سببت الرسوم الجمركية «المتبادلة» الواسعة التي فرضها ترامب حالةً من الغموض الشديد، ما دفع العديد من الشركات حول العالم إلى تأجيل استثماراتها وقراراتها الكبرى في انتظار مزيد من الوضوح.

رغم الإعلان عن تعليق مؤقت للرسوم الجمركية مدة 90 يومًا، تظل الشركات الكبرى متوجسة، وتتحرك بحذر شديد.

يُعد ذلك خبرًا سيئًا للنمو الاقتصادي، لا سيما في ظل التحديات الجيوسياسية الإضافية، مثل الحرب في أوكرانيا والتحولات في علاقات الناتو.

لفهم أثر هذه الرسوم الجمركية في أوروبا ومناطق أخرى، تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تحتسب العجز التجاري بناءً على السلع فقط، متجاهلةً قطاع الخدمات، مع أن أمريكا تُعد من أبرز مصدري الخدمات عالميًا. هذا التحيز يؤدي إلى تصور غير دقيق للفجوة الحقيقية في التجارة بين الولايات المتحدة وأوروبا.

يزعم البيت الأبيض أن متوسط الرسوم الجمركية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على البضائع الأمريكية يبلغ نحو 39%، لتبرير فرض رسوم متبادلة بنسبة 20%، ولكن بيانات منظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي تشير إلى أن النسبة الحقيقية تتراوح بين 1% و5% فقط.

بالمقابل، ردت الصين على هذه الرسوم الجمركية بتعهدها بـ «القتال حتى النهاية»، ما دفع الولايات المتحدة إلى رفع رسومها الجمركية من 104% إلى 125%، بالتزامن مع تعليق مؤقت مدة 90 يومًا لمعظم الدول الأخرى.

الجميع خاسر في الحرب التجارية:

يؤدي التصعيد بفرض رسوم جمركية متبادلة إلى مضاعفة الآثار السلبية القائمة أصلًا. مع اشتداد الحرب التجارية، تتعرض الشركات المُصدِّرة لضرائب جديدة على منتجاتها، وتصبح واردات أوروبا من الولايات المتحدة أكثر تكلفة، والنتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم.

مع أن الاتحاد الأوروبي قدم عروضًا متعددة لتطبيق مبدأ «صفر مقابل صفر» على الرسوم الجمركية لبعض السلع، رفضها ترامب مرارًا.

بدأ الاتحاد الأوروبي الرد بخطوة أولى تمثلت في إعلان فرض رسوم جمركية تدريجية على الواردات الأمريكية بقيمة 21 مليار يورو. مع ذلك، أوضحت المفوضية الأوروبية أن «هذه التدابير يمكن تعليقها في أي وقت، حال التوصل إلى اتفاق متوازن وعادل مع الولايات المتحدة».

من جانبها، رحبت أورسولا فون دير لاين –رئيس المفوضية الأوروبية- بقرار تعليق الرسوم الجمركية، وعدّته «خطوةً مهمة نحو استقرار الاقتصاد العالمي».

في بيانها، أكدت أن «الرسوم الجمركية هي في الأساس ضرائب تؤذي الأعمال والمستهلكين»، داعيةً إلى العودة إلى ظروف تجارية واضحة وقابلة للتوقع، بوصفها أساسية لعمل سلاسل الإمداد والأسواق الدولية.

التكلفة الاقتصادية للغموض:

من المرجح أن قرار ترامب بتعليق الرسوم الجمركية جاء نتيجة ضغوط من الأسواق المالية، وارتفاع متوقع في الأسعار الاستهلاكية، إضافةً إلى التوتر في سوق السندات الأمريكية. رغم استجابة إيجابية مؤقتة من أسواق المال، فإن المشهد طويل الأمد ما زال يكتنفه الغموض، فالتعليق مؤقت، والحرب التجارية لم تنتهِ.

مع استمرار الأسواق في تقييم تداعيات الرسوم الجمركية، تجد الشركات نفسها عالقةً وسط نار السياسات العالمية، إذ يخلق تقلُّب السياسات الجمركية بيئةً غير مستقرة تضعف ثقة الشركات وتضر مناخ الاستثمار.

غالبًا ما تختار الشركات التعامل مع هذا النوع من الغموض بتعديل سلاسل الإمداد، والابتعاد عن الدول التي تفرض رسومًا جمركية مرتفعة، أو التي تسودها حالة من عدم الاستقرار، ولكن هذا التعديل ليس سهلًا ولا رخيصًا. في حالة الشركات الأوروبية، سيكون من المكلف جدًا استبدال الموردين الأمريكيين أو تقليل الاعتماد على شريك تجاري رئيسي أو البحث عن أسواق بديلة.

الرسوم الجمركية لا تعالج جوهر المشكلة:

مع أن هدف ترامب من فرض الرسوم الجمركية هو معالجة العجز التجاري، فإن هذا العجز له منطق اقتصادي. إذ تميل الدول إلى التخصص في السلع والخدمات التي تمتلك فيها ميزة تنافسية.

مثلًا، تُعد كولومبيا والبرازيل من كبار منتجي القهوة في العالم، بفضل ظروف الزراعة المثالية. في الولايات المتحدة، لا يُزرع سوى نحو 0.35% من القهوة المستهلكة محليًا، ومعظمها في هاواي. في هذه الحالة، لن تغير الرسوم الجمركية المناخ أو تحسن نوعية التربة.

أما في الصناعات كثيفة العمالة مثل صناعة الملابس والأحذية، فإن إعادة الإنتاج إلى الداخل الأمريكي مثل حالة شركة نايكي سيرفع التكاليف ارتفاعًا كبيرًا بسبب ارتفاع الأجور. لهذا، من غير الواقعي توقع عودة وظائف التصنيع منخفضة الأجور إلى الولايات المتحدة.

كيف تتعامل الشركات مع الغموض؟

الاستجابة الأكثر شيوعًا لدى الشركات تجاه الغموض السياسي الناتج من الرسوم الجمركية: الانتظار والترقب. تؤجل العديد من المؤسسات قرارات الاستثمار حتى تتضح الرؤية، ولا يبدد تعليق الرسوم الجمركية مدة 90 يومًا الغموض بل يفاقمه، ما يؤخر قرارات استراتيجية حاسمة.

أظهرت الأبحاث التأثير السلبي لحالة عدم اليقين على الاستثمارات، حتى في ظل تغيرات أقل اضطرابًا. عند انتخاب ترامب في 2016، ثم تمرير قانون خفض الضرائب في 2017، أكبر إصلاح ضريبي أمريكي منذ ثلاثة عقود، توقع كثيرون انخفاض الغموض وزيادة الاستثمارات.

لكن حدث العكس، إذ ازداد الغموض المتعلق بالسياسات الضريبية بعد الانتخابات، وظل مرتفعًا حتى بعد إقرار القانون.

أرجأت الشركات المحلية التي كان يُفترض أن تستفيد من تخفيض الضرائب استثماراتها، في حين اتجهت الشركات متعددة الجنسيات إلى تحويل جزء من استثماراتها إلى دول ذات مخاطر سياسية أقل.

الحذر يطغى على الطموحات الاستثمارية:

أحد الأهداف المعلنة للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب هو تشجيع الاستثمار داخل الولايات المتحدة. مع أن بعض الشركات أبدت استعدادًا لذلك، لكن إعادة توطين الإنتاج العالمي داخل أمريكا على نطاق واسع ليس خطوة سهلة ولا واقعية.

وفقًا للتجربة التاريخية، تميل الشركات إلى التريث والحذر في ظل التحولات السياسية الجذرية، بدلًا من اتخاذ خطوات توسعية جريئة.

اقرأ أيضُا:

كيف ستؤثر رئاسة ترامب في الأسواق؟

أسواق المال والفيدرالي الأمريكي: كيف سيؤثر عام 2025 في الاستثمار والتضخم؟

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: ميرڤت الضاهر

المصدر