قبل نحو 2.5 عام، بدأت أدمغة أشباه البشر بالنمو لأدمغة أكبر حجمًا. وبعد ألاف السنين، أصبح دماغ الإنسان أكبر بنحو ثلاثة أضعاف، وأدى هذا النمو إلى ظهور كائن جديد وهو الإنسان العاقل الذي حكم في النهاية الكوكب.

تتطلب الأدمغة كمية كبيرة من الطاقة، ويشير تطور الدماغ بهذا الشكل إلى أن الكائن الذي يمتلك هذا الدماغ باستطاعته امتصاص كمية كبيرة من السعرات الحرارية، أي أن الكائن في حاجة إلى معدة كبيرة.

تقول إحدى النظريات الشائعة إن ظهور الطهي قد ساعد على هضم الطعام وتحسين قدرة الإنسان على استخلاص السعرات الحرارية، ولكن النار والطهي من صنع الإنسان قد جاءا متأخرين بنحو مليون عام، ومن المحتمل أيضًا أن الإنسان كان في حاجة إلى أدمغة أكبر لكي يستطيع استخدام النار في البداية، لذا تبدو هذه النظرية غير منطقية.

هناك دراسة جديدة أجرتها إيرن هيشت من جامعة هارفارد وكاثرين براينت من جامعة إيكس مرسيليا، استنتجت هذه الدراسة نظرية بديلة لتطور الدماغ وهي: «إذا كان الكلام عن أن زيادة الطاقة تأتي من الأطعمة المخمرة صحيحًا، فهذا يعني أن تطور أدمغة البشر كانت مرتبطة بالميكروبات منذ بداية تاريخ الإنسان».

جميع الحيوانات تعتمد على الميكروبات المعوية في مساعدتها على هضم الطعام، إذ يمكن أن تمتص أمعاء الحيوانات البروتين بسهولة، وكذلك الكربوهيدرات البسيطة، ولكنها تواجه صعوبة في امتصاص الكربوهيدرات المعقدة مثل الألياف.

مع ذلك، فإن الألياف هي عنصر رئيسي في النباتات التي يتناولها الإنسان في نظامه الغذائي. لذلك فمنذ أن سكنت الحيوانات الأرض، كانت تستغل الميكروبات لتخمير هذه الألياف وتحويلها إلى دهون حمضية مفيدة. يمكن أن تحول الأحصنة مثلًا نظامها الغذائي من عشب بسيط خالي من المواد الغذائية إلى طاقة تفوق طاقة الأسود الجبلية.

لكن يبدو أن أسلاف البشر قد عثروا على طريقة مثلى، وهي جعل الطعام يختمر قبل أن يؤكل، فمع طعام مهضوم جزئيًا، تستطيع أمعاء أصغر أن تدعم حجم دماغ أكبر.

كان اللحم جزءًا مهمًا من مخزون الطعام المخمر، إذ يعتقد معظم علماء الآثار أن تناول اللحوم كان نقطة تحول كبيرة في تطور الدماغ. مع ذلك فإن المعروف أن البشر يفتقرون إلى القوة في الأسنان والمخالب، ولا يُظهر السجل الأثري أن الإنسان كان صيادًا بارعًا في المراحل الأولى من تطوره.

كان البحث عن الأطعمة المتبقية من فرائس الحيوانات الأخرى هو الأقرب لأسلوبنا آنذاك، لكن فرصة العثور على ما يكفينا من هذه الأطعمة ضئيلة بعد أن تملأ المفترسات الكبيرة بطونها. لهذا يرجح أن «الاقتناص بالحيلة»، وهو المصطلح اللطيف للعمل في مجموعات لطرد هذه المفترسات، بعيدًا في حين ما زال هناك لحم على عظام الفرائس.

هناك أدلة تثبت أن أشباه البشر قد أدخلو استخدام الأدوات إلى الولائم، إذ كانوا يقطعون اللحم ثم يأخذونه لمساكنهم، وينقلونه لمسافات طويلة قد تصل إلى عشرة كيلومترات؛ للحفاظ على مسافة آمنة من الحيوانات والكائنات آكلة الفضلات. كان أشباه البشر يجمعون هذه اللحوم على شكل أكوام تتخمر تلقائيًا، بهذه الطريقة، يطول العمر المفترض للحوم وكذلك تحسين القابلية لهضمها، إذ يزيد تخمر الطعام من القيمة البيولوجية لتغذيتها ويجعلها سهلة الامتصاص، ويمكنه أيضًا تدمير المواد السامة وتكوين الفيتامينات.

كان لتخزين الأطعمة المخمرة دور كبير في حل مشكلات كانت تواجه أشباه البشر، إذ إن الأدمغة الكبيرة تحتاج إلى تغذية مستمرة. يتيح تخمير الطعام الاحتفاظ به أعوامًا. يضمن هذا المخزون استمرار مصادر الطاقة التي يحتاجها الكائن للحفاظ صحته عقله واستمرار تطور دماغه. كان هذا هو الحل الأمثل لأسلافنا الذين كانوا أقل ذكاء، ولا يتطلب ذكاء أو بصيرة ثاقبة لتحقيقه، إذ إن الطعام المخمر شائع في الطبيعة.

قد يبدو مصطلح اللحم المخمر مثيرًا للاشمئزاز في وقتنا الحالي، لكن في الواقع أن لحم الخنزير، والرنجة المخللة، وبروسسيوتو والبيبروني، والكوريزو، والسلامي كلها أمثلة لذيذة على اللحوم المخمرة. في الواقع، الكثير من الأطعمة المخمرة التي نتناولها اليوم، مثل صلصة الصويا والخل والصلصة، هي توابل يضيفها البشر إلى الأطعمة لزيادة النكهة. يُعد البشر فريدين إلى حد ما بين الحيوانات عندما يتعلق الأمر بالاستمتاع بالخميرة الحامضة، وهذا يؤكد نمط الاستهلاك طويل الأمد.

قبل اختراع الثلاجات، كان التخمير هو الطريقة المثلى لحفظ الطعام. مع أربعينيات القرن الماضي، بدأت الثلاجات المنزلية في الانتشار على نطاق واسع، ما أدى إلى نهاية وجود العديد من الأطعمة المخمرة. لماذا يصنع البشر مخلل الملفوف، في حين يمكن أن يبقى الملفوف أسابيع في الثلاجة؟

حصلت تغييرات أخرى مع التنظيم الحكومي لتجهيز الأغذية، إذ تقدم منظمات سلامة الأغذية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، لوائح معقدة ومتضاربة في كثير من الأحيان للأغذية المخمرة، وهو دفع العديد من الشركات المصنعة إلى بسترة خمائرها، ما أدى إلى تدمير جميع الميكروبات. كان هذا الأمر مفيدًا؛ لأنه يقتل بكتيريا كلوستريديوم بوتيولينوم الخطيرة على نحو فعال، لكنه يزيل الميكروبات المفيدة في الوقت ذاته. حتى الخمائر المبسترة، يبدو أنها تقدم بعض الفوائد الصحية على الرغم من عدم وضوح آلياتها تمامًا.

لقد أدى التبريد والبسترة إلى تغيير كبير في النظام الغذائي الذي ساعد البشر آلاف السنين التي لا توصف. قال بعض الباحثين إن نقص الميكروبات الغذائية المفيدة في العصر الحديث «أصدقائنا القدامى» يرتبط اليوم بزيادة معدل الحساسية وأمراض المناعة الذاتية. تكتسب فرضية «الأصدقاء القدامى» دعمًا تجريبيًا عندما يبدأ الباحثون بتقدير دور الميكروبات على صحتنا الجسدية والعقلية على نحو أفضل.

لحسن الحظ، في العقد الأخير، كانت هناك نهضة للأطعمة المخمرة، وبدأ الناس يتعلمون من جديد اشتهاء الزبادي المنعش، والكفير، والملفوف، والمخللات، وغيرها من الخميرة من جميع أنحاء العالم. في الوقت المناسب أيضًا، ثبت أن الأطعمة المخمرة تعمل على تحسين أمراض القلب والأوعية الدموية وبعض أنواع السرطان، وتساعد على تقليل الالتهاب. في هذه الحالة، يمكنها تحسين الإدراك والمزاج.

يمكن أن يستفيد معظم الأشخاص من الأطعمة المخمرة، إلا إذا كان الشخص يعاني تفاقم مرض القولون العصبي أو مرض التهاب الأمعاء، فيجب عليه أن ينتظر حتى يهدأ ذلك العرض، إذ يمكن أن تسمح الأمعاء المسربة للميكروبات بالدخول إلى مجرى الدم، وهو ما يمثل مشكلة للأشخاص الذين يعانون ضعف الجهاز المناعي.

إن لم يكن لدى الشخص مشكلة، يمكن محاولة إدخال بعض الأطعمة المخمرة في النظام الغذائي. ينبغي البدء بتناولها بصورة تدريجية إن لم يكن معتادًا عليها. سيعيد هذا الشخص لجذوره القديمة، وستفيد هذه الأطعمة العقل وستساعد على تطور الدماغ؛ لأنها تُعد غذاء للفكر أيضًا.

اقرأ أيضًا:

السعادة وتطور حجم الدماغ

لماذا تطورت أدمغتنا لتصبح بهذه الضخامة؟

ترجمة: ياسين أحمد

تدقيق: بسام موسى

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر