تتردد على مسامعنا كثيرًا مقولة إن المرء يتعلم من أخطائه، لكن العلم يرى أننا غالبًا نفشل في التعلم من أخطاء الماضي، وأننا على الأرجح نستمر في تكرار نفس الأخطاء!

لكن ما المقصود هنا بالأخطاء؟ لا ريب أننا إذا وضعنا أيدينا على موقد ساخن سنتعلم بسرعة أننا سنتأذى، ومن غير المرجح أن نكرر هذا الخطأ مرةً أخرى، لأن أدمغتنا تكوّن استجابة للتهديدات المتمثلة بالمنبهات المؤلمة جسديًا بناءً على التجارب السابقة. لكننا نكرر غالبًا الأخطاء المتعلقة بالتفكير والأنماط السلوكية وعملية اتخاذ القرارات، كالتأخر عن المواعيد وتأجيل الواجبات حتى اللحظات الأخيرة، والحكم على الأشخاص بناءً على الانطباعات الأولى.

قد يكمن السبب في الطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات، وميله إلى إنشاء قوالب يستند إليها مرارًا وتكرارًا. هذه القوالب المعروفة باسم الاختصارات المعرفية هي في الجوهر سبل مختصرة تساعدنا على اتخاذ القرارات في الحياة الواقعية، لكنها في الوقت نفسه قد تدفعنا إلى تكرار الأخطاء.

يميل البشر إلى الاعتقاد أنهم كائنات عقلانية بطبيعتها، لكننا لسنا كذلك. يشكل الحمل الزائد من المعلومات ضجيجًا صاخبًا مرهقًا ومربكًا للدماغ، ما يدفعه إلى محاولة تصفيتها بطرق متعددة.

نرى نحن أيضًا أجزاء فقط من العالم، ونميل إلى ملاحظة الأشياء التي تتكرر سواء أكانت تتكرر وفق أنماط محددة أم لا. ونميل أيضًا إلى الحفاظ على ذاكرتنا بالتعميم واللجوء إلى التنميط، وتنتقي أدمغتنا خلاصات من البيانات المتفرقة التي تتلقاها، وتستخدم الاختصارات المعرفية لتكوين نسخة من الواقع نرغب ضمنيًا بالإيمان بها. ونتمكن باستغلال كل ذلك من تقليل تدفق المعلومات الواردة، ما يساعدنا على ربط النقاط وملء الفجوات بالمعلومات التي ندركها بالفعل.

في النهاية أدمغتنا كسولة، ويتطلب تغيير هذه الاختصارات التي بنيناها بالفعل جهدًا معرفيًا هائلًا. لذا من المرجح أننا سنعود إلى نفس الأفعال والأنماط السلوكية حتى لو أدركنا أننا نكرر أخطاءنا. يسمى هذا الفعل بالانحياز نحو التأكيد، ويعني نزعتنا نحو تأكيد ما نؤمن به بالفعل وإثباته بدل تغيير طريقة تفكيرنا ودمج المعلومات والأفكار الجديدة.

نتبع أيضًا غالبًا ما يسمى بالغريزة الداخلية، وهي نوع تلقائي من التفكير غير الواعي يعتمد على تجاربنا السابقة المتراكمة لإصدار الأحكام والقرارات في المواقف الجديدة.

نلتزم أحيانًا بأنماط سلوكية معينة، ونكرر أخطاءنا بسبب (تأثير الأنا) الذي يجبرنا على التمسك بمعتقداتنا الحالية. أي أننا نميل إلى انتقاء المعلومات التي تساعدنا على الحفاظ على غرورنا أو على هذه (الأنا).

من ناحية أخرى، وجدت إحدى التجارب أن الناس الذين يُذَكّرون مرارًا بالنجاحات التي حققوها في الماضي كانوا أكثر احتمالًا لتكرار السلوكيات الناجحة، وأن الأشخاص المدركين لإخفاقاتهم السابقة أو ذُكِّروا بها عمدًا كانوا أقل احتمالًا لتغيير نمط السلوك الذي أدى إلى إخفاقهم. أي أن الأشخاص يميلون إلى تكرار السلوكيات ذاتها على الأرجح.

يكمن التفسير في أننا غالبًا نشعر بالإحباط عندما نتذكر تلك الإخفاقات، ويدفعنا الإحباط في تلك اللحظات إلى الانغماس في السلوك الذي يجعلنا نشعر بالراحة والإلفة، حتى عندما نتروى بعناية في تفكيرنا، ستنحاز أدمغتنا نحو المعلومات والقوالب التي اعتادت عليها مسبقًا بصرف النظر عن كونها هي المسؤولة عن تلك الأخطاء، يسمى هذا التأثير بالمعرفة المنحازة أو الانحياز نحو المألوف.

مع كل ذلك ما زلنا قادرين على التعلم من أخطائنا، ففي إحدى التجارب عرض باحثون على مجموعة من الأشخاص والقرود مجموعة من النقاط المتحركة المضيئة والصاخبة على شاشة، وراقبوا تخمينهم لاتجاه حركة هذه النقاط بالاعتماد على مراقبة حركة أعينهم. وجد الباحثون أن الناس والقرود تباطأ تفكيرهم بعد مصادفتهم لخطأ في حركة النقاط. وكلما زادت شدة الخطأ زادت مدة تريثهم وتباطؤهم، أي أنهم كانوا في فترة تريثهم يخزنون مزيدًا من المعلومات، لكن جودة هذه المعلومات كانت منخفضة. بالمختصر اختصاراتنا المعرفية قد تجبرنا على تجاوز المعلومات الجديدة التي قد تساعدنا على منع تكرار الأخطاء.

في الواقع، إذا كنا نرتكب أخطاء في أثناء إجراء مهمة معينة سيدفعنا الانحياز نحو التكرار أو (التكرار المنحاز) غالبًا إلى إعادة هذه الأخطاء عندما نكرر ذات المهمة، بمعنى آخر، تبدأ أدمغتنا بافتراض أن الأخطاء التي ارتكبناها سابقًا هي الطريقة السليمة لأداء هذه المهمة، وتصمم مسار خطأ فطري أو اعتيادي. لذا مع تكرارنا لهذه المهمة ستزداد فرصة عبورنا مسار الخطأ هذا، ويصبح متأصلًا بعمق بعد أن يضمه دماغنا إلى مجموعة الاختصارات المعرفية الدائمة لديه.

الضبط المعرفي

يبدو كل هذا محبطًا. فهل بوسعنا فعل شيء اتجاهه؟ نمتلك قدرةً عقليةً بوسعها تجاوز الاختصارات المعرفية تُعرف باسم الضبط المعرفي، وتزودنا بعض الدراسات الحديثة على الفئران في علم الأعصاب بفكرة أفضل عن أجزاء الدماغ المساهمة في هذه العملية.

حدد الباحثون منطقتين من الدماغ تضمان (عصبونات مراقبة الأخطاء الذاتية) وتقعان في القشرة المخية الأمامية. ويبدو أنهما تشكلان جزءًا من سلسلة خطوات المعالجة الفكرية التي تمر من إعادة التركيز وصولًا إلى التعلم من الأخطاء.

يأمل الخبراء عبر توسعهم في فهم هذا المجال في إمكانية تطوير علاجات أفضل لدعم مرضى ألزهايمر، لأن التحكم المعرفي أمر مهم جدًا مثلًا لتحقيق الرفاهية في الحياة.

لكن حتى لو لم نتقن فهم عمليات الدماغ المشاركة في عملية الضبط المعرفي والتصحيح الذاتي، ما زلنا نمتلك بعض الحيل البسيطة التي نستطيع تطبيقها.

إحداها أن نرتاح أكثر لارتكاب الأخطاء! قد يظن البعض أن هذه استجابة خاطئة للإخفاقات، لكنها في الواقع طريقة أكثر إيجابية للمضي قدمًا. تشوه مجتمعاتنا الأخطاء والإخفاقات، ما سيدفعنا إلى محاولة إخفاء هذه الأخطاء بسبب الشعور بالعار المرتبط بها. وكلما زاد هذا الشعور بالعار ومحاولتنا لإخفاء أخطائنا عن أعين الآخرين سيزداد احتمال تكرارنا لها. عندما يخف شعورنا بالإحباط من أنفسنا ستزداد فرصة تحسننا في تلقي المعلومات الجديدة التي ستساعدنا على تصحيح الأخطاء.

قد يفيد أيضًا أخذ استراحة من أداء مهمة نرغب أن نتعلم كيفية إجرائها بصورة أفضل، والاعتراف بالإخفاقات والتوقف للنظر فيها قد يساعدنا أيضًا في تقليل انحيازنا لتكرارها، ما يجعلنا أقل عرضةً لتكرار الأخطاء وتغيير مسارات الخطأ.

اقرأ أيضًا:

لماذا نعيد ارتكاب نفس الأخطاء؟

لماذا يجب أن تدع طفلك يفشل أحيانًا؟

ترجمة: رضوان مرعي

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر