أعادت وفاة لي كوان يو، الأب المؤسس لسنغافورة الحديثة، في 23 مارس 2015، تركيز الاهتمام على المعجزة الاقتصادية التي ساهم في خلقها. إذ تضاعف معدل دخل الفرد في المدينة-الدولة 29 مرةً قافزًا من نحو 435 دولارًا إلى أكثر من 12700 دولار، في أثناء ثلاثة عقود تلت تولي لي سدة رئاسة الوزراء أول مرة عام 1959 إلى حين تنحيه عام 1990. وللمقارنة، ازداد معدل دخل الفرد 10 أضعاف فقط في الجارة ماليزيا (من 230 إلى نحو 2400 دولار).

لكن الانقسام حول الأسباب خلف هذه النهضة المشهودة بقي حاضرًا في صفوف الاقتصاديين إلى هذه اللحظة.

يقول البعض أن التقدم كان ثمرة أفكار مُلهِمة خاصةً القدرة على استقطاب أفضل التقنيات من أنحاء العالم، وذلك بسبب تبني سنغافورة لنموذج اقتصادي مبني على المعرفة.

في حين يرى آخرون أنه جاء نتيجة جهد مضن، مع التركيز الهائل على مراكمة عوامل الإنتاج مثل العمالة ورأس المال، مع نزر يسير من التقدم التقني.

وتعد الإجابات على مسألة النمو في سنغافورة مثار اهتمام مختلف الدول النامية حول العالم.

جمع نظام حكم سنغافورة في عهد لي كوان يو بين الاستبداد السياسي واتساع تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد. وبينما تعاني اقتصاديات الغرب المبنية على أسس السوق الحر تدني نسب نمو الإنتاجية فيها، يبرز نموذج التنمية في سنغافورة بديلًا مغريًا.

دعم بول كروغمان، عالم الاقتصاد الحائز على نوبل، النظرة المتشائمة إلى قضية سنغافورة. إذ قارن عام 1994 بينها وبين الاتحاد السوفييتي تحت حكم ستالين. وكتب البروفيسور كروغمان في مجلة Foreign Affairs: «جاء نمو سنغافورة عبر عملية تجنيد للموارد، ولو قدر لستالين أن يشهدها لشعر بالفخر. إذ لم تقدم هذه العملية أي أدلة على زيادة الكفاءة. وبهذا المعنى، يكون النمو الذي صنعه لي كوان يو توأمًا لنمو الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين».

بنى كروغمان ملاحظاته على أساس دراسة مثيرة للجدل أجراها ألواين يونغ، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، بحث فيها عن فهم الأسباب الدقيقة التي قادت النمو في سنغافورة بين الستينيات والتسعينيات.

وخَلُص يونغ إلى أن سنغافورة -بصورة مشابهة لما كان الحال عليه في روسيا الشيوعية- قد حققت نموًا اقتصاديًا نتيجة انضمام أعداد كبيرة من العمال إلى القوة العاملة، واستيعاب أعداد أكبر من السكان في التعليم الحكومي، إضافةً إلى زيادة مستويات الاستثمار. لكنه لم يجد دليلًا على أي تقدم أحرزته سنغافورة فيما يخص تحويل هذه المدخلات إلى ناتج مُثمر.

كتب البروفيسور يونغ: «نسب المشاركة في النشاط الاقتصادي المرتفعة، وتنقل القوة العاملة الدائم بين القطاعات، إضافةً إلى تحسن مستويات التعليم والتوسع في الاستثمار، تعمل هذه العوامل على تحجيم أداء الإنتاجية في دول شرق آسيا. وهذا يهدد بإزاحتها عن ذروة نجاحها وجرها إلى حضيض أزمات كبيرة».

ألمحت هذه النتائج إلى عدم استدامة نموذج النمو في سنغافورة. إذ لا يمكن أن تعتمد الحكومات في تحقيق النمو على مضاعفة أعداد العمال المشاركين في سوق العمل. بينما يمكن التقدم التكنولوجي -نظريًا- قيادة النمو الاقتصادي إلى الأبد. فلا عجب إذن في غضب لي الشديد من النتائج التي خَلُص إليها البروفيسور كروغمان.

صعود سنغافورة إلى مصاف دول العالم الأكثر ثراءً

صعود سنغافورة إلى مصاف دول العالم الأكثر ثراءً

لم يكن لي وحيدًا في رفضه هذه النتائج. بل شاركه فيه تشانغ-تاي شيه، الأكاديمي في جامعة شيكاغو بووث.

كان شيه متشككًا حول دقة الحسابات القومية في سنغافورة. واعتقد أنها بالغت كثيرًا في تقدير كميات الإنفاق الاستثماري في الدولة في التسعينيات.

استخدم البروفيسور شيه تقنيات إحصائية مختلفة اعتمدت على متغيرات اقتصادية مثل الأجور ونسب الأسعار إلى الإيرادات، ووصل إلى نتائج مناقضة لنتائج أصحاب النظرة التشاؤمية.

إذ وجد أن «معامل نمو الانتاجية الشامل-total factor productivity growth» (مقياس شامل لكفاءة الحصول على ناتج اقتصادي من مجموعة مدخلات من رأس مال ويد عاملة) قد ارتفع بمعدل سنوي 2% بين عامي 1970 و 1990 وأن هذا قد يفسر جزءًا كبيرًا من معجزة النمو في سنغافورة.

في جميع الأحوال، كف كروغمان والآخرون عن توجيه الانتقادات إلى سنغافورة في نهاية المطاف.

في عام 1996، أنشأت الحكومة «مجلس الإنتاجية والمعايير في سنغافورة» الذي عمل على رفع الإنتاجية بهدف «تحسين قدرة سنغافورة على المنافسة، وتعزيز النمو الاقتصادي فيها».

ورغم جهود الحكومة الرامية إلى دفع الكفاءة إلى الأمام، إضافةً إلى معدلات النمو المذهلة التي أوصلت معدل دخل الفرد إلى 55000 دولار في عام 2013، بقى معدل نمو الإنتاجية في سنغافورة ضعيفًا.

لذا لجأت تعويضًا عن ذلك إلى جذب المزيد من العمالة المهاجرة، وإلى إطالة ساعات العمل (يوم العمل فيها واحد من الأطول في العالم بحسب قاعدة بيانات تديرها جامعة غرونينغن).

أقر لي كوان يو عام 2010: «كان النمو في السنوات الخمس الأخير بسبب استيراد العمالة فقط». ويلخص طرح لي هذا حدود النموذج الذي لطالما كان قائده.

اقرأ أيضًا:

خليج الخنازير: دراسة حالة في القيادة الاستراتيجية والافتراضات الفاشلة

تاريخ الكساد العظيم

ترجمة: مالك عوكان

تدقيق: حسام التهامي

المصدر