كشف الباحثون حديثًا أول الأدلة لوجود ما يُسمى «الاقتران الكوني»، المُشار إليه في نظرية أينشتاين للجاذبية، الذي يمكن حدوثه عندما توجد الثقوب السوداء ضمن كون متطور.

في حديث مفصل، درس الباحثون الثقوب السوداء فائقة الكتلة الموجودة في قلب المجرات القديمة والخامدة، بهدف إيجاد توصيف لها يوافق ما لوحظ خلال العقود الماضية. نتج عن اكتشافاتهم مقالتان بحثيتان نُشرتا في مجلة الفيزياء الفلكية. جاء في المقالة الأولى موضوع اكتساب الثقوب السوداء كتلتها على مدار مليارات السنين بطريقة لا يمكن تفسيرها ببساطة من خلال عمليات هذه الثقوب والمجرات القياسية، مثل عمليات الاندماج أو تراكم الغاز.

جاء في المقالة الثانية موضوع التزايد في كتل هذه الثقوب السود، الذي يطابق توقعاتها التي لا تقترن كونيًا فقط، بل تتضمن طاقة الفراغ الناتجة من ضغط المادة قدر الإمكان دون خرق معادلات آينشتاين، ومن ثم تجنب «التفرد». أظهرت الورقة أيضًا أنه عند إزالة هذه التفردات، فإن الطاقة الفراغية المجمعة للثقوب السوداء الناتجة عن موت النجوم الأولى، توافق الكمية المُقاسة من المادة المظلمة للكون.

يقول عالم الفلك في جامعة هاواي، رئيس فريق البحث دونكان فارا: «يتضمن البحث نقطتين رئيستين، الأولى هي وجود دليل على عدم فعالية الحلول النمطية للثقوب السوداء عند المجالات الزمنية الطويلة، والثاني وجود أول مصدر فيزيائي مبدئي مقترح للطاقة المظلمة. يعني ذلك أنه رغم الاقتراحات السابقة بوجود مصادر محتملة للطاقة المظلمة، يُعد عملنا أول عمل قادر على الملاحظة الفعلية، فنحن لم نقترح شيئًا جديدًا بوصفه مصدرًا للطاقة المظلمة في الكون، بل أوضحنا اعتبارية الثقوب السوداء في نظرية آينشتاين للجاذبية، أنها بحد ذاتها هي الطاقة المظلمة». وفقًا لفارا، يمكن اعتبار وجود مقياس جديد في حالة دعمه بأدلة أكثر، فربما كان من الممكن معرفة ماهية الثقوب السود.

العودة بالزمن تسعة مليارات سنة:

في الورقة الأولى، أشار الفريق البحثي إلى كيفية استخدام مقاييس الثقوب السوداء الموجودة، للبحث عن الاقتران الكوني. يقول فارا: «يرتبط اهتمامي بهذا المشروع بالاهتمام العام بالتجارب والملاحظات الفعلية للأدلة التي تدعم إيجاد نموذج للثقوب السوداء، قادر على العمل بصرف النظر عن المدة المستغرقة لإيجادها. ذلك أمر في غاية الصعوبة تطبيقيًا، بسبب بُعد الثقوب السوداء ما يجعلها صعبة الملاحظة مباشرةً».

تُعد الثقوب السوداء صعبة الملاحظة في المجالات الزمنية الطويلة، إذ يُمكن تشكيلها خلال ثوان قليلة أو حتى عشرات السنين، وهو وقت غير كاف لكشف كيفية تغيرها على مدار عمر الكون، لذلك فإن إمكانية رؤيتها خلال مليارات السنين مهمة صعبة.

يقول بروفيسور الفيزياء في جامعة ميشيغان غريغوري تارليه: «لقياس كتل الثقوب السوداء، يجب تعريف مجتمع للثقوب السوداء وتحديد توزع كتلها على مدار مليارات السنين الماضية، ثم يجب النظر في هذا المجتمع أو أسلاف هذه الثقوب المتصلة به، وهو أمر بالغ الصعوبة».

أدرك الفريق البحثي أن المجرات تحتوي على مفاتيح معرفة عديدة، لمّا كان لديها أبعاد حياتية تصل إلى مليارات السنين، ومعظمها يحتوي على ثقوب سوداء هائلة، فيجب الاختيار الصحيح للمجرة المراد دراستها. تقول خبيرة المجرات لدى الجمعية البحثية نورثويست، المشاركة في كتابة البحث سارا بيتي: «رغم وجود العديد من الأدبيات التي تتفرد بطرحها لطرق قياس السلوكيات الخاصة بالثقوب السوداء في المجرات، لا يوجد إجماع فيما بينها على ذلك».

تشكلت المجرات الإهليلجية الضخمة مبكرًا، وهي بقايا لتجمُّع المجرات، إذ يفترض علماء الفلك أنها النتيجة النهائية لتصادم المجرات مع ملايين النجوم الأولى العملاقة. يقول تارليه: «هذه المجرات قديمة، ولا تشكل العديد من النجوم الحديثة، إذ يوجد كميات قليلة من الغاز بينها، وعلى هذا فهي ليست غذاءً للثقوب السوداء».

استطاع الفريق فتح باب النقاش حول تغير كتل الثقوب السوداء الموجودة في المجرات، ذلك بالنظر إلى المجرات الإهليلجية، وتمكنوا من استخلاص أنه لا يمكن أن يكون سبب التغير مرتبطًا بأي من العمليات المعروفة سابقًا. من خلال المُجمعات المشار إليها سابقًا، تمكنوا من اختبار كيفية تغير الثقوب السوداء المركزية في المجرات خلال تسع مليارات سنة الماضية.

لو كان النمو في كتل الثقوب السوداء ناجمًا فقط عن التراكم أو الدمج، فإن كتل هذه الثقوب لا يُتوقع لها النمو الكبير مطلقًا. لكن إذا اكتسبت الثقوب السوداء كتلتها بواسطة الالتحام بالكون المتمدد، فإن هذه المجرات الإهليليجية قد تفسر الأمر.

إضافةً إلى ما سبق، وجد الباحثون أن الثقوب السوداء صغيرة الكتلة مرتبطة بالثقوب السوداء الموجودة اليوم، وذلك بالنظر في ماضي هذه الثقوب. إذ كانت الثقوب السوداء في كل مكان، وكتلتها اليوم نحو 7 – 20 ضعفًا أكبر مما كانت عليه قبل 9 مليارات سنة. أشار العلماء إلى أن الاقتران الكوني قد يكون سببًا لذلك.

الثقوب السوداء والطاقة المظلمة:

واصل الفريق بحث موضوع قياس نمو الثقوب السوداء، الذي تضمنته الورقة البحثية الأولى، ذلك بالتعمق في دراسة موضوع الاقتران الكوني، ما أثمر طرحهم للورقة البحثية ثانية.

يقول كيفن كروكر، عالم الفلك في جامعة هاواي، المؤلف المشارك في البحث: «يمكن تقريب فكرة اقتران الثقب الأسود بتشبيهها بلعبة شد حبل مطاطي، فكلما تمدد الكون، تمدد معه الثقب. في عملية التمدد هذه تزداد الطاقة وفقًا لمعادلة آينشتاين E=mc^2، وتزداد طاقة الثقب أيضًا».

يعتمد ازدياد كتلة الاقتران على مقدار تزايد الكتلة الفعلي، ما عبر عنه الباحثون بالمُعامل (k)، يفسر كروكر دلالة المُعامل k بالقول: «كلما ازدادت صلابة الحبل، ازدادت صعوبة تمدده، أي ازدادت الطاقة اللازمة للتمدد، وهو ما يمثله المُعامل k».

يُنسب تزايد نمو كتلة الثقوب السوداء في الاقتران الكوني إلى حجم الكون. ولمّا كان الكون أصغر حجمًا في الماضي، فإن الثقوب السوداء المُشار إليها في الورقة البحثية الأولى يجب أن تكون ذات كتل صغيرة بالقدر ذاته، حتى يتضح عمل الاقتران الكوني.

اختار الفريق البحثي خمسة مجتمعات لثقوب سوداء في ثلاث مجموعات تابعة لمجرات إهليلجية، بغية اختبارها، على أساس أن حجم الكون يُعادل مقدار النصف والثلث بالنسبة إلى حجمه الحالي، وفي كل مقارنة قاسوا المعامل k، وكانت قيمته تقارب (3+). سابقًا، توقعوا هذه القيمة للثقوب السوداء التي تحتوي على طاقة فراغية، عوضًا عن فكرة التفرد التي طرحها قبل أربع سنوات كروكر، وطالب الدراسات العليا وبروفيسور الرياضيات في جامعة هاواي جول وينير.

في شرحهم للفكرة، أوضح كروكر ووينير أنه عندما تكون قيمة المعامل k تساوي 3+، فإن كل الثقوب السوداء في الكون مجتمعة تساهم في تشكيل طاقة مظلمة ثابتة تقريبًا، ما يُطابق قياسات الطاقة المظلمة المقترحة.

يتساءل تارليه: «لكن هل هذا حقًا كاف؟ هل الثقوب السوداء التي وُجدت خلال الزمن كافية لقياس ما نسبته 70% من الطاقة الموجودة في الكون الآن؟».

بالانتقال إلى موضوع عدد الثقوب السوداء في الكون، فمن المعروف أن الثقوب السوداء تتكون من نجوم عملاقة فانية. لو أمكن تقدير عدد النجوم العملاقة التي تشكلت، فيمكن بذلك تقدير عدد الثقوب السوداء الموجودة، ومقدار نموها الناجم عن هذا الاقتران الكوني. استطاع الفريق مقارنة الأعداد المستخلصة من بحثهم بتلك الناتجة من القياسات الحديثة لتلسكوب جيمس ويب، المرتبطة بمعدل تشكل النجوم الحديثة، ووجدوا تقاربًا ملحوظًا.

يقول الباحثون إنهم زودوا باحثي الفيزياء النظرية وعلماء الفلك بمنصة عمل تساعدهم في اختباراتهم، خاصةً تلك المتعلقة بالجيل الحديث من تجارب الطاقة المظلمة، مثل«أداة الطاقة المظلمة» الطيفية، و«مسح الطاقة المظلمة».

يضيف تارليه: «لو ثبت الاقتران الكوني، قد يعني ذلك أن الثقوب السوداء غير منفصلة كليًا عن الكون، وأنها ستواصل التأثير في تطور الكون في المستقبل البعيد. يُعد السؤال عن طبيعة المادة المظلمة أحد أهم الأسئلة الغامضة في الفيزياء الحديثة، إذ تُشكل نحو 70% من طاقة الكون. الآن فقط قد نتمكن من معرفة مصدر هذه الطاقة، وسبب وجودها، وهو أمر بالغ الأهمية».

اقرأ أيضًا:

الطاقة المظلمة

تجربة جديدة تضع ضوابطًا رئيسية لتفسير قوة الطاقة المظلمة

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر