إلى حد بعيد، تعد آثار مدينة كاتال هويوك- مستوطنة بشرية قديمة وشاسعة تقع في ما يعرف اليوم بتركيا- نسخة أولية للعواصم الحديثة. مع أن الأحوال قد تغيرت بالتأكيد على مدى 9 آلاف سنة. تُعد كاتال هويوك، التي توصف عادةً بكونها إحدى أقدم مدن العالم، إحدى أكبر مستوطنات العصر الحجري في الأناضول، واحتضنت نحو 8 آلاف شخص في أوجها، وذلك بعد تأسيسها نحو 7100 قبل الميلاد.

رغم امتلاك هذه المدينة مترامية الأطراف العديد من أوجه التشابه مع العواصم الحديثة والمتحضرة، فإن التناقضات المذهلة واضحة أيضًا.

من أبرز الاختلافات، لم تملك مدينة كاتال هويوك أي شوارع. إذ بُنيت المنازل متلاصقة، وكانت الطريقة الوحيدة لدخول المباني هي النزول إليها من السطح.

فور دخول المنزل، وإن لم يوجد أحد بالقرب منك، فلن تكون وحيدًا بالكامل. إذ اعتاد سكان مدينة كاتال هويوك دفن موتاهم داخل منازلهم، تحت الأرض.

يضع فريق من الباحثين، بقيادة عالمة الآثار والأنثروبولوجيا إيلين شوتسمانز من جامعة بوردو في فرنسا، في دراسة جديدة تحليلًا للطقوس الجنائزية التي كانت تقام في إحدى أقدم مدن العالم، كاتال هويوك.

«غالبًا وُضعت جثث البالغين بوضعية منحنية، أسفل المنصات الشمالية والشرقية للغرفة المركزية، أما الرضع فقد دُفنوا في أماكن مختلفة ضمن المنزل».

لم تكن أماكن الدفن الأمر الوحيد الاستثنائي والغريب بالنسبة إلى معاييرنا الحديثة. فعظام كاتال هويوك لُوّنت في بعض الأحيان حسب الطقوس السائدة قبل الدفن، مع أننا في حالة الكثير منها مازلنا نجهل تفاصيل الأصباغ المستخدمة، والرمزية المُرادة من تلوينها.

فحص الباحثون بقايا الهياكل العظمية لسكان كاتال هويوك القدامى، الذين استُخرج نحو 800 منهم منذ التسعينيات، وحللوا أيضًا الأصباغ المستخدمة عليهم -أو على الأشياء المرتبطة المدفونة- باستخدام مطياف الأشعة السينية الفلورية.

وُجد أن نسبة صغيرة من موتى أقدم مدن العالم، كاتال هويوك -نحو 6% من الأفراد الذين شملتهم الدراسة- قد صُبغت عظامهم، في حين تميزت نحو 11% من أغراض القبر المدفونة مع المتوفى بظهور الأصباغ عليها، مثل الأصداف والأواني والسلال والمواد المصنوعة من العظام.

غالبًا، كان الصباغ المستخدم على البقايا العظمية أحمر اللون -عادةً على الجمجمة- وكانت المغرة الحمراء أكثر أنواع الصباغ استخدامًا. تلقى الذكور معالجةً مباشرةً بالأصباغ أكثر من الإناث، وكان البالغون أيضًا أكثر احتمالًا بقليل للصبغ من الأطفال.

عكست الأصباغ الأقل شيوعًا الهوية الاجتماعية للمتوفى. لاحظ الباحثون أن الزنجفر -شكل أحمر من كبريتيد الزئبق- استُخدم غالبًا للذكور، وطُلي مباشرةً على العظم، أو امتُص من عصابات الرأس الحمراء التي ارتداها الرجال وهم أحياء أو عند دفنهم بعد الموت. في حين اقتصرت الأصباغ الزرقاء والخضراء على الفتيات والأطفال.

قال الباحثون: «ارتبطت الألوان بمفاهيم مثل النمو والخصوبة والنضج، وذلك تجريد متعلق بالتحول إلى الزراعة»، وإن أشاروا إلى أن صغر حجم العينات المكتشفة حتى الآن يحد من قدرتنا على تفسير الاكتشاف.

لكن من الواضح وجود ارتباط بين عدد المدافن داخل المنزل وطبقات الرسم الموجودة على الجدران أعلى القبر.

كتب ماركو ميليلا، عالم الأنثروبولوجيا من جامعة بيرن: «يعني ذلك أنهم كلما دفنوا أحدًا، رسموا على جدران المنزل».

بجانب مسألة الأصباغ، لم يُدفن الجميع في أقدم مدن العالم كاتال هويوك بالطريقة ذاتها، بل ربما أن بعضهم لم يظل مدفونًا حتى الآن. من بين البقايا البشرية التي عُثر عليها، البعض لم يزعجه أحد منذ دُفن، في حين تأثر بعضهم الآخر بنشاط العصر الحجري الحديث، إذ وُجدت أدلة من الهياكل العظمية المفككة أو العظام المفصولة والمبعثرة.

هذا قد يعني أن الهياكل العظمية قد حُفرت في بعض الأحيان في كاتال هويوك، أقدم مدن العالم، إذ كان لعظام الموتى دور في الطقوس الرمزية في المجتمع، قبل أن يُدفنوا أخرى.

كتب الباحثون: «الأفراد الآخرون، أجسادًا مكتملة أو عناصر عظمية منفردة، واصلوا البقاء في المجتمع».

«ترسبت هذه العناصر العظمية المنتشرة في نهاية الأمر في الترسيب الثانوي أو الثالثي، ما قد يكون مرتبطًا أيضًا بإنشاء لوحات معمارية بطريقة غير مباشرة».

رغم صعوبة معرفة الغرض التي استُخدمت له على وجه اليقين، أفاد الباحثون بأن الاستخدام المستمر للبقايا البشرية قد يكون طريقةً لإحياء ذكرى هؤلاء الأشخاص.

وفقًا لعلماء الأنثروبولوجيا، تنتقل الذاكرة الجماعية عبر الأجيال بتكرار الأفعال السابقة، والارتباط المباشر بين الشيء والذكرى.

ربما كانت عمليات الدفن داخل الجدران جزءًا من عمليات الاحتفاظ، إذ ساهمت كل عملية دفن في الذاكرة المجتمعية، بإبقاء المتوفى قريبًا من الإيقاع اليومي للأنشطة المنزلية المتكررة في أقدم مدن العالم، كاتال هويوك.

اقرأ أيضًا:

اكتشاف أقدم الحفريات المعروفة لسلالة بشرية غامضة في كهف دينيسوفا في سيبيريا

أهم الشخصيات في التاريخ القديم – الجزء الثالث

ترجمة: نيفين الشلي

تدقيق: آلاء رضا

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر