كان سكان بولونيزيا بحارة مُتمرّسين، وقد أكدت دراسة في أبريل 2023 أنهم أبحروا غربًا أيضًا وعُرفوا باسم الاستثنائيين البولينيزيين، وتُشير أبحاث أنهم وصلوا إلى أمريكا قبل كولومبس بقرون.

أبحر سكان بولينيزيا دون بوصلة أو أي أدوات بحرية أخرى، ولكن بقراءة النجوم والأمواج والتيارات والسّحب ومجموعات الأعشاب البحرية والطيور البحرية، تمكّنوا من عبور مساحات شاسعة من المحيط الهادئ واستيطان مئات الجزر من هاواي في الشمال إلى جزيرة القيامة في الجنوب الشرقي إلى نيوزيلندا في الجنوب الغربي. وقد ازدادت الأدلة على أنهم وصلوا أيضًا إلى أمريكا الجنوبية، وربما إلى أمريكا الشمالية أيضًا قبل زمن طويل من وصول كريستوفر كولومبس.

تقول جنيفر خان بوصفها عالمة آثار في كلية وليام وماري والمتخصصة في بولينيزيا: «إنها إحدى أبرز الأحداث الاستعمارية في التاريخ … نحن نتحدث عن ملّاحين ماهرين جدًا اكتشفوا بعض أبعد الأماكن في العالم».

علم الأسلاف البولينيزي

استنادًا إلى البيانات اللغوية والوراثية والأثرية، يعتقد العلماء أنّ أسلاف البولينيزيين نشأوا في تايوان (وربما ساحل جنوب الصين القريب). ومن هناك، زعموا أنهم سافروا جنوبًا إلى الفلبين ثم إلى غينيا الجديدة وأرخبيل بسمارك، حيث اختلطوا مع السكان المحليين. وبحلول نحو عام 1300 قبل الميلاد، تطورت ثقافة جديدة، وهي لابيتا، والمعروفة جزئيًا بأوانيها الفخارية المتميزة.

انتقل هؤلاء المنحدرون مباشرة من سلالة البولينيزيين بسرعة شرقًا، أولًا إلى جزر سليمان ثم إلى فانواتو، وكاليدونيا الجديدة وفيجي وأماكن أخرى غير مأهولة. وبحسب پاتريك كيرش بوصفه بروفسور في علم الأنثروبولوجيا في جامعة هاواي في مانوا في أمريكا، ومؤلف كتاب (على طريق الرياح: تاريخ أثري لجزر المحيط الهادئ قبل الاتصال الأوروبي): «كان أهل لابيتا أول من وصل أوقيانوسيا … لقد كانت، برأي البشر، أرضًا بكرًا».

وبحلول القرن التاسع قبل الميلاد، وصل شعب لابيتا إلى تونغا وساموا، ولكن تلا ذلك تردُّد لفترة طويلة دون مزيد من التوسع. ويلاحظ الباحثون أن سلاسل الجزر بعيدة عن ساموا وتونغا، وتفصل بينها في بعض الحالات آلاف الكيلومترات في عرض المحيط، وأن الرياح والتيارات عمومًا تحول دون الإبحار شرقًا. وربما لم تكن قوارب لابيتا ببساطة قادرة على اجتياز مهمة الوصول إلى أمريكا. ويشير كيرش بالإضالفة إلى ذلك أن أقرب الجزر المرجانية لم تكن قد استقرت في ذلك الوقت: «ويُحتمل أن رحلة ما تكون قد مرت عبر ساموا، لكنهم لم يجدوا سوى شعاب مرجانية لا أرضًا حقيقية يستطيعون أن يستوطنوها».

دور الزوارق مزدوجة الهيكل في تسريع التوسع نحو أمريكا

خلال فترة التوقف الطويلة، نشأت ثقافة بولينيزية مميزة في تونغا وساموا، وتدريجيًا طوّر البحارة حِرفهم هناك. ومع الوقت، اخترعوا زوارقًا مزدوجة الهيكل، وخصوصًا الزوارق البدائية، وربطوها بحبال من ألياف جوز الهند ونسجوا الأشرعة من أوراق أشجار البندانوس.

واستطاعت هذه السفن التي وصل طولها إلى 18 مترًا تقريبًا أن تحمل عشرات المستوطنين في كل منها، بالإضافة إلى المواشي والخنازير والكلاب والدجاج والمحاصيل اللازمة للزراعة.

يقول كيرش: «لقد امتلكوا حينها القدرة التكنولوجية والقدرة الملاحية على الوصول إلى هناك حقًا».

ومع إن الجدول الزمني الدقيق للتوسع نحو أمريكا كان موضع خلاف منذ فترة طويلة، فيبدو أنّ الموجة الكبيرة من التوسع البولينيزي بدأت في فترة 900 أو 950 بعد الميلاد، وسرعان ما اكتشف البحارة جزر كوك وجزر سوسايتي (ومن ضمنها تاهيتي) وجزر ماركيساس، ولم يمضِ وقت طويل حتى وصلوا إلى جزر هاواي.

بحلول عام 1250 أو نحو ذلك، عندما وصلوا إلى نيوزيلندا، كانوا قد استكشفوا ما لا يقل عن 26 مليون كيلومتر مربع من المحيط الهادئ وحددوا أكثر من 1000 جزيرة.
توضح خان: «تكافئ مساحة المحيط الهادئ كل القارات تقريبًا، إنها مساحة كبيرة جدًا لاجتيازها».

وحتى الجزر الأصغر والأبعد، مثل بيتكيرن، كانت من ضمن اكتشافاتهم في الطريق إلى أمريكا. وكما يشير كيرش، لم يكن أي شخص آخر في العالم قادرًا عن بعد على تحقيق مثل هذا الإنجاز في ذلك الوقت. ويقول: «نحو عام 1000 بعد الميلاد، ماذا كان يفعل الأوروبيون؟ … ليس الكثير فيما يتعلق بطريق الإبحار». ويضيف أنه حتى أبرع البحارة الأوروبيين، مثل فاسكو دا غاما، بالكاد وصلوا إلى الساحل في أواخر القرن الـخامس عشر.

جزيرة القيامة بين العديد من المناطق المأهولة بسكان بولينيزيا

لم يكن لدى سكان بولينيزيا نظام كتابة لتسجيل إنجازاتهم، ولكنهم تناقلوا شفويًا القصص التي تروي مثلًا كيف جاء مستوطنو هاواي من تاهيتي، على بعد أكثر من 4 آلاف كيلومتر.

يقول ماركيز هانالي مرزان المُستشار الثقافي في متحف الأسقف في هونولولو في أمريكا: «بحسب مفهوم هاواي، حيثما تشرق الشمس، هو مكان تقيم فيه الآلهة وتقيم فيه أسلافنا». فإنّ الوصول إلى ذلك المكان هو على الأرجح أحد أسباب استمرار الهجرة إلى الشرق.

وقد طُوَّرت كل سلسلة من الجزر خصائصها الفريدة، فقد بنى السكان في جزيرة القيامة مثلًا تماثيل حجرية عملاقة. لكن خان توضح أنّ جميع البولينيزيين كانوا يتحدثون لغات ذات صلة ويعبدون آلهة متشابهة ويبنون مواقع شعائرية ذات سمات مشتركة. وحافظت الجزُر المختلفة أيضًا على بعض الروابط مع بعضها على الأقل، سيما خلال ذروة التوسع البولينيزي. يقول مرزان: «ليس الأمر أنهم أتوا من مكان وغادروا ولم يعودوا أبدًا بل واصلوا تلك العلاقات».

أدلة وصول البحارة البولينيزيين إلى أمريكا

يعتقد معظم الخبراء الآن أنّ البولينيزيين عبروا المحيط الهادئ بأكمله إلى البر الرئيسي لأمريكا الجنوبية، وقال مارزان أنّ ذلك حدث دون شك. وعلى نحو مماثل، أخبر پيتر ڤيتوسك عالِم الأحياء في جامعة ستانفورد مجلة التاريخ: «نحن متأكدون تمامًا»، واضعًا احتمال بلوغ اليابسة في أمريكا الجنوبية في حدود 99.9999%.

مثلًا، يذكر الخبراء أنّ جزيرة القيامة (المعروفة أيضًا براپا نُوي) تقع على بعد 3540 كيلومتر فقط من ساحل أمريكا الجنوبية، وأنّ البحارة البولينيزيين القادرين على تحديد موقع بقعة صخرية في المحيط الهادئ الشاسع لا يمكن أن يفوِّتوا قارة عملاقة. تقول خان: «ما الذي كان ليوقفهم؟ … كانوا سيواصلون السير حتى لا يجدوا أي شيء».

وتدعم الأدلة الوراثية هذا الادعاء، إذ وجدت دراسة عام 2020 أنّ البولينيزيين من جزر متعددة يحملون كمية صغيرة من الحمض النووي من سكان أمريكا الجنوبية الأصليين، وأنّ لحظة الاتصال ربما جاءت قبل نحو 800 سنة (ليس بعد فترة طويلة من وصول الفايكنغ، أفضل البحارة الأوروبيين في عصرهم، إلى اليابسة على الساحل الأطلسي لأمريكا).

وقد وجد علماء الآثار أيضًا بقايا القرع والبطاطا الحلوة، وكلاهما من نباتات أمريكا الجنوبية، في مواقع بولينيزية قبل كولومبوس. يُخمّن بعض العلماء أنّ البطاطا الحلوة كانت قد تنتشر طبيعيًا في جميع أنحاء المحيط الهادئ، لكنّ معظمهم يوافقون على أنّه لابد أن البولينيزيين أعادوها معهم. يقول كيرش: «حاول أن تأخذ درنة بطاطا حلوة وأجعلها تطفو … أضمن لك أنها لن تطفو طويلًا، ستغرق إلى قاع المحيط».

تُظهِر عظام الدواجن في تشيلي أنّ البولينيزيين أدخلوا الدجاج إلى أمريكا الجنوبية قبل وصول كولومبوس، مع إن بعض العلماء قد شكّكوا في هذه النتائج. وفي الوقت نفسه، حلل باحثون آخرون الجماجم في جزيرة شيلية فوجدوا أنها «بولينيزية جدًا من حيث الشكل والهيئة».

وقليلة هي الأدلة التي تربط البولينيزيين بأمريكا الشمالية، لكن بعض الخبراء يعتقدون أنها رست هناك أيضًا، مشيرين إلى أنّ الزوارق المصنوعة من الألواح المخيطة التي كانت تستخدمها قبيلة تشوماش في جنوب كاليفورنيا تشبه السفن البولينيزية.

ماذا حدث للبولينيزيين في أمريكا؟

لم تُكتشف أي مستوطنة بولينيزية في أمريكا، ولذلك ما يزال من غير الواضح ما حدث عند الوصول، سيما وأن هذه الكتل اليابسة كانت مأهولة بالفعل خلافًا لجزر المحيط الهادئ، تقول خان: «نهضوا وغادروا وعادوا».

عندما استكشف الكابتن جيمس كوك المحيط الهادئ في أواخر 1760 و 1770 التي استهلت موجة الإمبريالية الغربية، اعترف بمهارات الإبحار المثالية للبولينيزيين وكتب: «إنّه لأمر رائع أن تنشر الأمة نفسها في كلّ الجزر في هذا المحيط الشاسع، من نيوزيلندا إلى [جزيرة القيامة]، التي هي تقريبًا الجزء الرابع من محيط الكرة الأرضية».

ولكن في نهاية المطاف، عندما استعمروا الجزر في أمريكا وغيرها وقمعوا اللغات والثقافات الأصلية، بدأت القوى الغربية تقلل من شأن الإنجازات البولينيزية، وفقًا لمارزان، الذي يقول أنهم افترضوا «أنّ سكان المحيط الهادئ كانوا أقل من ذلك».

فمثلًا، ادّعى البعض زورًا أن البحارة البولينيزيين انجرفوا مع الرياح والتيارات. وفي وقت الاتصال الأوروبي لم يستخدم سكان جزر المحيط الهادئ الزوارق الكبيرة التي تجوب المحيطات، فالبعض كالذين في جزيرة القيامة، كانوا قد قطعوا كل الأشجار الطويلة اللازمة لإنتاجها.

الأسوأ من ذلك أنّ الأمراض الأوروبية أهلكت السكان البولينيزيين، يقول كيرش: «كانت هذه خسارة فادحة ومدمِّرة … وعندما يحصل ذلك، فإن المجتمع يتداعى».

ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأ معظم البولينيزيين الباقين بالإبحار بالتقنيات الغربية المأخوذة من أمريكا. ولكن في الآونة الأخيرة، أُعيد إحياء التقاليد القديمة، بدءًا من عام 1976 تقريبًا، عندما أبحرت جمعية الرحلات البولينيزية من هاواي إلى تاهيتي دون آلات. وقد شرعت منذ ذلك الحين كثير من البعثات الأخرى، ومنها رحلة في جميع أنحاء العالم من 2013 إلى 2017. يقول مارزان: «ألهمت جمعية الرحلات البولينيزية حضارات كثيرة في المحيط الهادئ أن تعاود الاتصال بممارساتها التقليدية». ومرة أخرى، تجوب المحيطات زوارق مزدوجة الهيكل.

اقرأ أيضًا:

من اكتشف أمريكا؟ ومتى تم اكتشاف أمريكا

أميرجو فيسبوشي: سيرة ذاتية، حقائق وتسمية أمريكا

ترجمة: حنان الميهوب

تدقيق: لين الشيخ عبيد

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر