لا يخفى على أحد في وقتنا الحاضر الأهمية البالغة لمحو الأمية التقنية، وتعليم المهارات المتطورة للأطفال منذ الصغر من أجل إعدادهم للنجاح في حياتهم المهنية المستقبلية، أيًا كانت الوظائف التي سيشغلونها، وعلم الآثار ليس استثناءً.

يصبح الأطفال علماء آثار من اللحظة التي يبدؤون فيها اللعب بصندوق الرمل في المدرسة، إذ يستخدمون المجارف أو شاحنات الألعاب أو أيديهم، لاستكشاف الأشياء التي تركها الأطفال الآخرون، من هم هؤلاء الأطفال الذين تركوا الألعاب هنا؟ ما الألعاب التي لعبوا بها؟ لا تختلف العملية كثيرًا عن ممارسة علم الآثار.

تخلى العالم عن طرق البحث التقليدية مثل المسح بالعين المجردة والحفر والتنقيب العشوائي، إذ تضمن لنا التكنولوجيا الحديثة الحفاظ على الآثار من التلف، واختصار وقت البحث، وتوسيع نطاقه. من أهم التقنيات التي يستخدمها علماء الآثار اليوم: تحليل التربة ومسح الليدر وإنترنت الأشياء، للإجابة عن جميع التساؤلات إضافةً إلى الحفاظ على الآثار.

ما أهمية علم الآثار للمجتمع الحديث؟

تمكننا دراسة الآثار التي يبلغ عمرها مئات بل آلاف السنين من فهم العوامل التاريخية التي أثرت في أسلافنا وكيف تفاعلوا معها، لأن مجتمعنا الحديث هو نتاج للأحداث التاريخية.

كتب فريق من جمعية علم الآثار الأمريكية: «يسمح لنا علم الآثار باكتشاف الحضارات القديمة وحياة الإنسان في تلك العصور، وكيف كان يتعايش مع الظروف البيئية، ومعرفة أهم الاكتشافات التي توصل إليها، وذلك بتحليل الآثار التي خلّفها».

تعمل التكنولوجيا الحديثة على تحسين تقنيات الحفظ، وتسمح أيضًا للباحثين بالعودة إلى الموقع للإجابة عن أسئلة إضافية. ما يوسع دور علماء الآثار في المجتمع.

كتب الفريق التابع لمؤسسة واردل أرمسترونغ الأثرية: «لعلم الآثار تأثير في العديد من العلوم المعاصرة، فهو ليس علمًا منفصلًا عن سائر العلوم».

يكافح علماء الآثار اليوم ضد تغير المناخ، ويكتشفون كيف تطورت الثقافات، ويستخدمون التكنولوجيا لفهم التطور البشري فهمًا أفضل. يتناول المقال دور التكنولوجيا في تطوير علم الآثار، لتعزيز معرفتنا بالحضارات القديمة.

النمذجة ثلاثية الأبعاد للوثائق القديمة:

قديمًا، كافح أمناء المتاحف وعلماء الآثار في فحص القطع الأثرية دون إتلافها، خاصةً اللفافات الرقيقة، إذ تكون هشة جدًا لدرجة أن أحدًا لم يكن يجرؤ على التعامل معها أو محاولة قراءتها، خشية إتلافها.

أما اليوم فقد أصبح للنمذجة ثلاثية الأبعاد المتقدمة والتصوير المقطعي المحوسب تأثير كبير في فهمنا للثقافات القديمة. إذ أصبح من الممكن فحص الوثائق الأثرية وقراءة ما بداخلها بالكامل دون الخوف من إتلافها. تمكّن النصوص الخفية علماء الآثار من فهم اللغات فهمًا أفضل، وتحديد أنماط المواد.

التصوير الطيفي الفائق لاستكشاف المخطوطات:

من المشكلات التي تواجه علماء الآثار، وجود مخطوطات من عدة طبقات، ما يصعب استكشاف ما هو مكتوب في الطبقات السفلية، إذ لم يكن من المألوف استخدام التقنيات الفنية لإعادة رسم ما هو مكتوب، أو إعادة استخدام الورق.

تتيح تقنية التصوير الطيفي الفائق الوصول إلى المخطوطات ومعرفة ما تحويه دون إتلاف السطح الخارجي، من ثم تمكن إعادة رسم ما تحويه هذه المخطوطات.

كتبت ميغان بارتلز: «ابتكر الباحثون تقنية جديدة، إذ استخدموا أحبارًا مصنوعة من مواد طبيعية نباتية، ما يمنح الباحثين رؤيةً تعادل الأشعة السينية، ويسمح لهم برؤية الصورة الخفية دون إتلاف السطح الخارجي للمخطوطة».

التصوير الطيفي الفائق هو تقنية تتضمن التقاط صور عالية الدقة بأطوال موجية مختلفة، عند الجمع بين هذه الصور، يمكن للباحثين رؤية الطبقات الخفية. حاليًا تُستخدم تقنية التصوير الطيفي لتحليل نصوص الحضارات الأمريكية ما قبل الاستعمار الأوروبي.

تطوير إنترنت الأشياء تحت الماء:

إن المعدات المستخدمة في التنقيب عن الآثار الموجودة تحت الماء عالية التكلفة، خاصةً عالية الجودة منها، من ثم يصعب على العلماء إجراء أبحاث واسعة المدى عن الحضارات وآثارها المغمورة.

يعمل بينيديتو ألوتا، رئيس الهندسة الصناعية في جامعة فلورنسا على تحسين الأجهزة والبرامج الخاصة بتكنولوجيا علم الآثار. في مقال لصحيفة الجارديان، يشرح ألوتا كيف تختلف تقنية «أركيوسب» الجديدة عن المركبات الأخرى تحت الماء، ويوضح طريقة عمل هذه الأجهزة.

يتميز أركيوسب بأنه أصغر وأخف وزنًا، وأرخص بكثير من معظم المركبات تحت الماء، ما يجعله في متناول الباحثين الذين لا يستطيعون شراء غواصة أو استئجارها.

هذه المركبات ذاتية القيادة. فور أن تغوص في الماء تتواصل المركبات معًا، ما يخلق إنترنت الأشياء تحت الماء، إذ ترصد الروبوتات ظروف الموقع، وتتخذ قرارات بشأن أفضل طريقة لمسح المنطقة للعثور على الآثار. يسمح هذا النوع من تقنية إنترنت الأشياء للعلماء بفهم الظروف تحت الماء فهمًا واضحًا.

مسح «ليدر» للمدن القديمة:

يستغرق التنقيب عن المدن والحضارات بالطرق التقليدية عدة سنوات، إضافةً إلى المخاطر المتعلقة به، إذ قد يسبب إتلاف هذه المعالم التاريخية، لكن التقنيات الحديثة تمكننا من تلافي هذه المشكلات.

من أهم الأدوات الرئيسية التي تمكن علماء الآثار من اختصار الوقت تقنية «ليدر»، اختصارًا لـ «الاستكشاف وتحديد المدى بالليزر». طُورت تقنية ليدر عام 1970، واستُخدمت في بعثة أبولو 15 لرسم خريطة لسطح القمر، وهي نوع من تقنية المسح بالليزر المحمولة جوًا، التي تُركب عادةً على طائرة دون طيار أو مروحية.

استخدم عالم الآثار داميان إيفانز «ليدر» لرسم خرائط لمدن العصور الوسطى المدفونة في غابات كمبوديا، إحدى هذه المدن على الأقل بحجم العاصمة بنوم بنه. سمحت هذه التقنية بسبر الغطاء النباتي الكثيف والحصول على صورة أوضح للمدن القديمة وثقافاتها.

استخدام ليدر للاستكشاف على نطاق دقيق:

تُستخدم تقنية ليدر ليس فقط للتنقيب عن المدن المطمورة، بل تُستخدم أيضًا للعثور على اكتشافات أخرى أدق. استخدمت ميغان هاوي أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة نيو هامبشاير، هذه التقنية لاستكشاف حفر التخزين في منطقة البحيرات العظمى.

تكونت هذه الحفر الصغيرة بين عامي 1000 و1600، ويبلغ عمقها واتساعها بضعة أقدام فقط. يكاد يستحيل العثور عليها إلا إذا كنت تعرف التضاريس الدقيقة للمنطقة. وفقًا لهاوي، ساد الاعتقاد سابقًا أن حفر التخزين ارتبطت بالعيش في منطقة البحيرات، مع ذلك ساهم ليدر في العثور على قرابة 70 حفرة خارج منطقة البحيرات، ما يدحض النظرية السابقة.

تحليل التربة في إسبانيا:

يُستخدم علم الآثار أيضا لتحديد كيفية انتشار الثقافات والمعلومات في العصور القديمة. مثلًا، يدرس باحثو جامعة بورنموث مدينة الزهراء، وتحديدًا القصور الإسلامية في العصور الوسطى في جنوب إسبانيا.

تحتوي القصور الإسلامية على الكثير من الزخارف المعقدة والمعالم الفنية مثل البلاط المزجج. باستخدام تقنية التحليل الطيفي للأشعة السينية المحمولة، بوسع العلماء إجراء تحليل كيميائي دقيق لفهم مكونات التربة.

توضح كيت ويلهام أستاذة العلوم الأثرية في جامعة بوسطن: «التقنيات التي استُخدمت قديمًا لصنع المعادن والبلاط والزجاج، ينتج عنها الكثير من المواد صعبة التحلل، التي تميل للبقاء في التربة».

بدراسة هذه المواد، يمكن للباحثين التعرف على الحضارات التي ابتكرت هذه التقنيات، وأماكن وجودها.

تحديد المواقع القديمة بواسطة أنماط المحاصيل:

يُعد البحث عن الآثار في المدن التاريخية التي أصبحت مكتظة بالسكان من أهم التحديات الرئيسية للعلماء، وللسكان الذين يقطنون هذه المواقع الأثرية، كما في دول مثل إسبانيا وإنكلترا، ففي هذه المدن قد تظهر المواقع الأثرية في أي مكان تقريبًا.

باستخدام التقنيات الحديثة، أصبح بإمكان العلماء إجراء أبحاثهم، إذ يستخدم الفريق في المواقع التاريخية في إنكلترا التكنولوجيا الجوية لتصوير المحاصيل وأنماط التربة، لفهم أفضل لما قد يكون مدفونًا تحت الأرض.

صرح دنكان ويلسون الرئيس التنفيذي لشركة «هيستوريك إنجلاند»: «يواصل علماء الآثار الجويون معرفة تاريخ إنجلترا من طريق فحص الآثار المرئية من الجو. هذه الأبحاث لا تدعم البحث الأثري فحسب، بل تمكننا من معرفة المواقع التي نستطيع العمل فيها، والأجزاء التي تحتاج إلى مزيد من الأبحاث لاحتمالية احتوائها على آثار مهمة».

باستخدام الطائرات دون طيار لتصوير المواقع التي قد تحوي آثارًا تاريخية، يتمكن العلماء من تحديد مواقع التنقيب، وتلافي إنشاء مبان حديثة فوق المواقع الأثرية المحتملة.

التنقيب في المدافن دون انتهاك الموتى:

تُعد المقابر الأثرية من أهم الأماكن التاريخية، إذ تبين لنا ماهية الحضارات والثقافات. من أهم المشكلات التي واجهت علماء الآثار أن في أثناء التنقيب عن الحفائر بالطرق التقليدية تزداد احتمالية إتلافها، لكن مع التطور التكنولوجي، خصوصًا التقنيات الأثرية الحديثة، أصبح من الممكن تلافي تدمير القطع الأثرية، والاستكشاف تحت الماء، وتحت الأرض دون انتهاك الموتى. إن التعرف على طرق الدفن في الثقافات المختلفة هو جزء من فهم المجتمعات ذاتها.

يستخدم خبراء مثل الدكتور كريس جافني من جامعة برادفورد التقنيات الجيوفيزيائية ورسم الخرائط تحت الأرض لإنشاء صور للمقابر في الواقع، وقد رسم جافني مؤخرًا خريطة لدير من القرن الثاني عشر يتضمن مقبرة تحوي نحو 2000 جثة.

يقول: «عمومًا، يصعب اكتشاف المدافن بالوسائل الجيوفيزيائية، لذا يُعد اكتشاف التصميم الكامل للمقبرة بالطرق المتاحة لدينا أمرًا استثنائيًا».

تؤكد هذه الخرائط النظريات حول إيمان هذا المجتمع بالبعث بعد الموت. سابقًا، لم يكن من الممكن اكتشاف ممارسات الدفن بواسطة التنقيب المادي الفعلي، لكن مع التكنولوجيا الحديثة أصبح الأمر ممكنًا.

البصمات الجنائية تحدد مستخدمي الأدوات:

العثور على الأدوات والحفائر ليس المشكلة الوحيدة التي تواجه علماء الآثار، بل عليهم أيضًا معرفة استخدامات هذه الأدوات وإلى أي عصر تنتمي؟ ومن كان يستخدمها؟ أجاب باحثو معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية عن هذه التساؤلات إذ قالوا: «تسمح التكنولوجيا الحديثة بتحليل آثار مجتمعات تعود إلى 5 آلاف عام، وهي فترة زمنية يصعب فيها توفر أدلة الحمض النووي».

في حالة أدوات وتحف شاتلبيروني القديمة، استخدم العلماء تقنية «بصمة كتلة الببتيد»، إضافةً إلى التأريخ بالكربون المشع، لتحديد بقايا أشباه البشر. بذلك تمكن الباحثون من التحقق من أن الأدوات بالفعل قد طورها إنسان نياندرتال.

التقنيات الفضائية والتعهيد الجماعي في مصر القديمة:

مع التطور العلمي الذي يشهده عصرنا الحالي، أصبح بإمكان أي شخص أن يكون عالم آثار، وأصبح من الممكن البحث والتنقيب في الأماكن الأثرية دون الحاجة إلى السفر إلى هناك. أصبح من الممكن مثلًا دراسة الحضارة المصرية القديمة دون الحاجة إلى السفر إليها، للكشف عن المعالم القديمة الخفية ومواقع الدفن، إذ تجمع عالمة الآثار الفضائية سارة باركاك بين صور الأقمار الصناعية وقوة التعهيد الجماعي، التي تتيح لأي شخص أن يصبح عالم آثار.

يظهر للمستخدمين قطعة أرض لا تزيد مساحتها على 20 × 20 مترًا، وهم يراجعون الصور ويطبقون العلامات عندما يرون شيئًا ذا أهمية محتملة.

تقول باركاك: «مع تكرار إشارة المستخدمين إلى وجود شيء جدير بالاهتمام في موقع محدد، يأتي دورنا للتحقق من الأمر. يجعل التعهيد الجماعي عملية المراجعة أسرع بدرجة ملحوظة، إذ يوفر على الفريق مراجعة كل الصور يدويًا».

التعهيد الجماعي يجعل التنقيب جهدًا مجتمعيًا:

تساهم مشاركة المجتمعات المحلية في اكتشاف الثقافات القديمة في الحفاظ عليها وحمايتها. ليست باركاك عالمة الآثار الوحيدة المستفيدة من التعهيد الجماعي لمزيد من عمليات الاستكشاف للثقافات القديمة، بل أيضًا «ديجفنتورس»، وهي شركة متخصصة في التمويل وحفائر التعهيد الجماعي.

تعمل المؤسسات على نشر فكرة التعهيد الجماعي، للمساعدة على الوصول إلى الاكتشافات الأثرية والحفائر. عام 2015، توجه 120 شخصًا للمشاركة في أعمال التنقيب في ليستون سوفولك- إنجلترا، إذ عُثر في حقل زراعي على ما يبدو أنه أساسات مشفى قديم. قد تساعد هذه الجهود على تكوين الجيل القادم من علماء الآثار.

استخدام علم الآثار لحل مشكلة تغير المناخ:

قد تساعدنا دراسة آثار الحضارات السابقة باستخدام الأجهزة الحديثة، في معرفة كيفية الاستعداد للكوارث الطبيعية المستقبلية، إذ كانت الفيضانات والعواصف جزءًا من حياة البشر قديمًا، ما مثّل تهديدًا لمحاصيلهم وبيوتهم. كان للإنسان القديم القدرة على التعايش والتكيف مع هذه الكوارث وإيجاد الحلول لتجنب الضرر. قد تمكننا التقنيات الحديثة المستخدمة في علم الآثار اليوم من معرفة طرق التعايش التي استخدمها الإنسان القديم.

توضح عالمة الآثار جيما بيزانت الجهود المبذولة لاستخدام خرائط نظم المعلومات الجغرافية، لمعرفة كيفية إعادة بناء المجتمعات بعد الكوارث الطبيعية.

قالت بيزانت: «قد تكشف الأدلة الأثرية الطريقة التي تكيف بها السكان قديمًا مع الظروف الجديدة، سواء اقتصاديًا أو في ما يتعلق بتعامل المجتمعات مع الاضطرابات والكوارث. قد تساعد هذه الرؤى الجديدة صناع السياسات الذين يسعون لمواجهة مشكلة تآكل السواحل، والتعامل مع المصاعب الناتجة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية».

اقرأ أيضًا:

ما هي تكنولوجيا ليدار؟ وما تطبيقاتها الأساسية؟

البحث عن أجسام غريبة وتكنولوجيا فضائية أنتجتها الحضارات الفضائية الذكية

ترجمة: ضحى عبد الكريم

تدقيق: تسبيح علي

المصدر