في أغسطس 1955، تقدمت مجموعة من العلماء بطلب تمويل بمبلغ 13500 دولار أمريكي لاستضافة ورشة عمل صيفية في كلية دارتموث، نيو هامبشاير، وكان موضوع ورشة العمل هو الذكاء الاصطناعي (AI).

في حين أن طلب التمويل كان متواضعًا، لم يخطر ببال الباحثين في ذلك الوقت الفكرة التالية: «إن كل جانب من جوانب التعلم أو أي سمة أخرى من سمات الذكاء يمكن -من حيث المبدأ- وصفها بدقة ليمكن صنع آلة لمحاكاتها».

انطلاقًا من هذه البدايات المتواضعة، أضفت الأفلام ووسائل الإعلام الطابع الرومانسي على الذكاء الاصطناعي، وفي بعض الأحيان جعلته شريرًا. مع ذلك، بالنسبة لمعظم الناس، ظل الذكاء الاصطناعي يعد نقطة نقاش وليس جزءًا من تجربة معيشية واعية.

الذكاء الاصطناعي يقتحم حياتنا

منذ أشهر قليلة، أطلق الذكاء الاصطناعي ما يُسمى منصة ChatGPT، متحررًا بذلك من تكهنات الخيال العلمي ومختبرات الأبحاث ليصل إلى أجهزة الكمبيوتر المكتبية والهواتف المحمولة التي يمتلكها عامة الناس.

إنه ما يُعرف باسم “الذكاء الاصطناعي التوليدي”. بطريقة مدهشة يمكن لهذا المولّد الذكي إنتاج مقال أو التسوّق أو كتابة قصيدة.

على الرغم من أن منصة ChatGPT كانت أكثر الاختراعات إثارة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، فقد أظهرت أنظمة مماثلة إمكانات أكبر لإنشاء محتوى جديد، وذلك باستخدام تقنيات تحويل النص إلى صورة لإنشاء صور نابضة بالحياة فازت حتى بالمسابقات الفنية.

قد لا يمتلك الذكاء الاصطناعي بعد وعيًا حيًا أو قدرة على محاكاة أفلام وروايات الخيال العلمي، لكنه يقترب على الأقل من تجاوز ما نعتقد أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تفعله.

أصيب الباحثون الذين يعملون مع هذه الأنظمة بحالة من الدهشة بسبب احتمالية توليد الإحساس، كما هو الحال مع نموذج اللغات الكبيرة من غوغل (LLM) LaMDA. An وهو نموذج مُدرّب لمعالجة اللغة الطبيعية وتوليدها.

أنتج الذكاء الاصطناعي التوليدي أيضًا مخاوف بشأن الانتحال، واستغلال المحتوى الأصلي المُستخدم في إنشاء النماذج، وأخلاقيات التلاعب بالمعلومات وإساءة استخدام الثقة، وحتى الوصول إلى فناء لغات البرمجة التقليدية.

هنا يبرز السؤال الذي يزداد إلحاحًا منذ ورشة العمل الصيفية في دارتموث: هل يختلف الذكاء الاصطناعي عن الذكاء البشري؟

ماذا يعني الذكاء الاصطناعي في الواقع؟

حتى يكون النظام ذكيًا، يجب أولًا أن يظهر مستوى معينًا من التعلّم والتكيّف. لهذا السبب، فإن أنظمة صنع القرار والأتمتة والإحصاءات لا تعد أنظمة ذكية.

يُعرّف الذكاء الاصطناعي على نحو شائع ضمن فئتين: الذكاء الاصطناعي المخصص (ANI) والذكاء الاصطناعي العام (AGI). حتى الآن، الذكاء الاصطناعي العام غير موجود.

التحدي الرئيسي لإنشاء ذكاء اصطناعي عام يتمثل في تصميم نموذج مناسب للجميع يمتلك المعرفة الكاملة وبطريقة متجانسة ومفيدة، وهذا عمل ضخم، على أقل تقدير.

معظم ما نعرّفه اليوم باسم الذكاء الاصطناعي هو ذكاء مخصص؛ حيث يعالج نظام معيّن مشكلة معينة. على عكس الذكاء البشري، فإن هذا الذكاء المخصص فعّال فقط في المجال الذي دُرب فيه، على سبيل المثال في كشف الاحتيال أو التعرف على الوجه أو التوصيات الاجتماعية.

مع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي العام سيعمل بشكل مماثل للبشر. في الوقت الحالي، أبرز مثال على محاولة تحقيق ذلك هو استخدام الشبكات العصبية والتعلّم العميق وتدريبها على كميات هائلة من البيانات.

الشبكات العصبية مستوحاة من طريقة عمل العقول البشرية. على عكس معظم نماذج التعلّم الآلي التي تدير العمليات الحسابية بعد التدريب على بيانات تدريبية، تعمل الشبكات العصبية بتغذية كل نقطة بيانات واحدة تلو الأخرى بواسطة شبكة مترابطة، وفي كل مرة يُعاد ضبط المحددات.

مع تغذية المزيد والمزيد من البيانات عبر الشبكة، تستقر المحددات؛ النتيجة النهائية هي الشبكة العصبية “المدرَّبة”، التي يمكنها بعد ذلك إنتاج المخرجات المرغوبة على البيانات الجديدة، على سبيل المثال، معرفة فيما إذا كانت الصورة تحتوي على قطة أو كلب.

القفزة الكبيرة في الذكاء الاصطناعي اليوم جاءت نتيجة الكثير من التحسينات التكنولوجية في الطريقة التي يمكننا بها تدريب الشبكات العصبية الكبيرة، وإعادة تعديل أعداد كبيرة من المحددات في كل عملية تشغيل بفضل قدرات البنى التحتية الكبيرة للحوسبة السحابية. على سبيل المثال، النظام الذكي GPT-3 الذي يشغّل ChatGPT عبارة عن شبكة عصبية كبيرة بها 175 مليار محدد.

ما الذي يحتاج إليه الذكاء الاصطناعي ليكون فعالًا أكثر؟

يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى ثلاثة أشياء ليكون ناجحًا:

أولاً، يحتاج إلى كميات ضخمة من البيانات عالية الجودة وغير المتحيزة. يستخدم الباحثون الذين يبنون شبكات عصبية مجموعات البيانات الكبيرة التي ظهرت مع التحول الرقمي للمجتمع.

يستمد مشروع Co-Pilot -الذي يحول الكلام العادي إلى أسطر برمجية- بياناته من مليارات أسطر التعليمات البرمجية المشتركة على منصة GitHub وذلك بهدف زيادة عدد المبرمجين البشريين. تستخدم منصة ChatGPT ونماذج اللغات الكبيرة الأخرى مليارات مواقع الويب والمستندات النصية المخزنة على الإنترنت.

أدوات تحويل النص إلى صورة، مثل Stable Diffusion و DALLE-2 و Midjourney، تستخدم أزواج نص-صورة من مجموعات البيانات مثل LAION-5B. ستستمر نماذج الذكاء الاصطناعي في التطور والتأثير أكثر، ونحن سنزودها بمصادر بيانات بديلة كلما قمنا برقمنة المزيد من حياتنا، مثل بيانات المحاكاة أو بيانات الألعاب.

ثانيًا، يحتاج الذكاء الاصطناعي أيضًا إلى بنية تحتية حاسوبية للتدريب الفعّال. نظرًا لأن أجهزة الكمبيوتر أصبحت أكثر قوة، فقد يتم التعامل مع النماذج التي تتطلب جهودًا مكثفةً وحوسبةً واسعة النطاق على حواسب محلية في المستقبل القريب. على سبيل المثال برنامج Stable Diffusion -الذي يتعامل مع النصوص والصور- يمكن تشغيله بالفعل على أجهزة الكمبيوتر المحلية بدلاً من البيئات السحابية.

ثالثًا، النماذج والخوارزميات المحسّنة. تحرز الأنظمة التي تعتمد على البيانات تقدمًا سريعًا في العديد من المجالات التي كان يُعتقد أنها محصورة بالإدراك البشري.

مع ذلك، ومع تغير العالم من حولنا باستمرار، تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تدريبها باستمرار باستخدام بيانات جديدة. دون هذه الخطوة الأساسية، ستنتج أنظمة الذكاء الاصطناعي إجابات غير صحيحة من الناحية الواقعية أو إجابات لا تأخذ في الاعتبار المعلومات الجديدة التي ظهرت منذ أن دُربت.

الشبكات العصبية ليست الطريقة الوحيدة للذكاء الاصطناعي، إذ يوجد اتجاه آخر للذكاء الاصطناعي يعمل على ما يُسمى الذكاء الاصطناعي الرمزي، فبدلًا من استخدام مجموعات البيانات الضخمة، يعتمد هذا الاتجاه على قواعد ومعرفة مشابهة للعملية البشرية لتشكيل تمثيلات رمزية داخلية لظواهر معينة.

ميزان القوى حاليًا يميل بشدة نحو المناهج التي تعتمد على البيانات على مدى العقد الماضي، مع منح “الآباء المؤسسون” للتعلّم العميق الحديث جائزة تورينج مؤخرًا، أي ما يعادل جائزة نوبل في علوم الكمبيوتر.

يقول جورج سيمنز، مدير مشارك، وأستاذ مركز التغيير والتعقيد في التعلّم، جامعة جنوب أستراليا: «تشكّل البيانات والحسابات والخوارزميات أساس مستقبل الذكاء الاصطناعي. تشير جميع المؤشرات إلى أنه سيُحرز تقدم سريع في جميع الفئات الثلاث في المستقبل المنظور».

اقرأ أيضًا:

ما الّذي يجعل الذكاء الاصطناعي مختلفًا جدًا عن تعلُّم الآلة؟

ما البرمجة الكمية؟ وكيف ستغير مفهومنا عن البرمجة؟

ترجمة: أحمد عضيم

تدقيق: حسام التهامي

المصدر