا:

كيف تستطيع حضارة فضائية منقرضة أن تنقذ البشرية؟

اكتشف الباحثون أخيرًا مصدر الروحانية والتدين في الدماغ

ترجمة: يُمنى بهلوان

تدقيق: حسين جرود

مراجعة: نغم رابي

المصدر